#عزيز الحاج#
وضعت اسمه في مقدمة من أكتب عنهم في الجزء الأول من كتابي القادم: راحلون وذكريات، وهو عنوان قد أستبدله بعنوان آخر – لا أدري- مثل: من دفاتر الرحيل. وها أنا أكتب عنه فصلا موجزا أعتبره مؤقتا بانتظار معلومات تنقصني عن نشاط الفقيد في المغترب، بعد إسقاط الجنسية عنه في أواخر 1948 ومع الأسف، فقد تعذر عليَّ الحصول على تلك المعلومات حتى الآن رغم جهودي، فارتأيت كتابة هذه الصفحات ونشرها عسى أن تحفز من عندهم معلومات إضافية على نشرها كتعقيب أو إرسالها مباشرة من خلال الصديق الدكتور عبد الخالق حسين لكي أعيد كتابة هذا الفصل فيما بعد.
جعفر محمد كريم، الكردي العراقي الفيلي، كان من بين أكثر أطباء العراق نبوغا وقد تخرج الأول من كلية الطب العراقية. وكان، في الوقت نفسه، ومنذ بداية شبابه، منهمكا في النشاط السياسي الوطني العراقي، وفي الحركة الكردية على وجه الخصوص، التي كان من قادتها الديمقراطيين، وصولا لأن يكون من مؤسسي الحزب الديمقراطي الكوردستاني عام 1946. ورغم اضطراره للخروج سرا إلى إيران بعد إسقاط جنسيته العراقية، فقد انتخب لعضوية المكتب السياسي لهذا الحزب ثلاث مرات. وقد أكدت شهادات أنه قد ساعد شيوعيين عراقيين ممن هربوا لإيران بعد 8 شباط 1963 الفاشي.
الدكتور جعفر كان من عائلة فيلية بغدادية معروفة، وهو من أقاربنا، كما كانت عائلته أقرباء مقربين من عائلة محمد بشقة وشقيقه إبراهيم بشقة. وهو شقيق للشخصية الكردية المعروفة حبيب محمد كريم وشقيقيهما حيدر وياسين. ولي مع كل من الأربعة ذكريات. ومن الصدف المؤلمة أن المرحوم ياسين توفي عام 2000 في موت فجائي غامض. وفي العام نفسه، رحل عنا جعفر في طهران عن 91 عاما.
عرفت الدكتور جعفر كطبيب عام، وكان مكتبه في باب الشيخ. وكنت خلال أواخر 1945 وطوال عام 1946 أكثر من زيارة تلك المنطقة وأرتاد أحد مقاهيها لألتقي بأصدقاء من الشباب الفيلي، فنتناقش بحماس في السياسة. وكان الشباب هناك موزعين ومنقسمين ولاءً بين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكوردستاني- [طبعا لم يكن هناك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني]. وكنت، إذا أصابتني وعكة مرضية، أذهب لعيادة الدكتور جعفر، فيشتعل النقاش بيننا رغم اختلاف العمر والتجربة، إذ كنت في بداية العمل السياسي وكان هو قد اكتسب خبرة طويلة. وقد اعتقل المرحوم جعفر بعد فشل حركة رشيد عالي لعام 1941، وما أعقبها من حرب فاشلة مع القوات البريطانية. وقد ضمت المعتقلات، بعد فشل الحركة، خليطا من المشتغلين بالسياسة: ما بين قوميين عروبيين وأكراد وتقدميين يساريين منهم عدد من الشيوعيين. وكان الدكتور جعفر يشاطر الشيوعيين وبقية الوطنيين العداء لبريطانيا في تلك الفترة، وظل على موقفه حتى بعد قيام التحالف الغربي مع السوفيت ضد دول المحور، مع أن الحزب الشيوعي راح يخفف من لهجته العدائية، ويدعو للمجهود الحربي ضد دول المحور. وكان الإنجليز قد أنشئوا، بعد هروب رشيد عالي وحركته، نوادي باسم إخوان الحرية مهمتها الدعوة للمجهود الحربي وفضح الدعايات الفاشية. ولم تكن سمعة تلك النوادي جيدة عند فريق كبير من القوى والشخصيات الوطنية، ومنهم الدكتور جعفر. وأذكر أن الصحيفة السرية للحزب الشيوعي هاجمت عام 1947 المرحوم جعفر الخليلي لأنه كان عضوا في أحد تلك النوادي. كما أذكر نقاشا حاميا جرى في دارنا في باب السيف بمنطقة الشواكة بين الدكتور جعفر والمرحوم ناجي يوسف- والد أم إيمان – ثمينة- زوجة الشهيد حسين الرضي (سلام عادل). وقد دار النقاش حول طبيعة وأغراض نوادي إخوان الحرية، فكان جعفر يدينها، بينما ينفي أبو ثمينة كونها أوكارا للتجسس، وكان هو المحق، وكنا المخطئين.
كان الدكتور جعفر واحدا من بين أكثر المثقفين الفيليين ذكاء. وكان كسائر أشقائه وكوالديه مرحا وصاحب نكتة. وأتذكر أنه كان أحيانا يسلقني في مناقشاتنا السياسية بتعليقات لاذعة ولكنها بريئة.
قيل لي إن المرحوم ترك في النهاية العمل السياسي في إيران بعد أن لاحقه في الفترة الأولى اضطهاد السافاك (الاستخبارات الإيرانية في عهد الشاه). وقد انصرف للمهنة، وذهب إلى بريطانيا للتخصص في طب الأعصاب والأمراض العقلية. وقد انتشرت شهرته داخل إيران وخارجها لأنه قدم أبحاثا طبية رائدة في مجال تخصصه، فضلا عن دماثة خلقه وحسن عنايته بالمرضى. وقيل لي أن اسمه معروف في الدوائر الطبية البريطانية.
إن من الصدف، وكما مر في ذكرياتي عن محمد بشقة الذي اختفيت في داره فترة من عام 1948، أنه هو الذي ساعد الدكتور جعفر على الهروب لإيران بواسطة بعض أعمامي في خانقين، وكان قبل هروبه قد اختفى هو الآخر في دار محمد بشقة في منطقة الأرضروملي بالكرخ. وحين سافرت المرحومة والدتي لزيارة مشهد في إيران مع ابن عمي، استضافهما الدكتور جعفر وساعدهما بكل ما كان متاحا له. وقد حدثتني أمي عن ذلك مرة قبيل وفاتها.
إن من المؤلم أنني لم أسأل عن تفاصيل نشاطه بعد الهروب من شقيقه الصديق والقريب حبيب عندما كان الأخير في لندن رغم أننا كنا على اتصال مستمر. ولعل فرصة تسنح لي معه لاستذكار ذكرياتنا عن الفقيد، فأغني هذه الإلمامة الخاطفة بما يفي حق الرجل، كزعيم مناضل، وكطبيب نابغة. فألف تحية زكية لذكراه ..[1]