#عزيز الحاج#
كل الأيديولوجيات ،على اختلاف طبيعتها ومنطلقاتها وغاياتها، [ والاختلافات هي جذرية غالبا]، تشترك في رفض الآخر، وهوس العنف، وكراهية الثقافة الحرة، وإدعاء احتكار الحقيقة المطلقة.
أيديولوجية القومية العنصرية النازية كانت النموذج الأكثر دموية وعدوانية وبشاعة وهدما في القرن العشرين. والمدرستان القوميتان العربيتان، مدرسة البعث والناصرية، واللتان نقلتا عن الفاشية غلواء التطرف القومي، وميول إلحاق الآخرين، قد ألحقتا أضرارا كبرى بمسيرة الشعوب العربية، بخلقهما النموذج العربي لنظام الحزب الأوحد والقائد الواحد، أو القائد الضرورة. ونعرف كم كانت كثيرة ورهيبة جرائم البعث، وكم ضاقت سبل الفكر والثقافة الحرة في العهدين الناصري والبعثي -[ سوريا وعراقيا].
الستالينية والماوية، اللتان انحرفتا بالماركسية كمنهج تحليل قائم على العلم والنقد، خلفتا وراءهما جرائم كبرى راح ضحاياها الملايين. وهاتان المدرستان، وعدا محاربة المعارض والمنافس السياسيين، كانتا تحاربان الفكر الحر وكل نتاج أدبي وعلمي تعتبرانه منافيا للنموذج السائد. حتى ديستوفسكي كان ملعونا في العهد السوفيتي، وإلى بداية الستينات. وهناك شعراء مجددون كانوا يكتبون بما يقرب من الشعر السوريالي، دون نقد للنظام، اعتقلوا، ومنهم من نفي أو أعدم، وزعيمهم خارس مات في السجن جوعا. أما الثورة الثقافية الماوية، فقد التهمت آلافا من الأساتذة والعلماء والكتاب والفنانين، من الجنسين، وعرضتهم للسجن والاعتقال والموت، وللإهانات على أيدي صبيان الحرس الأحمر المهووسين، المنفلتة غرائز العنف فيهم. كانت هذه القطعان الهائجة المائجة تنقض على محلات بيع الأسطوانات والتسجيلات الموسيقية فتكسرها تكسيرا، وتحطم محلات بيع الزهور، وتضرب الأساتذة بتهمة حملهم أفكارا رأسمالية. وكان المئات من المثقفين يجبرون على الزحف تحت الأقواس كالكلاب أمام جمهور هائج متشف ويوجه الشتائم والسباب.
أما أيديولوجية الإسلام السياسي، فهي تختلف من جهة استخدام الدين عنوانا وسلاحا، وهي، بالعكس من الستالينية والماوية، ضد الحداثة والعلمنة، إذ تريد إعادة البشرية إلى عصور الكهوف المظلمة، وهي بالعكس منهما، وحتى من المدارس القومية، تحتقر المرأة وتعتبرها مجرد سلعة جنسية. كما أنها تكره الآخر غير المسلم، أو حتى المنتمي لمذهب إسلامي آخر.
لقد انحسرت بقية الأيديولوجيات مع مطلع القرن الحالي. أما أيديولوجية الإسلام السياسي، فإنها هي الطاغية اليوم، وفروعها الإرهابية الدموية، تمثل العدو الأول للحضارة والتقدم وحقوق الإنسان، والثقافة.
ليس هناك اختلاف جوهري بين الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال وبين المتطرف منه؛ الفارق هو في النشاط السياسي اليومي وفقا للظروف والأوضاع؛ فالإسلاميون اليوم يشتركون في الانتخابات، ليس عشقا بالديمقراطية، وإنما لقتلها لاحقا لأنهم يستهدفون- باطنيا - هدف الدولة الدينية، سواء هي دولة الخلافة الإسلامية الكبرى أو الجمهورية الإسلامية بقيادة نظام ولاية الفقيه- أي أن الجميع يؤمنون بأن الإسلام دين ودولة. فالإسلاميون يتبعون في العمل السياسي مبدأ التقية، كما فعل خميني حين كان في باريس ويدلي بالتصريحات الطنانة عن الإسلام والديمقراطية، لكي يعود، وهو منتصر، ويقيم نظام الفقيه الثيوقراطي الدموي الشمولي. والإخوان المسلمون يشتركون في الانتخابات مع أنهم لم يتخلوا عن شعار الإسلام هو الحل، ملتقين في ذلك مع متطرفي الوهابية، من الدعاة الذين يغسلون أدمغة الشباب للتنفيذ العمليات الإرهابية.
خطاب الأحزاب السياسية الإسلامية وشعاراتها المعلنة هي كالخطاب الديني الصرف: منه المباشر والعنيف، والذي يبشر بالقتل، وحتى بقتل الأطفال، ومنه الخطاب الذكي، الماهر، الماكر واللبق، الذي يسوِّق نفس المفاهيم بأسلوب يبدو عصريا ومقبولا، ولكن في طياته السم نفسه. فهناك دعاة مثقفون، أحدهم، وهو مصري، استطاع تسويق نفسه لحد أن الداخلية البريطانية استخدمته كمستشار للشؤون الإسلامية، ولحد أن جامعات غربية تستدعيه لإلقاء المحاضرات، ولحد أن مثقفين يساريين غربيين يتعاونون معه في التأليف. إنه مثلا يدعو المسلم في الغرب لعدم الاندماج ولكن بصيغ توحي بأن قصده هو الاندماج. ومن بين ما يطرح: أن تكون مسلما جيدا لا يعني أن تكون فرنسيا سيئا؛ والحال أن ما يجب أن يقوله هو: أن تكون فرنسيا جيدا [ أي يحترم قوانين البلد ومبادئه العلمانية] لا يعني أن تكون مسلما سيئا.
هذه الملاحظات المركزة تأتي تعليقا على حملة المثقفين العراقيين العلمانيين من أجل فصل الدين عن السياسية والدولة، وهي بادرة محمودة ومهمة وإن جاءت متأخرة. وجدير بالذكر أن فريقا من الكتاب العراقيين قد نشروا، على مدى السنوات الماضية، وحتى قبل الحرب، مقالات تدعو لنظام ديمقراطي علماني اتحادي في العراق. فالديمقراطية لا تكون ديمقراطية حقا إن لم تكن علمانية، لأن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات حرة ووجود برلمان. كما أوضحوا، وهو ما يرد في مذكرة الحملة المذكورة، أن العلمانية ليست ضد الدين، بل هي التي تضمن حرية ممارسات العبادة للجميع مثلما تضمن حرية الملحد والاأدري.
إن هجمة مجالس المحافظات في بغداد والوسط والجنوب على الفنون والنوادي الثقافية، وإن رفع شعارات لن نقبل بما ينتهك التقاليد والثوابت، وما أشبه، دليل صارخ على أن الأحزاب الدينية المهيمنة وحكومتها معادية للديمقراطية لأن الديمقراطية لا تتجزأ: فلا ديمقراطية عندما يطاردون حرية الإبداع والرأي، وعندما يعتبرون غير المسلمين مجرد ذميين، وعندما بفرضون الحجاب فرضا على الأنثى ولو كانت طفلة، وعندما يوجهون المدرسة توجيها دينيا مذهبيا- أي كما قالوا المناهج تسترشد بالمرجعية.
أجل، إن هذه الممارسات في العراق تدحض توصيف الوضع العراقي بالديمقراطي. وإن الدستور العراقي، الذي يدعو الساسة وفريق من العراقيين، ومنهم علمانيون مع الأسف، إلى الحفاظ عليه، هو نفسه من مصادر البلاء في العراق لكونه قائما على أحكام الشريعة. وأحكام الشريعة منافية للإعلان الدولي لحقوق الإنسان.
إن أحكام الشريعة تبيح فصل المرأة عن زوجها إن اتهم بالخروج عن الإسلام أو تبديل دينه في حين أن الديمقراطية تضمن الحرية الدينية كاملة، بما فيها حرية تبديل الديانة. ونعرف أن الذي يبدل دينه في معظم قوانين الدول الإسلامية معرض لعقوبة الموت. وأحكام الشريعة تقضي بجلد الزانية ورجمها حتى الموت؛ وفي السودان وحده، عام 2010، أنزل زبانية النظام 600000 ألف جلدة على ظهر 40000 امرأة- بس!
إن استخدام الدين في السياسة والحكم يعني تسليط سيف القهر والقمع على المخالف باسم الدين، وإن احتماء الأحزاب الشيعية العراقية بالمرجعية الدينية في النجف، لتبرير كافة ما تقوم به الحكومة، هو سلاح لإخراس النقد ولغش الجماهير. ومن المؤسف أن هذه المرجعية قد وافقت لحد اليوم على استخدام اسمها حتى في أكثر الإجراءات والسياسات المنافية للحرية والديمقراطية، وفي كل المناورات السياسية والانتخابية. وهذا ما يؤثر سلبا على سمعة المرجعية والدين. فزج الدين في مطبات السياسة وخلافاتها ومناوراتها يسئ للدين نفسه، ويجعله طرفا في الخلاف والنزاع، وحتى الصدام.
في القرون الوسطى، وإلى الخلافة العثمانية، استخدم الحكام الدين في شؤون الدولة لتبرير وتسويق الظلم والنهب والفساد وإضفاء الشرعية على الحكم. وها أصبح نقد خميني في إيران بمثابة الكفر بالدين والإمام الغائب.
إن ما يجري في العراق للثقافة والفنون والمرأة والأقليات وفي مجال التربية والتعليم يعيد العراق عقودا إلى وراء، وإلا فكيف يجري هذه في عراق الجواهري والرصافي وعلي الوردي وجواد سليم والشريف محي الدين وسلمان شكر والأخوين بشير، وأساطين الغناء والموسيقى والرسم والنحت الآخرين، أو كبار المربين الجامعيين؟ وهو نفس العراق الذي أنجب المعري والجاحظ وابو حيان التوحيدي والمعتزلة والمغني الموصلي وزرياب الموصلي قبل قرون؟ ولقد كنت صبيا أشاهد مراسيم عاشوراء، وأذهب مع العائلة لزيارة المراقد الشيعية المقدسة، ولكننا لم نشهد من قبل زيارات مليونية تعطل المدارس والدوائر الحكومية والبرلمان. هذا، كما يقول الأستاذ رشيد الخيون، يعني إلحاق الدولة بالحسينية.
إن العراق سائر حثيثا نحو أسلمة المجتمع والثقافة في الطريق لقيام دولة الاستبداد الديني، ومن المؤسف أن أكثرية النخب والأطراف السياسية الأخرى منشغلة بحساباتها الخاصة ومطامحها، فلم نجد من الجبهة الكردستانية، مثلا، إدانة لما يجري في بقية أنحاء العراق من استهتار بالثقافة والفنون والتعليم. ولم نر القائمة العراقية، إلا بعض الأفراد، تدين علنا ما يجري. ومن هنا، فإن المثقفين وقلة من الساسة العلمانيين هم وحدهم المدعوون لمواصلة حملة النقد والمطالبة بفصل الدين عن السياسة والدولة، بل وبتحريم قيام الأحزاب على أساس ديني. وهذه مهمة في غاية الصعوبة نظرا لما تركه صدام من تخلف ثقافي ومجتمعي وخراب، زادهما الإسلاميون الحاكمون خرابا وتخلفا مضاعفين. وهذا صعب ومعقد لأن هذه الأحزاب ذات صلات قوية بنظام الفقيه، الذي بات هو المهيمن الفعلي على مسيرة العراق.[1]