#عزيز الحاج#
مما مر في المقالات السابقة، تتبين للقراء الأفاضل وجهة نظري غير المتفائلة عن حاضر ومستقبل العلمانية والديمقراطية في العراق والمنطقة.
لست أرى بصيص ضوء، لا حاليا ولا لمستقبل قريب ومتوسط، ولعقود وعقود، للخروج من هذا المأزق المزمن، الذي عمقته ووسعته التطورات الجديدة في دول ما يسمى بالربيع العربي- متمنيا من القلب لو كان عدم تفاؤلي هذا في غير محله ولو كنت مخطئا.
السيد مرسي أعلنها صراحة، وبلا تردد، بأن الشريعة وحدها أساس الحكم، لاحسا كل تصريحاته ووعوده الانتخابية بلا رمشة عين بعد أن تملك الأرض- أي السلطة والمجتمع والقانون والإعلام. والسلفيون في تونس يفرضون شريعتهم فرضا بتواطؤ صامت مع الحزب الحاكم، وحقوق المرأة التونسية في خطر داهم وأكيد، وكذلك الصحافة. والاحتفالات الثقافية صارت تفض بالقوة وبالهراوات لأنها تدنس المقدس! وقد تعرض نائب اشتراكي فرنسي من أصل عربي منذ أيام للضرب المبرح بالقضبان والهراوات عندما كان سائرا مع زوجته وابنته في شارع تونسي بحجة أن ملابس المرأتين غير لائقة مع أنها كانت طبيعية وعادية، فلا ميني جوب ولا لباس بحر، ولا طبعا نقاب!! والسلفيون الليبيون رفعوا رؤوسهم العفنة فراحوا يهدمون القبور والمراقد، بينما الحكام الجدد لم يكتموا أن أساس الحكم هي أحكام الشريعة، وللمتطرفين هناك مراكز قوة كبيرة.
أينما ننظر، فهناك السلفيون والإخوان، وصحفيون وإعلاميون من نفس القماش، وأئمة جوامع وفقهاء مدعون، يتاجرون بالدين ويداورونه كيفما يريدون حتى وصلت الحالة إلى تحريم الطماطم [ بندورة] لأن نصفها كالصليب، وإذا ابتلع الخروف صحيفة غربية فلحمه حرام، والأب لا ينبغي أن يختلي لوحده بابنته، وسباحة المرأة في البحر معناه الزنا لأن البحر مذكر!! وهكذا، وهكذا، من ترهات يصدقها عامة الناس ويمشون وراء مبتدعيها، بينما أمثال الراحل أرمسترونغ قد وصلوا القمر. وحين يتباهى أحد المعلقين في الحوار المتمدن بما يسميها نهضة المرأة الإيرانية في عهد الخمينية، فلعله ينسى، أو يتناسى، مقاتل الفتيات في شوارع إيران أيام الانتفاضة، ورمزهن ندا أغا سلطان، وينسي أعداد النساء اللواتي رجمن حتى الموت في إيران الخمينية، وأن الكليات الإيرانية أصدرت مؤخرا قرارات بحرمان الطالبات من عشرات الفروع الجامعية. وحين يشاد في المعلقات العراقية بديمقراطية حكومة المالكي، فلا ندري كيف تتلاءم الديمقراطية مع التضييق على المرأة وعلى حرية التعبير والنشر ومع حظر الغناء والموسيقى، وغير ذلك من تدابير تناقض أوليات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد شهد العالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، [كما بينا سابقا]، عهودا من الانفتاح الجريء على الحضارة الغربية، فتقدمت العلوم، ونشرت المؤلفات عن النظريات العلمية والفلاسفة التنويريين، وتطور التعليم خطوات باتجاه التعليم الحديث، وكانت السياسة بوجه غالب منفصلة عن السلطة الدينية. هذا ما مر، وبدرجات متفاوتة، على العديد من البلدان العربية، بفضل التلاقي والتلاقح مع المنجزات الحضارات الغربية، ولاسيما الحضارتين الفرنسية والإنجليزية. تلك عهود شهدت نهضة المرأة وفك الإسار عنها، وبروز العشرات والعشرات من خيرة المفكرين والأدباء والمبدعين والفنانين. إنها عهود طه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد ويعقوب صروف وفرح أنطون والكواكبي ومنصور فهمي ومي زيادة وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ونجيب محفوظ وأحمد أمين وزكي مبارك والمازني وعمر فاخوري ورئيف خوري وحسين مروه وشوقي وعلي محمود طه والشابي والطاهر وطار والرصافي والزهاوي ونازك الملائكة والسياب وشعراء الستينيات العراقية وعلي الوردي وطه باقر، والأفلام والتمثيليات الممتعة والشيقة، الخ، ألخ، ألخ..
فماذا نجد اليوم غير طغيان سلطة فقهاء الحلال والحرام، وصعود أحزاب الإسلام السياسي بمذهبيه، ومحاولات إلغاء كل ما يمت للحداثة والعلمانية من العقول، واعتبار الفلسفة طاعونا لا نهاية له [ حسب عنوان كتاب عراقي جديد]، ومحاربة الحريات الشخصية؟!
في نيسان 2004، خطب الشيخ الراحل محمد حسن فضل الله داعيا المسلمين لمقاومة مشروع علمنة العراق، وهو ما نسبه للقوات الأميركية التي قال إنها تريد للعراق أن يكون دولة علمانية لا علاقة للإسلام بها، مساويا بين العلمانية ومعاداة الدين. وكم كنا نتمنى لو أن مشروعا كهذا قد وجد ونجح، ولكن المأساة أن الولايات المتحدة أعطت كامل ثقتها بالإسلاميين، الذين جاءونا بدستور أحكام الشريعة، وبالأحوال العامة المتردية التي وصلنا إليها اليوم، بحيث أنه، برغم أن الميزانية تزيد عن 100 مليار دولار، فإن الحكومة تفشل في تزويد المواطنين بالكهرباء، بل وتفشل في تنظيف العاصمة نفسها من الزبالة، وهي مشغولة بحظر النوادي والموسيقى والنحت والغناء ومنع الخمور وبفرض الحجاب وقمع المظاهرات السلمية وبالتساهل مع الفساد، وبالزيارات المليونية، التي تكلف حياة المئات المستهدفين من القتلة، والتي تبذر الأموال، وترسخ الطائفية. ولا شك في أن للعلمانيين، أو المفترض أنهم علمانيون، وخاصة الأطراف الكردستانية، دورا بارزا في هذا المآل، وذلك بتحالفها الإستراتيجي مع الإسلام السياسي الشيعي، بدلا من تعزيز العلاقات والروابط مع التيارات والقوى والشخصيات الديمقراطية العلمانية العراقية. بل، وكان هناك مؤخرا خبر عن صياغة مشروع قانون يعرض على برلمان كردستان لمقاضاة من يسئ للدين! ونعرف كيف تفسر الإساءة على ضوء ما شهدناه في الغرب نفسه من هياج المسلمين لصدور كتاب ما أو فيلم ما، أو رسم ما، وملاحقة هذا الكاتب أو ذاك، و قتل هذا المخرج التلفزيوني ومطاردة مؤلف كتاب. والسياسة الأميركية في عهد اوباما لم تتعظ بدروس حرب أفغانستان والعراق، فها هي تقوي علاقاتها مع الإخوان المسلمين في مصر وغير مصر ، جريا وراء سراب ما تعهدوا به من التزامات ما أسهل أن ينفضوا عنها.
إن إمارات العلمانية وبعض معالمها التي وجدت في عهود سابقة كانت، كما قلنا، نتيجة التأثر الإيجابي بالنهضة الأوروبية الحديثة، ونتيجة الاتجاه نحو الحداثة. فالحداثة والعلمانية لا تنفصلان، كما لا تنفصل الديمقراطية عن الحداثة. ولذا هاجم أخونا المالكي الحداثة والعلمانية مقترنتين معا. وعندما تتحول العقول والسياسات والمطامح نحو ماض سحيق، يعتبر كله مقدسا، وتراد إعادة إنتاجه، كالخلافة أو دولة الإمام الغائب أومن ينوب عنه؛ وحين تتركز النظرات على هذا، وتتكلس ،وتنغلق، ولا تتركز على الأفق البعيد وطموح التحول والتطور للأمام لمواكبة لعصر والمساهمة في إثراء مكتسباته العلمية والتقنية والثقافية؛ وعندما تصاغ العقول صياغة أهل الأنفاق المظلمة والكهوف السوداء، حتى في المدارس والجامعات، ناهيكم عما يبث ويصاغ في المدارس الإسلامية- التي أخرجت وتخرج عشرات الآلاف من المتطرفين وفصائل إرهابيين؛ عندما يحدث هذا كله أمام أعيننا، فعن أية علمانية منتصرة قادمة يمكن الحديث؟!! وعندما نمجد العنف بكل أشكاله، وتتوارى سيادة القانون لتتحول العدالة والقانون لبطش جموع هائجة منفلتة تتحول لغوغاء متعطشة للدم والتمثيل بالجثث؛ وعندما يصاب مثقفون عراقيون وعرب في الغرب الديمقراطي العلماني نفسه بمرض الطائفية وتصديق الخزعبلات الفقهية؛ فكيف إذن يكون الشارع والنخب مؤهلين للعلمانية الديمقراطية؟!!
هل العلمانية هي قدر الوطن العربي، كما كان يكتب الأستاذ العفيف الأخضر منذ سنوات؟ - بمعنى قانون موضوعي وتاريخي لابد وأن يفرض نفسه؟ هل ما عندنا من البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، ومن هيمنة الفقهاء، والسجل التاريخي، وسياسات الحكام، ومشاعر الجمهور وغرائزه، يؤهلنا لحلول هذا القدر ذات يوم؟! وهل القوى والتيارات العلمانية لها من القوة والإمكانيات والتبصر وبعد النظر والصبر والجلد وشجاعة المراجعة بروح النقد الذاتي لتلعب دورها الشاق، والمعقد، والمحفوف بالخطر، في هذا السبيل؟؟ ثم هل أوروبا الغربية، وهي مركز ولادة العلمانية، والتي تعاني من أزمة مالية واقتصادية عاتية، قادرة هي نفسها على الحفاظ على مكاسبها العلمانية أمام تحديات ومطالب الجاليات المسلمة [ أكثر من 30 مليون فرد هم في ازدياد مستمر]، المتمسكة بأحكام الشريعة، وبعاداتها وممارساتها المنافية كثرة منها لحقوق الإنسان، ومحاولة فرضها في الغرب نفسه؟؟[1]