د. لقاء مكي
حلم الدولة أو ربما وهمها، كان أبرز ما يميز جدلا مازال مستمرا حول الكرد أو في داخل أوساطهم بعد أن تمكنوا خلال العقد الأخير على الأقل من وضع قضيتهم المضنية الطويلة على طاولة العالم، أصبح للكرد دور وقرار في تقرير شأن المنطقة من بوابة العراق، لكنهم اكتفوا رغم ذلك بالوقوف على أعتاب أمل الدولة مكتفين بالوعود والهواجس والأماني القريبة أو ربما المستحيلة.
$الحلم الطويل$
لم يعرف الكرد عبر تاريخهم الطويل دولة مستقلة تجمعهم، وظلوا منذ سقوط الدولة المدينية قبل نحو 3000 سنة جزءا من أمم أخرى أو في أحسن الأحوال إمارات متناثرة في إطار دول أكبر سادت المنطقة مثل الدولة العربية الإسلامية أو الدولة العثمانية، لكن المهم أن هذا الأمر لم يكن عنصرا شاغلا للوعي الكردي أو الهاجس الشعبي، إنه لم يكن مطروحا بالأساس كضرورة أو حتى رغبة فرعية لأن مفهوم الدولة الحديثة لم يكن قد ظهر أو وصلت أفكاره المنطقة حتى نهايات القرن التاسع عشر.
لم يعرف الكرد عبر تاريخهم دولة مستقلة وموحدة تجمعهم، لاسيما بعد أن ضاعت منهم اللحظة التاريخية الأنسب لتأسيس هذه الدولة في عشرينيات القرن الماضي
في ذلك الوقت بدأ العرب يبحثون عن دولة وظهرت بواكير الفكر القومي العربي قبل أن تتحول إلى أحزاب وتيارات وثورات وتحالفات، وكذلك الأمر في تركيا من خلال جمعية الاتحاد والترقي، لكن الجار الكردي المنتشر بين القطبين العرقيين لم يكن متنبها بشكل مؤثر لما يجري، كان لدى بعض مثقفيه هواجس وأفكار لكن قياداته الفاعلة كانت ما تزال آنذاك محشورة تحت سقف الإقطاعية الضيق ومعها شعب فرقت بين أبنائه الجغرافيا القاسية حتى ساد بين الكرد افتقاد للإحساس باللحظة التاريخية، لحظة انهيار عالم وتشكيل عالم جديد، لحظة تحول العالم من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمالية ولحظة تصدع الإمبراطوريات التقليدية وبدء عصر الدولة الحديثة.
وهكذا وبدلا من أن يجتهد زعيم كردي مثل الشيخ محمود الحفيد لتوحيد الشعب الكردي في إطار دولة مستفيدا من مشاعر سادت عقب الحرب العالمية الأولى تعترف بحق الكرد بدولة، بدلا من ذلك اهتم بتأسيس مملكته الخاصة في السليمانية، وهي المملكة التي لم تدم بعد أن اصطدمت بواقع التقسيم السياسي ومصالح البريطانيين وعدم تنبه الشيخ الحفيد إلى أن العصر الجديد كان بحاجة إلى رؤية جديدة وسلوك جديد، فكان أن حصل الأتراك على دولتهم وحصل العرب على مجموعة دول، فيما ظل الكرد بلا كيان سياسي مستقل بل وتوزعوا بين ثلاث من الدول الجديدة إلى جانب وجودهم السابق في إيران.
$ضياع الفرصة$
عموما ومن غير استغراق في التاريخ يكفي أن نقول إن أخطاء الكرد أنفسهم بما في ذلك صراعاتهم الداخلية المستمرة القائمة على أساس قبلي وإقطاعي والسماح للآخرين باستغلالهم لم يكن ذلك أقل أثرا من مواقف الآخرين لا سيما تركيا الكمالية ولا من سطوة الطبيعة الممزقة لهم في تفويت فرصة الدولة الكردية خلال لحظة تاريخية نادرة تلت الحرب العالمية الأولى وإبرام معاهدة سيفر عام 1920، صحيح أن الكرد بذلوا بعض الجهد من خلال محاولات دبلوماسي كردي هو شريف باشا الذي أجرى اتصالات بالدول المنتصرة وحضر مؤتمر الصلح في باريس، لكن هذه الجهود لم تكن كافية إذ وضع الكرد بيضهم في سلة بريطانيا التي خانتهم ومالت بعد ذلك إلى صف كمال أتاتورك وتناست كل وعودها في معاهدة لوزان عام 1923.
هذا الوضع أسس لما بعده، حيث كان تقسيم الكرد بين أربع دول قد أنتج وضعا إقليميا سرعان ما تحول بعد جيل أو جيلين إلى نمط سياسي وجغرافي غير قابل للتغير، ولم تعد المخيلة الشعبية أو السياسية في هذه الدول وحتى على الصعيد الدولي قادرة على استيعاب فكرة دولة كردية تقود إلى إعادة رسم المنطقة وتغيير حدود دولها بعد اقتطاع أجزاء من أراضيها وهو ما ظل مرفوضا إقليميا ودوليا.
من جانبهم أصبح الكرد أكثر واقعية، فتركوا الإلحاح على موضوع الدولة واكتفوا بمطالب الحقوق الثقافية والسياسية والحكم الذاتي، بل وتراجعت أحلامهم إلى مجرد المطالبة بالاعتراف بوجودهم كما في تركيا أو تصاعدت إلى مستوى الحق في تقرير المصير كما في العراق عقب الاحتلال، لكن المطالبة بدولة كبرى تضمهم جميعا ظل أملا داخليا لم يطرحوه رسميا منذ فقدوا فرصة الدولة في عشرينيات القرن الماضي.
$معوقات الدولة$
لا تؤسس الدول على أساس الأحلام فقط حتى لو كانت هذه بدايات كل المشروعات الكبيرة في التاريخ، وفيما يتعلق بالدولة الكردية المنشودة، فإن الكرد مازالوا يحلمون، وكثير من المثقفين وطبقة الشباب لا يرون خلاصهم بأي حل غير دولة مستقلة تجمع كل الكرد في المنطقة وتحديدا في الدول الأربع، لكن الواقع على الأرض يعترض هذا الحلم بجملة مصاعب حقيقية بعضها يرتبط بالطبيعة والجغرافيا والبعض الآخر يتعلق بالظروف الإقليمية والدولية والحقائق الجيوسياسية التي لا يمكن تخطيها.
هناك أولا مشكلة التضاريس الصعبة، فأرض الكرد أو كردستان هي عبارة عن سلاسل مستمرة من الجبال والمرتفعات التي تبلغ أحيانا حدا شديدا من التعقيد، هذه التضاريس كانت هيأت الظرف لحماية واستمرار العمل الكردي المسلح عقودا طويلة، وحفظت لمئات السنين تراث الكرد وثقافتهم، لكنها في الوقت نفسه وعلى امتداد الأزمان مثلت عنصر إعاقة جوهريا أمام بناء دولة كردية موحدة، بل وحتى توحيد الكرد ومنع تشرذمهم إلى تجمعات متباعدة ومنعزلة من الصعب أن تتفق فكريا وثقافيا وسياسيا.
لقد تسببت التضاريس المعقدة في تقسيم كردستان عمليا قبل تقسيمها سياسيا، وهذه التضاريس كانت أحد عوامل تحديد طبيعة العلاقة بين الكرد أنفسهم، فالعلاقة بين كرد العراق مثلا لا سيما في السليمانية هي أكثر وضوحا وتواصلا مع كرد إيران من العلاقة مع كرد تركيا التي تفصلها عن العراق تضاريس معقدة.
وهناك ثانيا الخلافات الكردية- الكردية أو صعوبة التنسيق في أحسن الأحوال، إذ مازال كرد كل دولة في المنطقة متميزين عن الآخرين من بني جنسهم في رؤاهم السياسية وأساليب عملهم بين عسكرية وسياسية وكذلك في تحالفاتهم الخارجية لا سيما الإقليمية أو مع الولايات المتحدة.
إن كرد تركيا مثلا ينشطون من خلال حزب العمال الكردستاني يساري التوجه الذي عاد للعمل المسلح بعد سنين من اعتقال قائده عبد الله أوجلان، وهذا الأخير كان يعتبر قيادات كرد العراق مجرد زعامات إقطاعية مصيرها الهزيمة، ولذلك لم يجد كرد تركيا ملاذا لدى أشقائهم في العراق، فظلوا في منطقة الشريط الحدودي المعقدة والعصية على كل خصومهم.
وهناك ثالثا الموانع الإقليمية الرافضة لأي توجه كردي نحو الاستقلال حتى لو كان جزئيا، وتقف تركيا في مقدمة هذا المنهج، ورغم أن معظم الكرد يتمركزون في هذه الدولة (حوالي 16 مليونا)، فإن الدستور التركي يرفض الاعتراف حتى بوجود الكرد ويسميهم (أتراك الجبل)، والسلطات التركية لم تسمح إلا مؤخرا باستخدام اللغة الكردية بشكل علني إلى جانب السماح ببعض الأنشطة الخاصة بالكرد، التي تقتصر على نيل جزء من حقوقهم الثقافية والقومية، ويقترب الأمر من ذلك في سوريا، وبشكل ما في إيران، ولذلك فإن هذه الدول ترفض بإصرار أن تتشكل دولة كردية في العراق مثلا وهي يمكن أن تمارس عليها حصارا خانقا، بل إن أيا منها –لا سيما تركيا- يمكن أن تقوم بعمل عسكري ضد كرد العراق إذا ما حصل ذلك، علما بأن كردستان العراقية هي وحدها المؤهلة اليوم للحصول على مكاسب تتعلق بالحكم الذاتي والفدرالية أو بحق تقرير المصير.
ضعف الاقتصاد يمثل البعد الرابع، ذلك أن دولة كردية في جزء من كردستان الكبرى ولتكن في العراق مثلا لن تكون قادرة على الحياة حتى لو لم تواجه موانع إقليمية أو دولية، فاقتصاد مثل هذه الدولة سيكون ضعيفا بسبب قلة الموارد الطبيعية والجو الإقليمي المعادي الذي يمكن أن يقبل بنشوئها لكنه لن يسمح لها على الارجح بالتنفس خوفا من انتشار عدواها إلى الكرد في الدول المجاورة، وحتى مع النفط الذي يمكن أن يكون موجودا في شمال العراق، بل حتى إذا ما سيطر الكرد على كركوك فإن دولة كردية مستقلة لا منفذ لها على البحر لن تتمكن من بيعه أو تصديره اذا ما رفضت دول الجوار التعاون معها للتواصل مع العالم، ناهيك طبعا عن توافر أساليب اخرى للحصار تجعل من هذه الدولة معتمدة بالكامل على المعونات الدولية في حال وجودها أصلا.
ويبقى المعوق الدولي الذي ما زال يصر على رفض أي إعادة لرسم خريطة المنطقة والسماح بتأسيس دولة كردية تنسف الواقع الجغرافي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إن الأمر هنا يتعلق بالقانون الدولي بقدر ما يتعلق بالمصالح الدولية لا سيما مصالح الدول الكبرى، إذ إنه فضلا عن أن المنطقة حساسة أكثر مما يجب لإثارة اضطرابات شديدة تصاحب تأسيس دولة كردية، فإن إرادات مختلفة ينبغي أن تتفق قبل الشروع بذلك حتى لو سلمنا بأن الإرادة الأميركية ستكون حاسمة هنا.
وفي كل الأحوال لا يمكن القفز على أي من هذه العقبات لصالح أخرى فهي كل مترابط وسيكون على الكرد عمل الكثير لتجاوزها، وربما لا يكون هذا الأمر ممكنا في حياة جيلنا الحالي على الأقل.
رؤية بديلة
رغم كل العوائق التي تمنع قيام دولة كردية، وهي جميعا عوائق جدية وحقيقية ومتداخلة، هل يمكن تصور الأمر من زاوية مختلفة، أكثر خيالا وتحررا من تفاصيل الواقع الإقليمي والدولي الراهن؟
رغم كل العوائق فإن تاسيس دولة كردية تبدأ بالعراق وتمتد لتشمل بقية الدول الأخرى لن يبقى مجرد وهم أو حلم إذا ما اتفقت عليه مصالح وإرادات القوى الكبرى واجتهد له الكرد مستفيدين من أخطاء الماضي
وبغية تحديد أوضح للفكرة نعود إلى تقرير جرى تداوله بين أعضاء الكونغرس الأميركي في أغسطس/ آب 2005 ويتعلق بشكل محدد بخطة مستقبلية لقيام ما وصفه التقرير دولة كردستان.*
يقول التقرير الذي أعده مركز للدراسات في واشنطن إن أميركا يمكن أن تشجع قيام دولة مستقلة للكرد في العراق تمهيدا لقيام كردستان الكبرى، ويمضي التقرير في سرد التحولات الإستراتيجية التي ستتحقق في المنطقة في حال تشجيع واشنطن قيام دولة كردستان في العراق، ومنها ضمان وجود دولة صديقة وحليفة للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وتطوير واستثمار مشاعر الملايين من الكرد، المتعاطفة مع الولايات المتحدة في منطقة إستراتيجية، لا سيما أن الولايات المتحدة تواجه خزينا من الكراهية المتنامية عند الشعوب العربية.
ويمضي التقرير إلى أن تشكيل الدولة الكردية المقترحة التي ستتوسع مستقبلا لتضم مناطق الكرد في إيران وتركيا وسوريا يهدف أيضا إلى إيجاد حليف إستراتيجي لدولة إسرائيل يمكن أن يشكل لها عمقا سياسيا وعسكريا واقتصاديا وسوقا رائجا لبضائعها، فالكرد -حسب التقرير- لا يتحسسون من أي انفتاح مع إسرائيل، بفعل تاريخ قديم من العلاقات ومن الدعم السياسي والعسكري للكرد منذ عهد الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، إلى جانب تشكيل قوة إستراتيجية عسكرية واقتصادية لها القدرة على إيجاد توازن إقليمي حقيقي مع إيران والدول العربية، وأيضا مع العراق أو ما يتبقى منه في حال أفرزت الديمقراطية فيه تيارا سياسيا متطرفا.
ويسهب التقرير في سرد الضرورات الإستراتيجية لقيام دولة مستقلة للكرد في العراق، ويورد خاصة دورها في ما يسمى بمكافحة الإرهاب لا سيما بعد أن تتوسع لتصبح كردستان الكبرى ذات ال40 مليون نسمة وعلى رقعة كبيرة من الأرض قد تصل إلى نصف مليون كيلومتر مربع.
لم لا؟
هذا التقرير الذي خرج من أحد مراكز البحوث الأميركية لا يبدو واقعيا بالطبع في الوقت الراهن، لكن الكثير من تبريراته للدولة الكردية المقترحة تبدو منطقية ومقبولة بل ومطلوبة بحسابات البراغماتية الأميركية، لا سيما أن تركيا التي ما زالت أهم أسباب الرفض الأميركي الرسمي لدولة كردية لن تعود في المستقبل حليفا لا يمكن الاستغناء عنه أميركيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير الأوضاع الدولية والإقليمية لا سيما في أواسط آسيا وإثر انضمامها للاتحاد الأوروبي وأيضا مع التحولات لصالح الإسلام الاجتماعي والسياسي فيها.
ولأن الإستراتيجيات الأميركية غالبا ما تبدأ من مجرد أفكار تصدر من مراكز البحوث، فلم لا يكون هذا التصور الأميركي غير الرسمي بداية لمشروع قد يأخذ بعض الوقت لكنه ينتهي بما يبدو الآن مستحيلا؟، ولماذا نعتمد على الواقع الجيوسياسي الراهن في المنطقة معيارا لتقويم الرؤية للمستقبل؟ أو لم يكن هذا الواقع مختلفا تماما قبل قرن مضى، حتى رتبته الظروف والمصالح الدولية بالشكل الذي نعرفه اليوم؟ فلماذا لا نتخيل إذن واقعا إقليميا جديدا تكون دولة كردية كبرى إحدى ركائزه الأساسية إذا ما اقتضته مصالح القوى الكبرى، وعمل باتجاهه الكرد بشكل وأسلوب وخبرة تتجاوز خطايا وأخطاء الماضي؟ ألن يصبح حينها الحلم الكردي القديم بدولة واقعا في متناول اليد بعد أن ظل لقرون مجرد وهم مستحيل.
_______________
قسم البحوث والدراسات الجزيرة نت
المصادر
أرشيف الجزيرة نت
* http://www.voltairenet.org/article91335.html#article91335
[1]