#عزيز الحاج#
من المؤكد أن يسأل القراء وما العلاقة هنا مع تلك الجائزة العتيدة! أما القصة فآتية!
من المعروف أن محاكمة صدام وشركائه ذات أهمية تاريخية، وفي الوقت نفسه دقيقة ومتشعبة في قضاياها، ونادرة من حيث كثرة الضغوط عليها ومن حيث المغالطات والضجة الإعلامية المغرضة بشأنها وبشأن المحكمة. كما نعرف أيضا أن أعضاء المحكمة حريصون بإخلاص على إثبات أن عراق اليوم هو عراق القانون واحترامه، بما في ذلك ضمان حقوق المتهم وعدم السماح بالمساس بكرامته.
لقد سبق أن تناول عدة كتاب عراقيين موضوع حملات الدعاية والاتهامات في الصحافة العربية وصحافة اليسار الغربي حتى قبل إجراء المحكمة. كما ولم يسبق أن تطوع هذا العدد من المحامين للدفاع عن أحد الطغاة المتراكمة عليه تهم كبرى من الأمريكي كلارك للفرنسي دوما ولعائشة القذافي وجمهرة محامي الأردن وغيرهم.
لا يمكن إرجاع كل ذلك للكوبونات رغم دورها الكبير عند الكثيرين. إن هناك أيضا موجة وباء كراهية الولايات المتحدة وتأثيمها ومحاربة كل حركة أو قضية تكون طرفا فيها. وهذه الحقيقة برزت قبل الحرب وتتواصل اليوم لهذه الأسباب، وفي بعض الحالات هناك حسابات انتخابية كما في أمريكا وبريطانيا، أو بدافع التنافس الدولي والميل لزعزعة الدور الأمريكي، الذي لم يأت اعتباطا، بل تبلور وتطور في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم بعد انهيار جدار برلين والكتلة الشرقية. وإذا كانت السياسة الأمريكية قد ارتكبت الحماقات والخطايا في تاريخها المعاصر فإن الموقف العدائي تجاه حرب تحرير العراق التي لعبت القوات الأمريكية دورا ساحقا ومشرفا في انتصارها، ليس له ما يبرره ولا ما يربطه بمبادئ حقوق الإنسان والعدالة. وإذا كان كلارك وزميلاه المحاميان وموكلهما يصرخون ضد شرعية المحكمة لكونها تتم مع وجود القوات الأجنبية، فإنهم يتعمدون تناسي القرارات الدولية التي شرّعت هذا الاحتلال وكذلك كونه استجابة لطلب حكومة عراقية منتخبة. ولا يعقل أن يجهل أمثال كلارك أن محاكمات نورمبورغ لمجرمي الحرب الألمان تمت بوجود قوات احتلال لأربع دول كبرى وليس لدولة أو دولتين! وقد كان على السيد القاضي تذكير هؤلاء المغالطين بهذه الحقائق المعروفة، ناهيكم عن أن إثارة ضجة سياسية كهذه لا علاقة لها بالمحاكمة وعلى القاضي إفهام هؤلاء بحزم تام ولباقة. أما إذا كرر أحد المحامين إقحام قضايا لا علاقة لها بالمحاكمة والتهم، وكرر ذلك رغم تنبيه القاضي، فمن حق القاضي وصلاحيته فرض غرامة عليه وإخراجه ووضعه في التوقيف حتى يدفع الغرامة. وهذه ممارسة تتم في المحاكم الأمريكية نفسها التي لا أعتقد يجهلها سيادة القاضي ومهما كانت التعليمات والتوصيات التي تطلب منه التساهل التام. أما عندما يعتدي متهم ما على شاهد أو أحد الحاضرين أو المحكمة فمن حق القاضي إخراجه من القاعة ومواصلة المحاكمة بدونه وبحضور المحامي.
إن التزام القانون والتحلي بالهدوء واللباقة في ضبط المحاكمات لا يجب أن تتحول للتساهل والليونة والمبالغة في الوداعة حتى عندما تُشتم المحكمة نفسها. ومن المؤلم أن أداء السيد القاضي ينخرط في مثل هذا النمط، الذي، وهو يطبق احترام القانون وحرية المتهم، فإنه بسمح له أو لمحاميه بالخروج عن الموضوع، وحتى عندما يتجاوز المتهم الحد بالشتم والبصاق!! وإذا كانت حقوق المتهمين مهمة فيجب في الوقت نفسه عدم نسيان المئات من آلاف الضحايا والدماء المراقة وأن لا يكون الأداء ماسا بعواطف الضحايا وعائلاتهم. تصوروا حالة ضحية جوعته ذئاب المخابرات في سجن أبو غريب مع بقية المعتقلين تجويعا مستمرا لحد أن أحدهم تمنى لو ذبحوه ليأكلوا من لحمه. عندما يرى الضحية صولة صدام وغطرسته في المحكمة وإصراره على كونه الرئيس، واتهامه بكونه يعذب لأنه لم ينقل بالمصعد ورغم كل ما يتمتع به من حقوق ومحاكمة عادية وشفافة. هذا الضحية ترى ماذا يقول لنفسه وهو يقارن كل ذلك وليونة القاضي بمعاناة الأقبية ووسائل التعذيب وحملات الإعدام الجماعية وتثريم الأجسام والتجويع حتى مشارف الموت!
نعود لكلارك والجائزة. فالسيد المدعي العام السابق يصرح من بغداد لصحيفة أمريكية أنه يعتبر صدام حسين هو الرئيس الشرعي وأنه معجب به وهو يتحدث بحرارة وحنين عن سلسلة لقائهما في بغداد مرارا وتكرارا طوال التسعينات. ويذهب بعيدا حين يبرر أمام الصحفي [ انظر الهيرالد تريبيون عدد 7 ديسمبر الجاري ] أن نظام صدام كان محقا في سحق ومحق الشيعة لعلاقاتهم السياسية بإيران! ويقارن كلارك موقفه من صدام والحرب بمواقف سابقة له ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، ويقول إنه في الحالتين يجابه أناسا لا يرون العالم إلا كأبيض أو أسود، أناسا مجردين من كل نزعة إنسانية! هكذا في عرف كلارك يكون قادة النظام الفاشي المنهار ضحايا للعدوان الأمريكي، [الشيطان الأكبر] لمجرد الدور الأمريكي في إسقاط نظام الملائكة الأطهار. وأبو غريب، الذي جرؤ فيه أنفار من حارسات وحراس أمريكان على اقتراف ممارسات حقيرة، ولكن كشفتهم الإدارة الأمريكية نفسها، وحاكمتهم المحاكم الأمريكية نقول، أبو غريب في نظر كلارك وكل خصوم بوش وبلير قد حوله الأمريكان إلى [غولاك] سوفيتي، حيث كان يموت مئات الآلاف من الضحايا. أما أبو غريب زمن مخابرات الفاشية العراقية المهزومة، فكان في نظر هؤلاء جنة الجنات وملاذ الملائكة! فيا لكل هذا التحيز الأعمى ولاحتقار الحقائق والتاريخ!
لما مر من مواقف السيد كلارك، المعروف بهواية الدفاع عن الطغاة الدمويين، أمثال ميلوسوفيتش الصربي و شارل تايلور من ليبريا، فإنه يستحق جائزة نوبل للسلام وفقا للمعايير التي راحت جوائز نوبل في السنوات القليلة الماضية تمنح وفقها للشخصيات السياسية ورجال الأدب، وآخرهم الكاتب البريطاني المسرحي هارولد بنتر. وما أن منح الأخير الجائزة حتى راح يصرح أكثر من مرة بأن كلا من بوش وبلير مجرما حرب ويجب تقديمهما لمحاكم دولية بسبب الحرب.
لقد نشر أمير طاهري في الشرق الأوسط بتاريخ 21 أكتوبر المنصرم على أثر منح الجائزة لبنتر، مقالا موسعا بعنوان إلى متى تسييس الجائزة؟
يبدأ المقال بداية مفاجئة ولكن في صميم القضية. إنه يكتب:
من في تقديركم يقوم بمنح الفائز بجائزة نوبل للأدب؟ قد تقولون: الأكاديمية السويدية أو على الأقل، مجموعة من الخبراء الأدبيين في ستوكهولم. حسنا، على الرغم من أنكم على صواب من الناحية التكتيكية، فإن الحقيقة هي أن الفائز خلال العامين الماضيين قد اختير من قبل الرجل الذي بدأت محاكمته في بغداد الأربعاء الماضي. أيدهشكم هذا؟ لا تدعوه يفعل. فصدام حسين التكريتي، الرجل الذي تجبر وقتل العراقيين لثلاثة عقود، يظهر كبطل غير معلن لبعض اللبراليين المزيفين في الغرب ممن يواصلون معارضة تحرير العراق بسبب كراهيتهم للولايات المتحدة. ففي العام الماضي كانت الفائزة الكاتبة النمساوية جيلينيك الستالينية التي ميزت نفسها لأول مرة عبر الادعاء بأن الانفجار في مفاعل تشير نوبل النووي بأوكرانيا، كان من عمل مخربين أرسلتهم الولايات المتحدة لتقويض الاتحاد السوفيتي. وفي الفترة الأخيرة أضافت صوتها إلى أصوات أولئك الذين يصرون على أنه من الجريمة إبعاد طالبان خارج كابل وإزاحة صدام حسين. اما بلينتر، فمُنح الجائزة لنشاطه السياسي المحموم ضد تحرير حربي تحرير أفغانستان والعراق. واعتبر بينتر جرائم 11 سبتمبر انتقاما مبررا من جانب المتطرفين الإسلاميين. ووصف بينتر أمريكا وبريطانيا بسبب حرب سقوط نظام سيلوسوفيتش، الذي كان يقوم بمذابح جماعية لمسلمي كوسوفو، ب قوتين إرهابيتين، وتقدم لتشكيل لجنة دفاع عن الطاغية الصربي الدموي، وهي اللجنة التي سارع كلارك للمشاركة فيها. لو كانت أعمال جيلينكس وبينتر من المستوى الأدبي المتميز، لكان للجنة الجائزة تبرير حتى لو فضلوه على آخرين بنفس المستوى. أما وإنها أعمال تتفوق عليها مؤلفات كتاب آخرين فالغرض السياسي صارخ جدا. ويقول طاهري أيضا إن اللجنة كانت تبحث عن مؤلف بريطاني يعارض تحرير العراق، لكن مع ذلك لم تكن هناك أية ضرورة للحط من الجائزة أكثر من إعطائها إلى بينتر. وهكذا في رأينا حال جوائز السلام. فماذا يبقى لكوفي عنان غير اعتباره حرب العراق عملية غير شرعية؟ وما منجزات وكالة الطاقة للضغط القوي على برامج صدام العسكرية، أو لتجريد كوريا الشمالية من سلاحها النووي، أو لإيقاف البرنامج النووي العسكري الإيراني؟
يصل الكاتب في مقاله ليقول بسخرية نافذة: كان من الممكن أن تكون اللجنة أكثر منطقية لو أنها اختارت صدام حسين نفسه، إذ أن الدكتاتور المخلوع قد أصدر بنفسه روايتين ويكتب أخرى وهو في السجن!!
على ضوء هذه المعايير، فلا تستبعدوا أن ينال السيد كلارك جائزة نوبل للسلام كمحام عن البطل المظلوم صدام. ونحن نقول لسيادة القاضي: سواء كان كلارك وبقية الشلة من أصحاب جوائز نوبل أو لا، فإنهم يجب أن يتضاءلوا أمامه ما دام يمثل الضحايا وقضيتهم العادلة. أما استمراره على هذا النمط من اللين والإفراط في المجاملة والمبالغة في قلة الحزم، فإنه يلحق ضررا كبيرا بمحاكمة كان الشعب ينتظرها وهو يبكي ضحاياه، مثلما هو إيذاء لمكانة قاض معروف بالخبرة الغزيرة وسمو الخلق والكفاءة المهنية المشهود له بها.[1]