#عزيز الحاج#
ما دام هناك من لا يزالون يستخدمون لغة التخوين والتجريم، فلعل في حالة الشهيد زكي بسيم، المساعد الأول لفهد، درسا لأمثالهم. وقد تطرق بطاطو لمحاكمة فهد وزكي والشبيبي ورفاقهم، وأورد شهادة زكي عن موقفه في التحقيق. فقد قال أمام المحكمة وكانت علنية بأن إفادته انتزعت منه بالتعذيب. [الترجمة العربية لم تستعمل النص العربي الأصلي]. والقصة أن زكي بسيم كان مريضا وضعيف الجسد، وقد تعرض للتعذيب بضربه بالقضبان وحجزه في مرحاض قذر كريه الروائح. وكان في البيت الحزبي الذي اعتقلوا فيه سجل فيه أسماء المئات من أعضاء حزب التحرر الوطني السري مع مواصفاتهم وعناوينهم. وحاول من في البيت إتلاف السجل عند المداهمة فلم يفلحوا. أمام المحققين شهد زكي بسيم بان السجل يشمل فعلا أعضاء حزب التحرر، ثم أنكر إفادته في المحكمة. في السجن كان موقف فهد هو التالي، إذ قال مخاطبا زكي رفيق كنت أحب أن لا تقول ذلك. وحين جُروا جرا من السجن للحكم بالإعدام عام 1949 فقد صعد الجميع أعواد المشانق بلا تخاذل. وكنا في سجن نقرة السلمان نستهين بمن أدلوا في ظروف معينة ببعض الاعترافات، ولا نشركهم في الندوات الحزبية. وجوابا كان منهم من يلقون بنفسهم إلقاء أمام النار في مجازر السجون في عملية شبه انتحارية.
الحاج لم يهدم التنظيمات، ولم يجرّ للاعتقال طليقين، بل قد جروه هو جرا واجتهد بعد التعذيب ومحاولات اتهامه بالتجسس أن يؤيد اعترافات الآخرين. وبعد مفاوضات طويلة مع صدام مباشرة اجتهد بأن يعلن عن أخطائه واعترافاته علنا كثمن ليس فقط لإنقاذ نفسه وتجنيب عائلته مزيدا من الأحزان، ولكن أيضا كثمن لإطلاق سراح رفاقه الذين سرعان ما أطلق سراحهم دفعة بعد دفعة. ومع ذلك فلم أكن مطمئنا بالنسبة لي من ضمان حياتي أنا، فكتبت وصية خبأتها في سروالي وفيها أن ضميري مرتاح، وفيها تحية للعائلة وللجواهري وكان قد عاد للعراق واستقبل استقبالا حسنا. نعم، لم أكن أهاب الموت بتاتا، بل في بعض اللحظات كنت أتمنى الانتحار لو استطعت لأن سمعتي تشوهت، ولأن اتهامي بالتجسس هزني هزا. وتذكرت محاكمات قادة بلاشفة مخلصين أجبروا تحت التعذيب والمراوغة على الاعتراف بأنهم كانوا جواسيس. نعم، لم أخش الموت، بل ما كنت أخشاه أن يكون مصيري تحت التعذيب كمصير أولئك البلاشفة الذين لم يرد اعتبارهم إلا بعد فوات الأوان. تلكم ظروف قاسية وموقف صعب ومعقد انتقدت نفسي عليه في كتابي ( شهادة للتاريخ)، ولكنه كان موقفا فرض نفسه، وخصوصا وأنني كنت الأكثر تطرفا بين رفاقي، وقدت الحزب بسرعة للاصطدام بالحكم البعثي الجديد دون مراعاة لتوازن القوى، وبلا انتظار وصبر كافيين، وخلافا لمواقف بعض رفاقي، الذين كانوا يدعون للتأني، ومنهم الشهيد الصديق أحمد الحلاق الذي قتل تحت التعذيب قبل اعتقالي.
وقد تناول بطاطو شأن القيادة المركزية وتاريخي، وخصوصا من الصفحات 1069 وما بعدها من الطبعة الإنجليزية. وقد أشرت لخطا نسبة بيان [لفيف] لشخصي. لكنه كان دقيقا في النص على ان الحركة كانت مستقلة في الصراع السوفيتي- الصيني، وكنا نرى الطرفين على خطا مع التركيز على الجانب السوفيتي المتهم بالتحريفية. وهنا نجد أن من جاؤوا بعد بطاطو لم يوفقوا في التشخيص، فمنهم من نسب لنا النزعة الماوية، وهذا باطل، ومنهم من قال إن الحركة كانت غيفارية. وهذا أيضا خطأ. وقد شرحنا موقفنا من غيفارا وإستراتيجيته مرارا في أدبياتنا السرية وقراراتنا، وإذ أثنينا على روحه النضالية، وتمسكه بقضية المظلومين، فقد ميزنا سياستنا عنه. غيفارا أخذ معه 12 مناضلا لإشعال ثورة في بلد مجاور غريب عنه، وحيث لم يكن هناك من يدعمه من تنظيمات أو حزب. وكانت خطته إحداث ثورة مسلحة شاملة تدريجية بتفجير معارك العصابات من مكان لمكان كما حدث تقريبا في كوبا مع اختلاف الظروف الداخلية والدولية، وعلما بان كوبا كانت بلد كاسترو. أما حزب القيادة فكان مؤلفا من مئات المناضلين المنضمين لتنظيمات في معظم أنحاء العراق، ولاسيما في بغداد والجنوب، ومن عمال ومثقفين وطلبة وفلاحين وكسبة. وكنا نشترك في المظاهرات والإضرابات السلمية، ونعقد تحالفات سياسية مع بعض القوى السياسية. ومددنا اليد للتعاون مع اللجنة المركزية، سياسيا ومهنيا، ولكن دعوانا قوبلت برفض بات وجفاء تام. أما حركة الأهوار، فكانت واحدة من أساليب الكفاح التي أدرجناها في الإستراتيجية- أي لم تكن بؤرة ثورية يعتمد عليها للانتقال لكل أنحاء العراق تدريجيا. هنا اتفقنا مع الغيفارية على أنه عندما تكون الظروف ناضجة لعمل مسلح مهما كان صغيرا فلا ينبغي تفويته. وربما كان بين بعض المناضلين في الأهوار من كانوا حقا غيفاريين، ولكنني أتحدث عن السياسة المقررة للقيادة. وقد كتبت في صحيفة الحياة عام 1997 مقالا عن غيفارا أشدت فيه بروح التضحية لديه ودفاعه عن الشغيلة. وختمت مقالي بالقول إنه لحسن الحظ قد رحل قبل تحقيق حلمه بالاستيلاء على السلطة وإلا فقد كانت أيديولوجيته ستقيم حكما شموليا قمعيا بلا حريات كما في الدول الاشتراكية [السابقة]، ومنها اليوم كوبا وكوريا الشمالية. و أن نكون ضحايا أفضل من أن نتحول لجلادين يظل التاريخ يلاحق جرائمنا، كما لوحق ستالين وماو وكيم إيل سونغ والخمير الحمر، وسائر الحكام الشموليين، ومهما كانت أيديولوجيته. والعمل السياسي ليس انتحارا وتجاوزا على الواقع ومجازفات. وحين قال برتراند رسل إنه غير مستعد للموت من أجل أفكاره فقصده، وهو في دولة ديمقراطية، الأفكار السياسية التي تتغير من وقت لآخر، ولم يقصد المثل الإنسانية النبيلة التي يجب التمسك بها بثبات مهما تبدلت المواقف السياسية ومنطلقاتها الفكرية. وهذا ما ورد في مقالي الأخير. ورسل أسس منظمة كانت تساند الحريات وقضايا المضطهدين، وفيها كان يعمل الشهيد خالد أحمد زكي. إن الواقع ،أي الحياة، أغنى من أية نظرية. ويكتب جورج طرابيشي أن ماركس نفسه عاد بالنسبة له مفكرا بارزا من مفكرين آخرين، وكمفكر، مساو لغيره من المفكرين في تاريخ البشرية، خسر ماركس المكانة التي أنزله التلاميذ فيها. ولكنه ربح بالمقابل رتبة المفكر بل الفيلسوف ، التي كان التلاميذ إياهم قد جردوه منها.
ويشير بطاطو إلى بعض العمليات، كالاستيلاء بالقوة على أموال الدولة كما حدث في السليمانية مثلا، وهذا صحيح، وهو يقارنها بعمليات مماثلة قام بها البلاشفة الروس في العمل السري بموافقة لينين. أما الخطأ فحين يصدق الحكايات التي راجت عن أن القيادة استهدفت اغتيال شخصيات بعثية، ومنهم صلاح عمر العلي، فهذا باطل تماما، كما شرحنا مرارا، فلم نستهدف أية شخصية سياسية، ومهما كان اتجاهها، وإنما كنا نقتدي بالحركات الشيوعية السرية في استهداف ضباط أمن يمارسون التعذيب الوحشي مع المناضلين في التحقيق- أي كان المنطلق أمنيا بحتا. وقام الحزب بمحاولتين من هذا النوع في عهد عبد الرحمن عارف وبمحاولة في عهد البعث. غير أن ما حدث أيضا هو أن بعض التنظيمات اشتطت عن الخط الرسمي، ولاسيما منظمة الكوت، فراحوا يستهدفون عناصر من الحرس القومي لعام 1963 وهو ما رفضناه بحزم، ولو لم نقف بصلابة ضد الشطط لتحول الحزب لمنظمة اغتيالات فوضوية.
في 9 سبتمبر 1999 نشرتُ في صحيفة الزمان [ وبالمناسبة فقد نشرت فيها مواد كثيرة مرتبطة بالموضوع] مقالا بعنوان [عودة إلى ما جرى وما له صلة بأشياء كثيرة]. وكان المقال مكرسا لدحض بعض القصص والاتهامات التي نشرت في الصحيفة وغيرها.
في ذلك المقال أشرت إلى ما جرى لحركة القيادة من تشويه، وقلت إنني شخصيا لعبت دورا في ذلك بندوتي التلفزيونية. ولكنني عدت للتصحيح وعلى صفحات جريدة الثورة نفسها [ في حزيران 1969] قبل إطلاق سراحي، وذلك في الرد على سلسلة مقالات لعزيز السيد جاسم، وعلى مقالات بعض كتاب شيوعيين. وكانت مقالات عزيز السيد جاسم قد وصفتنا بالقتلة المجرمين واللصوص، وطالبت بمحاكمتنا على هذا الأساس. وقد أوضحتُ في مقالي علاقاتنا الوطنية، وحرصنا على وحدة العمل النقابي والمهني. وذكرت فيما يخص العلاقة مع البعث أن أحمد حسن البكر كان قبل الانقلاب البعثي الثاني قد اتصل بنا عبر شخصين أحدهما كان زميلي في الكلية، وهو على الرشيد في حزيران 1968، وأبلغنا بنية الحركة الانقلابية واقترح تأييدهم. كان جوابي أننا نطلب أولا إصدار بيان بإدانة صريحة لجرائم البعث في 1963 تجاه الشيوعيين والديمقراطيين. وكان جواب البكر أن من اقترفوا الجرائم مفصولون وهم مع السوريين. على كل تركنا الأمر، ثم حدث الانقلاب.
في نهاية مقالي ذكرت أن تجربتنا تخبطت، ثم انهارت بفعل القمع الوحشي وبحكم ما ورثنا من نواقص الماضي وأخطائنا التكتيكية المتسمة بالتسرع وبشيء من روح المزايدة مع اللجنة المركزية. ومع ذلك فلتلك التجربة فضل اتخاذ الموقف المستقل عن الوصاية السوفيتية وعن كل محور شيوعي دولي آخر، وأننا حاولنا الانفتاح على الهموم الوطنية والعربية. ولابد أيضا من ذكر إدانة بياناتنا للنعرات الطائفية بشكليها. فقد أدنا الممارسات الطائفية لحكومة عبد السلام عارف، كما أدنا في الوقت نفسه ردود الفعل الخاطئة على تلك الممارسات.
هذا ويبقى كتاب حنا بطاطو مرجعا كلاسيكيا مهما عن العراق والحركة الشيوعية. وكما كتبت عام 1998 فإنه لا غنى للباحث المختص عن قراءة هذا الكتاب في نصه الإنجليزي،مثلما لا غنى لأي منا عن دراسة موسوعة علي الوردي، وعن تاريخ الوزارات العراقية للحسني. وتحية عطرة لذكرى ذلك الرجل الذي أنجز ما عجز عن إنجازه الشيوعيون العراقيون أنفسهم.[1]