#صباح كنجي#
وفاءً لتلكَ الأيام بتفاصيلها الدقيقة كما اختزنتها ذاكرتي، سأسطرُ ما يمكن أن يكون شهادة ميدانية من مواقع الحدث، كما عشتها لحظة بلحظة مع من تردُ أسماؤهم وليعذرني من لا أتذكرهُ فالحدث كانَ اكبر مِمَا احتوته ذاكرتي من معلومات وتبقى حدود المشاركة الفردية قاصرة عندما تتحركُ الجماهير حتى لمن يقودها...
هكذا سأروي ما يمكن أن تسعفني به الذاكرة نتفاً من حكايات انتفاضة عام 1991 في أعقاب غزو الجيش العراقي للكويت في العهد الدكتاتوري المقبور .
البداية والتهيئة في أجواء وتفاعلات غزو الكويت كانت من لقاء اجتمع شمله للأنصار الشيوعيين التابعين لمحلية نينوى ودهوك منتصف شباط 1991في القامشلي. ذلك الاجتماع الذي حضره رحيم الشيخ- حيدر الفيلي سكرتير المحلية وحميد البياتي مشرفاً وممثلا للمكتب السياسي والفقيد الراحل توما توماس.. كان من بين ما طرح في اللقاء على لسان حميد البياتي والآخرين المنوه عنهم:
أن الحزب فقدَ في هذه الأجواء المعقدة أية صلة مع الداخل، لا توجد أية قناة تنظيمية حالياً يمكن الاتصال بها للحصول على معلومات دقيقة عمّا يجري من تطورات فعلية في المجتمع من جراء عواقب الغزو.. كانت الحيرة تلاحق الجميع من جراء هذا النقص في الحصول على ما يمكن أن يساعد على فهم واستيعاب ما يجري من أحداث متسارعة..
كنا قبل هذا اللقاء بأسبوع أو عشرة أيام في ابعد تحديد، قد حصلنا من ربيئة للجيش العراقي في الحدود بين سنجار والحسكة، على نماذج وعينات لصمون عراقي يوزع على الجنود، تمكن من الوصول إليهم الفقيد أبو حربي أثناء وجود وفد إعلامي من الحزب في القامشلي لغرض المتابعة الميدانية للتطورات، كانت عبارة عن كتل كروية سوداء صعب كسرها بالمطرقة، أرسلنا نموذجاً منها إلى مختبرات دمشق لتحليل مكوناتها فتبين أنها خالية من أية نسبة للقمح!.. مكوناتها كانت حسب التحليل المختبري.. نشارة خشب.. رمل وأتربة.. ومسحوق نواة التمر والقليل من الشعير.. جربتُ بنفسي تقديم قطعة منها إلى كلب جائع في القامشلي تفاجأت بسلوك الحيوان.. بعد أن شمّها تركها وعافها.. من المؤكد انه لم يدرك محتوياتها ولم يتمكن من تصنيفها ضمن ما يمكن اعتباره وإدراجه تحت أي صنف من أصناف الطعام وفق مقاييس ذلك الحيوان الجائع..
كان هذا للأسف غذاء الجنود في تلك الأيام من عهد الدكتاتور وهو يسوق ويدفعُ قواته للغزو ويطالبهم بالصمود في مواقعهم لمحاربة ومواجهة القوات التي تجمعت لطرده من الكويت بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية..
من المؤكد أن البعض من مقاتليه في الخطوط الأمامية وخنادق المواجهة لم يكن بالإمكان إيصال حتى هذا النموذج من الغذاء اللاانساني لهم، ومات الكثير منهم جياع بعد أن سحقتهم المجنزرات الأمريكية الزاحفة وهي تتخطى خنادقهم لتدفنهم فيها بتلك الطريقة التي صورتها عدسات شبكات الأعلام المرافقة لتقدم الجيوش التي نقلتها شبكات التلفاز العالمية عبر أكثر من قناة في حينها.
أقول هذا وما زال الشكل الكروي الأسود لتلك الصمونات ماثل أمامي كما هي ماثلة ومحفورة في ذهني صورة ذلك الكلب الذي رفض تناول تلك الصمونة التي قدمتها له.. أذكر هذا لكي يدرك البعض أن ما سيأتي في الأسطر التالية سيكون اللغز الذي ما زال يُحيرني ويدفعني للتساؤل، عن سِرّ هذا السلوك وأرجو ممن لديه القدرة على فك طلاسم الشخصيات المستبدة، أن يوضح للقراء ما يمكن أن يوضحه في هذا الشأن العجيب، رغم قناعتي أن بعض الألغاز لا يمكن فك شفرتها حتى من لدن أولئك الطغاة المصابين بجنون العظمة المحتقرين للبشر، لأن جوهر هذا السلوك العدواني يمتد في الأساس لنظرة الحقد والرؤية الدونية لكل ما يحيط بهم، وفي المقدمة من ذلك الناس.. كل الناس حتى وان كانوا جنوداً من جنود الطاغية، فهم في النتيجة ليسوا إلا محتقرين يجب إذلالهم والتخلص منهم، لا يهم ما يقدم لهم من طعام طالما كانوا في نظر هؤلاء المستبدين مجرد وقود لديمومة الحرب..
أعود لأجواء اجتماع القامشلي وما تلاهُ من لقاءٍ لي بحيدر مساء ذلك اليوم إذ لم يتوقع أن أبادر لطرح فكرة عودتي للداخل ودخول العراق عبر طرق الأنصار السابقة من كردستان مع مجموعة صغيرة لكي نفتح ثغرة وباباً للاتصال بالداخل ومعرفة ما يدور هناك من تطورات..
لقد تفاجأ بالمقترح وكانت الخطوات اللاحقة اختيار المجموعة والاحتياجات وتشخيص من يتحمل الصعوبات والجوع ولديه المعرفة بالطرق وتهيئة بقية مستلزمات الرحلة.. طلبتُ فيما طلبت مراعاة شيئين..
أن يجري استشارتي بكل من يكلف بالذهاب معي قبل مفاتحته وشراء جهاز راديو صغير كي اضمن متابعة الأخبار.. تمّ التهيؤ للانطلاق نحو العراق في الأسبوع الأول من آذار.. اعددنا كل شئ باستثناء جهاز الراديو الصغير الذي ماطل الربع في شراءه، أما ملابس البيشمركة الكردية/ فقد ساعدنا الصديق الخياط محمد من القامشلي في انجازها، بعد أن أخذت له نموذجاً من شروال كردي..
هكذا كانت المجموعة جاهزة للانطلاق يوم 8 آذار لكن قراراً ما اتخذ بالتأخير وتأجيل الانطلاق ليوم آخر.. لكن التطورات كانت أسرع وتقرر أن يجري جس نبض حدك ومدى استعدادهم للمشاركة في هكذا مهمة لتصبح مشتركة.. وفي 11 آذار انطلقنا نحو معبر الفيشخابور.. كانت الأمطار الغزيرة قد حولت طريق الحدود إلى برك طينية صعب على سيارة الزيل العسكرية تجاوزها..
في الليل الذي قضيناه في ضيافة الاسر الآشورية السورية المواجهة لمعبر الفيشخابور طلب منا الحذر وعدم التحرك كي لا ننكشف من قبل رصد الجيش العراقي المرابض في الجهة الثانية من ضفة النهر.. في اليوم التالي مع الصباح 12-03-1991 لاحظنا وجود حركة غير طبيعية في الجانب العراقي.. طائرات الهليكوبتر تجوب سماء المنطقة وتقصف المواقع المواجهة لنا من علو وفي تلة نائية بعيدة اكتشفنا علماً للثوار يرفرف جلب انتباه مجموعة المخابرات السورية في النقطة الحدودية فتعكر مزاجهم.. بعد ساعات قبيل منتصف النهار قررنا العبور لاستجلاء الموقف.. تطوع سعيد دوغات لمرافقتي ونبهنا ابو سربست وحيدر بضرورة التيقظ والحذر.. كانت مغامرتنا تبدأ من لحظة ركوبنا للبلم الصغير مع المواطن السوري يوسف الذي كلف بنقلنا للطرف الثاني.. قبل وصولنا الجرف تهيأنا لأسوء الإحتمالات.. كانت المجموعة المسلحة التي تتقدم نحونا بحدود عشرة مسلحين لا نعرف هويتهم.. هل هم من جنود الجيش النظامي والقوات العسكرية الرسمية للسلطة؟.. ام جحوش كرد يخدمون نظام الاستبداد البعثي؟.. المسافة بيننا لا تتعدى المائة متر.. ناديت عليهم ان يتوقفوا.. ويعلنوا عن هويتهم.. وطلبت ان يتقدم مسؤولهم فقط لوحده كي نتفاهم.. محذراً في حالة عدم استجابتهم سأطلق النار.. وأوضحت إننا من أنصار الحزب الشيوعي العراقي.. توقفوا.. صاح احدهم: أنا عبدالله صالح..
انذهلتُ من الصدمة.. صدمة الموقف الصعب.. وفي لحظات حرجة استجمعت ما في ذاكرتي عن الرجل الذي لم التقيه.. لكن خزين معلوماتي المتناقض عنه اوقعني في حيرة.. عبدالله صالح القيادي في حزب الشعب الذي اصطدم مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني في مطلع الثمانينات وبعد ان خسر المعركة غادر ساحة النضال وسلم نفسه للسلطات العراقية وشن الديمقراطي الكردستاني عليه حملة تشهير فاضحة في بيانات متلاحقة اتهمته بالعمالة والتعامل مع المخابرات العراقية.. وقد اختار طريقه وغادر في يومها ساحة النضال بعد ان سلم نفسه للسلطة.. هاهو في هذه اللحظات الحرجة يواجهني في موقع للجيش تحوم فوقه الهليكوبترات.. لا مجال فيه للانتضار والتدقيق والامر يتطلب الحسم.. فخطر المواجهة والموت قائم لا محالة..
قلت مستفسراً بلا تردد.. أيّ عبدالله؟!!.. البيشمركة والثائر؟.. أم الأستخبارات والجحش؟!!!.. كانت اقسى الثواني تمر تأهبت فيها للمواجهة وانطبقت علي تلك المقولة التاريخية بالفعل في هذا الموقع المتشابك.. العدو امامك والبحر وراءك.. كان الخابور في حينها بحراً حقيقياً يفصلني عن بقية رفاقي الأنصار في هذه اللحظات العصيبة التي لا مجال فيها أبداً للتردد والتهاون.. وسمعت صوته يجيبني.. نحن جحوش انظمينا للانتفاضة.. تجاوزت حالة التوتر استعداداً لمواجهته وحده بحذر شديد.. اقترب كنت اشهر سلاحي في وجهه.. قال نحن مع الانتفاضة..
أشرت لسعيد ليقترب وهكذا جاء من مع عبدالله صالح ايضاً.. طلب مني ان اساعده في ارسال رسالة الى سامي سنجاري، قدمت له ورقة وقلم وكتب بسرعة رسالة لسامي.. أخذتها وارفقتها مع رسالة صغيرة وتوصية لتسليمها لسيبان ممثل حزب الشعب في القامشلي، وطلبت من بقية الانصار التوجه الينا ناقلا لهم مختصر الأخبار الي سمعتها من عبدالله صالح..
اليوم صباحاً بدأت الآنتفاضة في زاخو.. الجيش هرب وغادر المعسكر.. بقيت ربايا تقاوم وتقصف بالمدفعية.. مقر الفرقة بلا جنود.. الطريق الى زاخو مفتوحة مع وجود خطورة.. وفي هذه الاثناء كانت إحدى الهيليكوبترات تواصل قصفها.. افترقنا على أمل ان يساعدنا عبدالله صالح، بعد ان تعهد لي عن استعداده لتقديم أي شئ نريده وقال: سوف ارسل سيارات لنقلكم.. لكنه ذهب وفارقنا ولم نلتقي به لليوم..
في حوض الخابور كانت الألغام المزروعة بين الأحراش تشكل عائقاً امام تحركنا العشوائي، مشينا على الطريق المبلط فقط مجبرين مما زاد من احتمالات تعرضنا لخطر الطيران.. تقدمنا في الطريق صعوداً نحو آثار لبيوت خربة في اعلى التلة المطلة على ضفة النهر المواجهة لموقع مقر سرية الجيش العراقي، التي أخذت تطلق قذائف مدفعها نحونا مما اضطرنا للاحتماء خلف الجدران الهرمة لبقايا البيوت المهدمة.. بعد نصف ساعة قررنا ان نسير بسرعة ونترك مسافات بعيدة بيننا.. تحركنا نجتاز الشارع نحو زاخو.. لا ندرك ما سيواجهنا.. شيئاً فشيئاً ابتعدنا عن مدى وخطورة مدفع الربيئة الذي واصل قصفنا مع تحليق هيليكوبترات الجيش فوقنا منذ اللحظات الأولى لتواجدنا في الأراضي العراقية مع اندلاع شرارة الانتفاضة..
بعد مسافة واجهنا عارض مسلح لمجموعة منتفضين استقبلونا باطلاق العيارات النارية والترحيب بنا كأول مفرزة للانصار تلتحم بالإنتفاضة.. الطريق الى زاخو مليئة بأكداس من صناديق العتاد والقنابل وصواريخ القاقذات والقنابل اليدوية.. لا اذكر كيف ومن التقط لنا صور مع تلك المجموعة المسلحة، ما زلت احتفظ بها.. صور توثق الحدث لأول مجموعة من الشيوعيين مع المنتفضين قبل دخولنا زاخو..[1]