#عزيز الحاج#
في أوائل التسعينيات علقت في صحيفة لندنية دولية على رفض الإسلاميين العراقيين الشيعة من معارضي صدام قبول الجلوس معا مع الشيوعيين، الذين كانوا أيضا معارضين وضحايا. وقد تناولت، في الوقت نفسه، مسلسل كتابات لرموز قومية قامت بفتح سجلات الصدامات السياسية في أيام ثورة 14 تموز، لاسيما لعام 1959، باتجاه رمي كل المسؤوليات على الشيوعيين وقاسم، وتبرئة الذات، والحال، وكما كتبت: فإن الطرفين أساءا وساهما في تردي الأوضاع وفي تأجيج الصراعات.... وقبل اقتراف الشيوعيين لتجاوزات الموصل وكركوك، كان الطرف الآخر قد تورط مع الجهاز المصري [ عهد ذاك] في سلسلة من المؤامرات على حكم قاسم لدمج العراق قسرا، وبلا احتكام للشعب ومؤسساته، بالجمهورية العربية المتحدة... [أعدت نشر هذا المقال وسواه مما نشر في القدس العربي والحياة والزمان في كتابي اللون الآخر].
إن للسير والشهادات السياسية أهمية بالغة في التوثيق التاريخي كأساس للتقييم الموضوعي. ولكن المؤسف أن كمية كبيرة من السير الذاتية السياسية العراقية تشوبها الذاتية والتدوير وتبرئة الذات وتعليق المسؤوليات على الآخرين وحدهم. فمنطلقات التبرير ونزعة التشفي و الثأر تشوش الرؤية، وتعرقل عملية التقييم المنصف والموضوعي للأحداث السياسية. وهذا يستدعي غربلة علمية وتاريخية شاملة وصارمة وبلا تحيز ما لجميع الشهادات السياسية لاستخلاص الحقائق. وهي مهمة دقيقة جدا، وصعبة للغاية، قد لا يمكن لشخص واحد القيام بها ولو كان بقامة حنا بطاطو، وإن كان بطاطو محللا ومؤرخا غير عراقي وكان يتوخى السرد الدقيق وتوخي الحقيقة وليس سياسيا عراقيا، وقد وقع هو أيضا دون قصد في بعض الأخطاء. أما المطلوب من الساسة العراقيين أنفسهم، وحتى المتقاعدين منهم، فهو ليس فقط سرد الأحداث الماضية بأمانة، وبلا تعصب وعقد، وإنما أيضا استخلاص الدروس من التجارب للاستعبار العام والشخصي. والسياسيون الذين لا جرأة لهم واستعداد للاعتراف بأخطائهم معرضون لا محالة لتكرارها في أوضاع أخرى، وربما بحجم وتأثير سلبي أكثر. وهذا ما يحدث اليوم في العراق للغالبية ممن كانوا معارضين، وباتوا، وهم بعد إزاحة صدام، يقترفون أخطاء فادحة، بل ومنهم من يعيدون في الحكم إنتاج ممارسات النظام السابق نفسه. وهذا أيضا قد ينطبق على بلدان الربيع العربي؛ فمعارضو أمس معرضون، وهم في السلطة، لإعادة إنتاج ممارسات الأنظمة السابقة وربما بأخطر منها وأكثر ظلما وقسوة وفسادا.
إن النقد الذاتي معيار أساسي وجوهري لمصداقية أية سيرة سياسية ذاتية. وعندما تجري هنا وهناك، محاولات البعض لإعادة النظر في النظرة لبعض العهود والمراحل أو الشخصيات، فإن المطلوب أولا تمحيص المعلومات والتواريخ والأرقام تمحيصا دقيقا لكيلا يقع الباحثون في مطب جديد، فينتقلوا من النقيض للنقيض. أما التمحيص الدقيق، فقد يعيد الاعتبار للمجني عليهم ولو بعد أجيال، كما حدث في فرنسا مع حالة الملكة ماري أنطوانيت، التي نسبوا لها أقوالا وأفعالا ظلت لاصقة بها قرنا بعد قرن، حتى انكشفت الحقائق التاريخية منذ سنوات، فأعيد اعتبارها كامرأة عصرية وبسيطة، زاهدة في حياة البلاط. وتبين أن ما ألصق بها من قول أعطوا الكعك- أو الحلوى- للفقراء المتظاهرين كان ملفقا.
وفي عمليات التمحيص والتدقيق لابد أيضا من حسبان ومراعاة الظروف والأحوال الملموسة لكل حدث قبل المجازفة بالتقييم والحكم. وبالنسبة للشخصيات السياسية، فإن ما بين التجريم والتخوين وبين العصمة والمبالغة في التبجيل مسافة واسعة لأحكام من ألوان أخرى، لتقييم الشخصيات بأحجامها وأقدارها الحقيقية، وبكل جوانبها ومراحل تطورها، وبنقاط قوتها ونقاط ضعفها. فالسياسي هو، على أية حال، إنسان والمهم هل ترجح السلبيات في الكفة أم الجوانب الأخرى.
عندما أقول في الأصل كانت الثورة، أي 14 تموز، فلأن الصراعات السياسية والفكرية بين الوطنيين أنفسهم، ممن كانوا في خانة الثورة في الأصل، انفجرت فيها بحدة وعنف ودموية لم يسبق أن شهدها العراق الحديث، وأوضاع العراق المأساوية اليوم تمتد بجذورها أولا وخاصة لتلك الفترة العاصفة، ولكن أيضا لما قبلها، قاصدا الأخطاء الوطنية في العهد الملكي. وقد كتبت في شباط من عام 2001 بمناسبة ندوة عن 8 شباط الدامي:
إن مناقشة أحداث تلك الحقبة المؤلمة والعاصفة، والتي تركت بصماتها على المراحل التالية وإلى يومنا، هي لغرض الاستعبار وأمانة التاريخ، وليس لإثارة الحساسيات الماضية والعقد والضغائن. وهذا ممكن بتوخي الإنصاف، والابتعاد عن المجاملات، وعن التحامل وبتر الحقائق.
والمؤسف أن القلة القليلة ممن كتبوا سيرهم الذاتية في التسعينيات وما بعدها تحلوا بشجاعة النقد الذاتي لمواقفهم وللطرف السياسي الذي كانوا ينتمون إليه. فهناك رموز شيوعية لم تكن مستعدة للاعتراف بكامل الأخطاء التي وقع فيها الحزب الشيوعي ومناصروه بعد الثورة، ومنهم من حاولوا إلقاء كل المسؤوليات على القوميين وعبد الكريم قاسم وغيرهم، في حين أن الرموز القومية التي كتبت قد قامت بتعليق المسؤولية كلها على الشيوعيين وقاسم، ومنهم من انجر للافتراء عن عقد سابقة، وكنت احد ضحاياهم، وهكذا أيضا عن ساسة قوميين كتبوا شهاداتهم عن تجربتهم المرة في قصر النهاية عام 1989 وبعده. وكنت هنا أيضا هدفا سهلا في نظرهم، وإن لم ينزلقوا لمستوى افتراءات السيد البجاري من قناة الاتجاه، الذي ابتكر من القصص ما لم يجرؤ أحد من المعتقلين عهد ذاك، من شيوعيين أو قوميين، على ابتداعها. أما لو تمعنا في الجذر الحقيقي لهذا الموقف المتحامل والمتجني، من هؤلاء القوميين المعنيين هنا، [ طبعا لا أقصد كل القوميين العراقيين، الذين لي بينهم رفاق نضال سابق وعلاقات شخصية متينة ]، فإن أيام الثورة تلقي أضواء كافية على ذلك.
لقد خرجت من السجن بعد الثورة ليكون نشاطي الرئيسي الكتابة والعمل بين المثقفين الشيوعيين ومناصريهم. كنت أحرر في صوت الأحرار واتحاد الشعب وأكتب في الزمان، وألقي محاضرات، والتقي بالمثقفين اليساريين، وأكتب أحيانا تعليقات للإذاعة العراقية، ولم تكن لي أية صلة بالمعسكرات ولا بالتنظيم العسكري للحزب الشيوعي. وكان المحور الأكبر لمقالاتي [ جمعت في ثلاثة كتب في عام واحد] هو موضوع العلاقة بين القومية والديمقراطية ومناقشة مفاهيم وطروحات ومواقف القيادة الناصرية والقوميين العراقيين، من بعثيين وناصرين، حين فجروا بعد أسابيع قنبلة الوحدة الاندماجية الفورية مع العربية المتحدة، وحين رفع عبد السلام عارف الراية برغم أنه، لا هو ولا البعثيون العراقيون، حققوا أية وحدة مهما كانت بعد تسلمهم السلطة. كان شعار الوحدة الاندماجية الفورية انفصاما عن الواقع، ويتجاهل تباين الظروف والخصائص بين العراق ومصر وسوريا، وكان يعني تطبيق النموذج الناصري في إلغاء الأحزاب والحريات، وإقامة نظام الحزب الواحد والقائد الواحد- أي إقامة نظام شمولي قمعي. ونعرف أن عبد الناصر، وبرغم مآثره القومية والوطنية، قام بتسيير مظاهرات مصرية عام 1954 تحت شعار تسقط الديمقراطية، وذلك ردا على محمد نجيب.
لقد كتبت كثيرا في مناقشة تلك الدعوة وحيثياتها نقاشا هادئا، وكنت أخاطب القوميين كأخوة وطنيين ولكنهم على خطأ ، لاسيما وإن قنبلتهم الوحدوية فجرت الساحة السياسية، وافتتحت تدريجيا عهد الصراعات الحزبية – الحزبية، وخصوصا بين التيارين اليساري والقومي. أجل، كانت مقالاتي، وإلى ما قبل حركة الشواف، هادئة وحوارية، ولكن القوميين انزعجوا منها للغاية، وتحولت عندهم إلى عدو يجب استئصاله. وقد تعرض بيتي وأنا متزوج حديثا للقذف بالحجارة. ووضع البعثيون اسمي بعد حركة الشواف في صدر قائمة من يجب اغتيالهم. وهذا ما جعل قيادة الحزب الشيوعي أن تقرر سفري للدراسة في المعهد الحزبي الأعلى في موسكو، وكان ذلك في آب 1995 على ما أتذكر. ومن موسكو انتقلت عام 1962 لبراغ حتى عودتي سرا أواخر 1966 من براغ للعراق عن طريق سورية بمساعدة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.
إن حقد بعض الساسة القوميين السابقين على عزيز الحاج، لا يقل عن حقد بعض اليساريين المتعصبين والموتورين شخصيا، وكل من الطرفين مارس الفبركة والتشهير بكثافة منقطعة النظير، وبدرجة لا أعتقد أن سياسيا عراقيا متقاعدا آخر غيري تعرض لمثلها. وكان آخر مثال فبركة السيد عمر البجاري في قناة الاتجاه، والتي كذبتها بقوة وأطلب منه ومن القناة الاعتذار علنا.
لقد سيق لي في مارس 1993 أن ناقشت، في سلسة مقالات بصحيفة القدس العربي، كتاب أوكار الهزيمة للزعيم البعثي السابق هاني الفكيكي. وقد أعدت نشرها في الطبعة الثانية من كتابي مع الأعوام ، التي صدرت عام 1994. وإذ لاحظت أن المؤلف أصاب في نقد بعض جوانب التجربة البعثية، وبأنه اعترف بشجاعة قاسم وهو يواجه الموت، فقد أوضحت أن كتابه مصاب بعقدة التملص التام من المسؤولية الشخصية، وبنزعة إلقاء مسؤولية تردي الأوضاع والصراعات بعد الثورة على الحزب الشيوعي وقاسم. وقد قارنت كتابه بكتاب حنا بطاطو، وقلت: أين الثرى من الثريا! وبالنسبة للحملة الدموية في 8 شباط على اليساريين والديمقراطيين، فإنه يزعم أن قيادة البعث كانت قد قررت فقط نفي بضع عشرات من قادة الشيوعيين للخارج، وان ما وقع من تنكيل واسع وشامل لم يكن مقررا. والحقيقة أن تصفية اليساريين كان هدفا ثابتا من أهداف انقلاب البعث وما سمي بالجبهة القومية. غير أنه يصح أيضا أن المقاومة الشيوعية للانقلاب ساهمت في توسيع نطاق التنكيل والقتل وعمليات دفن الجثث في حفر جماعية. ولا يزال في الأسماع النداء الرسمي الهستيري الذي أصدره الحاكم العسكري رشيد مصلح الداعي إلى إبادة الشيوعيين. وحين يحاول الفكيكي مقارنة ما حدث في الزنزانات البعثية بالعهد الملكي، فإنه يتناسى أن التعذيب الذي كان يمارس في ذلك العهد كان محصورا بالشيوعيين، وكانت الأساليب المستعملة شبه بدائية وتعتبر سلطة[ زلاطة] مقارنة بأساليب البعث لعام 1993 وعام 1969. ولم يقتل معتقل واحد تحت التعذيب زمن الملكية، وكان هدف التعذيب مجرد انتزاع المعلومات وليس الإذلال والتصفية المعنوية والجسدية وإهانة الكرامات على الطريقة الستالينية والماوية. والفكيكي ينكر حادث اغتصاب إحدى المتهمات الشيوعيات في زنزاناتهم مع أنه حادث حقيقي ومعروف على أوسع نطاق. كما ينكر أن الشهيد المهداوي تعرض للضرب القاسي والعنيف جدا أمام دار الإذاعة، مع الإهانات، حتى قتل ضربا.
نعم، إن أخطاء الشيوعيين ومناصريهم في عهد الثورة كانت جسيمة وبشعة، ولاسيما بتمجيد بعض المقالات للسحل، وتشجيع بعض القواعد لهذه الممارسة الهمجية، وبانتهاكات الموصل وكركوك، وباستعمال بعض العسكريين الشيوعيين والمحسوبين على الحزب- وإن لم يكونوا حزبيين - أساليب إهانة المعتقلين القوميين، وغالبيتهم كانوا من العسكريين. وكذلك استخدام بعض أساليب التعذيب الجسدي معهم. وهو ما يجب الاعتراف به وإدانة كل أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي والأخلاقي للمعتقل مهما كانت ذنوبه أو جرائمه. ونعم، لا يزال نقد الحزب الشيوعي لتجربته في ذلك العهد ناقصا جدا، ويتطلب المصارحة الشجاعة. ولكن نعم أيضا للقول بأن ما اقترفه الانقلابيون في 8 شباط كان عارا أبديا، ولا يمكن تبريره بأخطاء الشيوعيين، وكان انقلابا اغتال الثورة وزعيمها والمئات من خيرة المناضلين الوطنيين من عسكريين ومدنيين.
وما دمنا بصدد موضوع التعذيب والثورة، فقد نسب لي الفكيكي في كتابه تهمة زيارتي لمعسكرات الموقوفين القوميين بتهمة التواطؤ مع الشواف. وقد كذبته حال صدور كتابه في القدس العربي وطلبت منه الاعتذار، ولم يفعل. كما كررت ذلك في مقالاتي المسلسلة عن كتاب أوكار الهزيمة في نفس الجريدة، والتي ألحقتها بكتاب مع الأعوام بطبعته الثانية. وقد ذكرت أنني طوال عمري لم أذهب لمعسكر جيش، وأن تقارير المعتقلين، الذين اشتكوا من التعذيب والذين طلب قاسم أن يسجلوا كل ما تعرضوا له وتقديمه له، لم يذكروا لا اسمي ولا اسم أي واحد من أعضاء ومرشحي اللجنة المركزية الشيوعية، بل ذكر العديد منهم أسماء ضباط،، منهم من كان شيوعيا ومنهم من حسبوا أنفسهم كذلك. وقد أحلت الفكيكي على كتاب سقوط عبد الكريم قاسم للعميد المتقاعد خليل إبراهيم حسين، والذي يكره عبد الكريم قاسم والشيوعيين. ففي كتابه الضخم نجد النصوص الكاملة لتقاريرهم، وهي في أكثر من عشرين صفحة. وفضلا عن كل هذا، فإن تربيتي العائلية والاجتماعية، وثقافتي، ونشأتي الأدبية، وعواطفي مع الضعفاء، من فقراء وحتى حيوانات، تتعارض تماما مع أي تبرير للقسوة والتعامل غير الإنساني، لا مع إنسان ولا مع حيوان.
إن الثقافة السياسية العراقية خاصة، والعربية عامة، تعاني، وكما كتبت مرارا، من تخلف فظيع بافتقارها لأوليات التواضع والحرص على الحقيقة توخيا للأمانة وللمصلحة العامة. وأيضا لانفصامها عن الواقع، ولاتسامها بشهوة العنف، عملا أو خطابا، في محاولة لاجتثاث المقابل المخالف. وهذا سبب رئيس لأن تكون الانتفاضات العربية مرشحة، لا للتقدم للأمام بالمجتمعات، بل ربما للرجعة للوراء.
إن الحديث في الساحة كثير وطنان عن الديمقراطية، ولكن معظم الساسة وكثرة من المثقفين المسيسين يفتقرون في سلوكهم العملي لأوليات الديمقراطية، التي تقتضي، أول ما تقتضي، احترام الرأي الآخر والحوار البناء، والتجرد من نزعة الإساءة للخصم السياسي، بل مقارعة الحجة بالحجة والاعتراف بالخطأ. فمتى يا ترى سوف نصل إلى أوليات الديمقراطية، فكرا وممارسة، و كأفراد وأحزاب وحكومات؟!
لقد كتبت عام 1997 في مراجعتي لمذكرات الفقيد الشيوعي زكي خيري [ كتابي ذاكرة تحت الطلب]:
إن كل الحركة الوطنية العراقية هي في أمس الحاجة للتصحيح والتجديد والتحاور والتلاحم. وليس لي، وأنا السياسي المتقاعد منذ زمان، والذي ساهم في الأخطاء الفادحة، أن أعطي دروسا سياسية لأحد. لكن كل ما أستطيعه محاولة تقديم شهادتي عن أحداث عشتها ومسيرة خضتها. وان من متطلبات ذلك رد الاتهام الباطل وتصحيح المعلومة الغلط.
والآن، فهل الوضع العراقي المتدهور الراهن يدل على أن كل النخبة السياسية العراقية الحاكمة اليوم، المعارضة بالأمس، وكل من يتتبعون الحياة السياسية كمواطنين مستقلين ويعلقون عليها، وكل من يقدمون شهاداتهم عن أحداث مضت، هم على مستوى المسؤولية؟![1]