عبد الباقي يوسف
حكاية مدهشة لرجلٍ مدهشٍ، يتمتَّع بعذوبة العفاف. والحقيقة، فهو ليس شخصاً نادراً، لا أقول في التراث الكوردي فحسب، بل يمكنك أن تجد (زمبيل فروش) في أيّ حقبةٍ زمنية عند المجتمع الكوردي. فهو رجلٌ شديد الخجل، وشديد الحياء، ومتديِّن؛ بكل صفاء ونقاء وعذوبة وصدق التديّن.
إنه مثالٌ جميل وحيّ لسيكولوجية شخصيّة الإنسان الكوردي النقي، الذي لا يمكن له أن يتنازل عن عفافه. وهنا مع (زمبيل فروش)، نكون مع اختبارٍ حقيقيٍ لهذه الخصلة في هذا الإنسان، ونتابع حكايته بدهشة تلو دهشة: هل سيصمد في عفافه، أم أن الضعف سينال منه أمام جمال الأميرة التي استطاعت أن تختلي به؟!
لعلّ هذا الرجل الدرويش الذي يبيع السلال في الطرقات لتأمين لقمة العيش لعياله، لم يكن يعلم بأن هذه المهنة سوف تخلّد سيرته على ألسنة الناس، وسوف تجعله بطلاً ورمزاً، بل وممثّلاً جيّداً لقومه.
وفي الضفة الأخرى، تتيح لنا حكاية (زمبيل فروش) التعرّف على امرأة، تحتمل أكثر من تحليل في بنية شخصيّتها. وأظن أنّه لم يتمّ تقديم هذه المرأة، ولا تقديم شخصية (زمبيل فروش)، بشكل تحليلي جيّد.. حتّى هذا التاريخ، لم يتم تقديم التحليل الذي يستحقّه هذان الشخصان.
هذه الأميرة التي تسعى إلى علاقة جسدية مع بائع سلال متجوّل، تُذكّرني بزوجة العزيز في القرآن، والتي راودت النبي يوسف عن نفسها؛ فهي زوجة قائد البلاد، ويوسف رجل أحضره العزيز إلى بيته، وأحسن مثواه. لننظر إلى المشهد في الآية الكريمة: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}يوسف23.
كذلك نرى الأميرة، تُدخل (زمبيل فروش) إلى قصرها، في غياب الأمير، وتطلب من الحرس إغلاق الأبواب والخروج، ثم تراوده عن نفسه، فيأبى ذلك.
كما أنها تذكرني بشخصية (إيما بوفاري)، في رواية (غوستاف فلوبير): (مدام بوفاري)، حيث تكون على مثل هذه المواقف.
عندما تختلي به الأميرة، تكاد أن تستجديه كي تنال منه كلمة غزل، وأن جمالها بالفعل ملفت لنظر الرجل، وهي بالتالي لا تستحق الإهمال الذي تلقاه من زوجها، وقد ارتدت أجمل ما لديها من ثياب، وتأنّقت له بكلّ ما تملك من أدوات التجميل، كما أنها في طبيعتها امرأة جميلة. والملاحظ هنا أنّ زوجها كان خارج المنزل، ويبدو أنّه اعتاد على الخروج كثيراً من المنزل لأوقات طويلة، فتبقى لوحدها في البيت، وعندما يعود لا يولي أنوثتها أيّ اهتمام.
وعلى هذا النحو، نرى أنها تشعر بنشوة عندما يتحايل عليها (زمبيل فروش)، بعد تأكّده بأنّه وقع في قفصها، عندما تمّ استدراجه إلى القصر من قِبَل الجارية، وأن الأمير خارج البلاد، وأنّها مصمّمة على مأربها منه، عند ذاك وصفها (زمبيل فروش) بالوردة. فطاب لها ذلك، وطلبت منه أن يصفها، ويتغزّل بها، ولكنّه كان قد قال ذلك حتّى تأمن بأنه ضعف أمام جمالها، لكي يتمكّن من الهرب.
لكن من الطرف الآخر، فإن (زمبیل فروش) في وضعه النفسي، كما لو أنّه قد وضع قدمه على حافّة حفرة من نار، فهو كما خرج عفيفاً من بيته، يريد أن يعود إليه عفيفاً يحمل لقمة العيش، ويحافظ على إخلاصه لزوجته، دون أن يتلوَّث، وهو حريصٌ شديد الحرص بألاّ يعود إلى البيت ملوَّثاً، ولذلك كان قد أحسّ بسعادةٍ غامرة عندما قيل له بأنه مدعوّ لقصر الأمير من أجل شراء السلال منه.
عندما يبلغ يقيناً بأن الأميرة لن تدعه، يشترط عليها أن تأذن له كي يصلّي ركعتين قبل ذلك، وأن يصلّي في خلوة على السطح، حتّى لا تلهيه في صلاته، فتوافق على مطلبه. وعندما يعتلي السطح، حاملاً سجّادة الصلاة، تراود الأميرة مشاعر مريبة، فتلحقه، وتتفاجأ بأنّه يتقدّم كي يرمي نفسه من السطح. تصرخ به كي تمنعه، لكنّه يأبى ذلك، ويقول بأنه يُفضِّل عدم العودة إلى بيته، على أن يعود إليه ملوّثاً. ثم يرمي بنفسه من أعلى القصر إلى الأرض.
في هَول هذا المشهد، لم تنتظر الأميرة طويلاً، بل رمت بنفسها من ذات المكان، لتقع بجانبه منتحرة.
مع هذه النهاية المأساوية، يمكننا أن نستنتج بأن هذه الأميرة أدانت نفسها بقوّة، بعد أن أراها (زمبيل فروش) الوجه النقيّ للعفاف، كما أراها الوجه القبيح للخيانة. ولذلك، أرادت أن تنهي حياتها بما أنهى (زمبيل فروش) به حياته.[1]