#عزيز الحاج#
إن كتاب الباحث الكبير، الراحل حنا بطاطو، عن العراق يحتل- عن جدارة- مركزا خاصا في سلسلة الأبحاث الأكاديمية والتاريخية عن العراق، مجتمعا وسياسة. إنه في مقدمة الكتب التحليلية والموثقة والمتميزة عن الأحوال السياسية والاجتماعية في العراق الحديث، وإلى بداية السبعينات. وهنا أنصح بمراجعة النص الإنجليزي لأن في الترجمة العربية ثغرات قد أمر عليها لاحقا، برغم الجهد الكبير للمترجم، الذي أحسن اختيار الكتاب للترجمة. وربما كان الأفضل لو قام بالمهمة أكثر من مترجم لضخامة الكتاب، ولدقة الموضوع، وكثرة المصادر.
وقد خصص الدكتور بطاطو من كتابه مكانا واسعا للحركة الشيوعية العراقية منذ نشأتها، مستندا لطريقة علمية موضوعية، وهادئة، ومنصفة لحد كبير، متناولا تطور تلك الحركة وأحداثها وانقساماتها حتى بداية السبعينيات المنصرمة.
وإذ أسجل هذا وأنا على قناعة تامة، فلا يمكنني ألا أتوقف أيضا عند نقاط ضعف وأخطاء سبق لي أن تناولتها أكثر من مرة في الصحافة. وكنت قد أرسلتها للمؤلف في حياته كملاحظات قبل نشرها، فلم يجب، وأرسلت له رسائل أخرى، ولكن بلا جواب. ولعل أشغاله أو صحته لم تساعد. والمشكلة أن ما كتبه في مجلده تحول إلى المصدر الأول والمعتمد لغيره من الباحثين في موضوع الحركة الشيوعية العراقية، ومعظمهم راحوا يستنسخون ما كتبه حرفيا، سواء كتبوا بالعربية أو بالإنجليزية أو بلغات أخرى، وعلى الأخص في موضوع القيادة المركزية.
لقد اعتمد المؤلف على وثائق الأمن العراقي في العهد الملكي [ التحقيقات الجنائية]، وهذا كان صحيحا، ولكنه في بعض الحالات لم يدقق، بل انساق وراء تلك المعلومات بلا تمحيص. كما أنه مر بسجن بعقوبة عشية ثورة 14 تموز ومعه تخويل رسمي بمقابلة من يشاء من السجناء الشيوعيين. وبالفعل فقد قابل المرحوم زكي خيري والسيد بهاء نوري، ولكنه لم يطلب مقابلتي. كما لم يتصل بي شخصيا فيما يخص القيادة المركزية، وحتى لم يدرس أدبياتها ليستند إليها، بل اعتمد على مقابلات مع بعض مناوئي تلك الحركة. وهذا أيضا ما فعله الدكتور مجيد خدوري في مؤلفاته، ولكن الرجل أجاب على رسائلي بكل تواضع ووعد بتصحيح بعض المعلومات، فضرب مثلا رائعا للباحث المنصف والمتواضع.
ليست مقالاتي هذه من باب تقييم مواقف الحركة الشيوعية أو مواقفي أنا، وقد غيرت كثيرا من القناعات كما رأى القراء من حلقات كتابي [رحلة مع تحولات مفصلية]، الذي نشرت حلقاته تباعا في الحوار المتمدن. ما يعنيني هنا هو التوثيق وتدقيق المعلومات.
من النواقص التي تستوقف أن المؤلف لم يعط دور سلام عادل حقه لحساب دوريْ بهاء نوري والراحل زكي خيري. وبقدر ما يتعلق الأمر بالحرص على الكوادر وتجميعها، فإن سلام عادل كان نموذجا رائعا لهذا الحرص منذ تبوئه قيادة الحزب الشيوعي في منتصف الخمسينات. فبفضل سياسته المرنة اندمجت كوادر ماركسية مهمة في الحزب كانت خارجه، ومنهم مجموعة راية الشغيلة بزعامة عزيز محمد، ومجموعة عزيز شريف ومنهم عامر عبد الله. وسلام عادل هو الذي أعاد للقيادة بهاء نوري الذي كان قد حوسب في سجن نقرة السلمان وعوقب. وهو الذي قدم زكي خيري ومحمد حسين أبا العيس للانضمام لعضوية المكتب السياسي. ما أسجله بهذا الصدد لا يعني أن الراحل سلام عادل-حسين الرضي- لم يقترف أخطاء سياسية مهمة، وخاصة بعد الثورة باتجاه التشدد السياسي[ ليس هنا مجال بحث ذلك]، ولا أن بهاء لم تكن له مواقف سياسية صائبة في ظروف معقدة بجانب الأخطاء، فلم يكن أي منا معصوما من الأخطاء. ولكن إنصافا، فلنقارن فيما يتعلق الأمر بتجميع الكوادر:
الراحل محمد حسين أبو العيس جازف بنفسه وهو في منفى نقرة السلمان عام 1949، فهرب لبغداد للالتحاق بالحزب. ولكن الحزب لم يحتضنه، فسافر سرا لإيران لدى حزب تودة وعاد بعد الثورة. والكادر المتقدم العسكري رشيد عارف ألقى بنفسه من القطار وهو سجين للالتحاق بالحزب، فلم يفتح الحزب بابه له. وفي فترة أواخر الأربعينات وفي الخمسينات كان الحزب يشهّر في صحافته بشيوعيين مطاردين، وبأسمائهم الحقيقية، من أمثال شنورعودة. كما شهرت تلك الصحافة بسجناء سياسيين في نقرة السلمان بأسمائهم. ومنهم من وصموا بالجاسوسية، ولكنهم في الحقيقة كانوا مناضلين صلبين وصادقين. وهناك حوادث وحالات كثيرة عن التفريط بالكوادر، ولعل الأهم السياسة المتشددة التي أدت لانقسام عام 1953، وأقصد خروج مجموعة من الكوادر المهمة ومنهم عزيز محمد وتشكيل منظمة [راية الشغيلة].
***
خالد بكداش والحزب الشيوعي العراقي:
من مشاكل الراحل بطاطو أنه لم يكن مطلعا بما فيه الكفاية على مجريات وتفاصيل العمل الشيوعي العراقي، ولحد أنه يختلف مع الشيوعيين العراقيين حتى في تحديد تاريخ قيام الحزب. والمعلومات الواردة في القسم الثاني من الكتاب عن موقف الراحل خالد بكداش من قيادة فهد والحزب العراقي لا تقدم صورة دقيقة عن الموضوع. والحقيقة أن الزعيم الشيوعي السوري الراحل كان يطعن في فهد لمن يقابلهم ويغمز من قناته كلما سنحت له الفرصة. وهذا أيضا ما كان يفعله بالنسبة سلام عادل بعد الثورة. كان بكداش يتهم فهدا بالتطرف السياسي والانعزالية. ولست هنا في تقييم هل هذا الاتهام صحيح أم لا، بل في مجرد تسجيله. كما كان يردد أن الشيوعيين العراقيين يجب أن يراعوا العامل الديني في المركز القيادي- في إشارة لمسيحية فهد. وقد سمعت شخصيا من مراسل صحيفة لبراسيون الفرنسية في لقاء له مع المسئول الحزبي الأول يهودا صديق – بعيد اعتقال فهد في بداية عام 1947- قوله إنه سمع من خالد بكداش بأن الشيوعيين العراقيين متشددون ومتزمتون. ربما كان في هذا الحكم بعض ما يبرره، ولست هنا لأناقشه، بل لذكر حقيقة موقف بكداش من سياسات الشيوعيين العراقيين عهد ذاك. وهو ما فات حنا بطاطو.[1]