صدام الحضارات أم صراع الإمبراطوريات - الجزء الثاني
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 7114 - #22-12-2021# - 10:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
غابت المقولة الأصح من على مسرح الحوارات منذ عرضها إلى اللحظة، مع استثناءات، رغم الضجة في العالمين الثقافي والسياسي على مدى العقود الثلاث الماضية، ولم تتم دراسة ومعالجة نواة الخطأ، والتي تحتضن في ذاتها منطق على أن كل إمبراطورية ترافقها حضارة، وكل حضارة لا بد وأن تقودها إمبراطورية، وهنا تكمن جدلية الخطأ، فقد برزت حضارات لم تنتشر بسند من الإمبراطوريات، بل ولم تكن تساندها إمبراطوريات. وبالمقابل سادت إمبراطوريات دون أن تكون لشعوبها حضارة، بل استفادت من نتاج الأمم التي هيمنت عليها، فسخرت أدواتها وطورت بعضها لحروبها وتوسع سيادتها.
فالسومرية والفرعونية وبعض أطراف الحضارتين الصينية والهندية، وفي وقتنا الحالي الحضارة اليابانية وغيرها لم تتجاوز جغرافياتها إلا ما ندر، ولم تهمين على الشعوب المجاورة، رغم ما نشرته من الإبداعات في العالم، وبالمقابل شكلت قبائل رعوية إمبراطوريات كانت تعيش التخلف الثقافي، مثل الإمبراطورية المنغولية والعربية-الإسلامية، والعثمانية والصفوية، وغيرها.
الإمبراطورية، وهنا لا نتحدث عن الكارتيلات الاقتصادية التي ظهرت مع تطور الرأسمالية العالمية وتوسعها وتجاوزها للجغرافيات واحتكارها للأسواق، وهو موضوع متشعب الأبعاد وعميق. بل عن الأنظمة السياسية-العسكرية-الإدارية، التي في الواجهة أفراد يمثلون الحكومات، مثلما كان الملوك والأباطرة، وفي الواقع خلفهم شرائح من الناس، يسخرون المجتمع والمؤسسات الحضارية لغاياتهم، يعملون على تطوير منتوجاتها بما تخدم مصالحهم، وفي مقدمتها أدوات الدمار، السلاح، ومن ثم أدوات الإنتاج والنقل لتسريع التوسع والهيمنة.
وفي عصرنا هذا أمريكا، وأوروبا والإتحاد السوفيتي سابقا، والصين اليوم، إمبراطوريات، ترافقها الحضارات، فبعدما خلقت مؤسسات شعوبها الثقافية الإنترنيت وتوابعها، أقدمت القوى السياسية وأنظمتها على تطويرها وتسريعها، وسخرتها لطموحاتها التوسعية، مثلما تفعله مع الأسلحة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل النقل، وأدوات الإنتاج، وغيرها من المجالات الممكنة الاستفادة منها، ولم تتوانى يوماً من خلق الصراعات والحروب كلما تطلبت مصالحها، بعكس ما تطمح وتقدم عليه المؤسسات الثقافية والإنسانية، ففي الوقت الذي تقوم فيه الأخيرة على ترسيخ السلام لتطوير البشرية وتحسين حياة الإنسان، تعمل الأنظمة السياسية على خلق الحروب، ولا يهمها الدمار، وتوسيع بؤر الصراع، بقدر ما يهمها مصالحها.
حتى الأديان سخرتها الأنظمة لذاتها، ففي المسيرة التاريخية للبشرية، نشرت شرائح من الناس العقيدة كركيزة للتسييد وتكوين الدول، للتحول إلى إمبراطوريات، كالعربية-الإسلامية، والعثمانية-الإسلامية السنية، والصفوية- الإسلامية الشيعية، لكنهم لم يخلقوا حضارة، بل الأولى فيهم لم تتمكن من الحفاظ على مخلفات الحضارتين اللتين دمرتهما، وما ظهر لاحقا من التطور الثقافي، وساهمت في مرحلة متأخرة من إنقاذ أوروبا من عصر الظلمات، كانت بمساعدة أبناء تلك الحضارتين اللذين وبعد وعي لقادة الإمبراطورية الإسلامية سمحوا لهم بالعودة إلى مسرح الثقافة، وكل ما يروج عن الحضارة الإسلامية، هو خلط بين العقيدة والمؤسسات الحضارية، ومعظم الدراسات في هذا المجال تنقصها المنطق، فما تم وتضخيمها لم تكن أكثر من مقارنة بين تطور ثقافي مقابل الظلمات المعاشة فيها أوروبا حينها، لكنها بدراسة مجردة ستتبين ستظهر بعدها عن الأسس الحضارية، وتوصيفها كحضارة أما تضخيم للعالم الإسلامي، إما للتغطية على التقصير والكوارث التي رافقت الإمبراطورية العربية-الإسلامية، ولا تعني هذا أنها لم تساهم في مراحل على تطوير الثقافة العالمية، لكن بين هذه والأسس التي تقام عليها الحضارة بون شاسع.
فعلى خلفية هذا التيه يسود المجتمع الإسلامي ومنذ قرن وأكثر نزعة مهاجمة الغرب تحت منطق المظلومية، متناسين أن ما تقدم عليه الحركات الإسلامية من أعمال هي في عمقها تحريض للغرب، كخطوة استباقية لإيجاد سبب على ديمومة الصراع معها، لأن الإسلام السياسي في عمقه على حالة التأهب الدائم وجاهزة للوثبة في أية لحظة، وهي لا تبحث عن الصراع كأداة لتطوير الذات بقدر ما هي تعمية لشعوبها للتغطية على تخلفها ومساوئها لمجتمعاتها، فالعلة في الذات، ويدرج على أنها تصدر من الخارج الغربي، ولا تعني هذا أن العالم الغربي بريئة بل تلائم مصالحها أيضا هذه النزعة والعالم الإسلامي يقدمها لهم بكل سهولة ويسر، وقد كانت ملوك وأباطرة أوروبا في العصور الماضية تمارس نفس المنهجية فيما بينها مسخرة العامل المذهبي. كما وتتناسى قادة الإسلام السياسي أو لا تود أن توعي مجتمعاتها على أن الغرب كقوى سياسية مصالحها فوق كل الاعتبارات.
فالإسلام السياسي، وتهجم حركاتها تحت صيغة المظلومية، حرفتها إلى أن تعرض الرسالة الإلهية كإيديولوجية، لأنها كانت أكثر ملائمة في صراعها كقوى وأنظمة سياسية مع العالم الغربي المستفاد من أسلوبها، فكلا الطرفين كانوا يبحثون عن أعداء في كل مكان، فبدون أعداء خارجيين كان الصراع يثور في الداخل، تداركت القوى الحضارية الثقافية هذه الجدلية الكارثية بحنكة، وحاولت عن طريق المؤتمرات ومنظمات حقوق الإنسان، على تنمية العلاقات والأبعاد الروحانية بين الشعوب، وواجهت القوى السياسية الاستعمارية، لكن أنظمتها كانت أقوى منها، ولم تتمكن من إيقاف نهبها لتلك الشعوب مادة وروحانية، وهو ما أدى إلى تنمية عدم الثقة بالعالم الغربي بين الشعوب.
قادة القبائل العربية الغازية، ومن ثم القوى السياسية-العسكرية الطامحة للهيمنة والتمدد، قوضت الحضارتين، الساسانية، وجزء من الرومانية في مناطق الشام والأناضول، ولم تكن تملك أية مقومات حضارية أو ثقافية، باستثناء عقيدة كانت لا تزال في بدايات التكوين، ولم يكن الصراع بين الثقافات، بل دمرت مقومات وأدوات تحسين معيشة الإنسان وتطوير ثقافته ومداركه. بعكس الحضارات اليونانية، والساسانية، والرومانية بشكل خاص المستمرة جزئها الشرقي قرابة ستة عشر قرنا، ساهمت في تطوير ثقافات وحضارات بعضهما، في الوقت الذي كانت الأنظمة السياسية والعسكرية تخلق بالمقابل الدمار والحروب، والتي هي من مقومات توسع الإمبراطوريات، وكانوا يساهمون في تطوير مؤسسات حضارتها لتسخرها لغاياتها التوسعية. فبدراسة التاريخ نلاحظ أن الصراع بين قوى الإمبراطورية اليونانية والأخمينية كانت بين القادة السياسيين والجيش، وكانوا يقحمون مؤسسات الحضارتين في صراعهم، ومثلها بين الإمبراطوريتين الساسانية والرومانية، فرغم الحروب والدمار والكوارث اندمجت حضاراتهما وتداخلت وأتممت بعضها.
في القرون الأخيرة وحيث الإمبراطورية الأوروبية ولاحقا السوفيتية والأمريكية، اللتين برزتا على أنقاض الأولى، نسخت المنهجية ذاتها التي كانت تربط الإمبراطوريات بحضاراتها، لكنها أكثر تعقيدا، على خلفية التطور البشري وتشعب مؤسساتها، وتوسع المصالح، والتداخل العميق ما بين المؤسسات الثقافية-الإنسانية والسياسية-العسكرية، إلى درجة أن الصراع بينهما لا يظهر بشكل واضح، وهو ما يؤدي ببعض الحركات السياسية كالكوردية على سبيل المثال بإعدام توجهات الثقة بكلية الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، دون التمييز بين المؤسسات الثقافية والإنسانية، وإداراتها، وبالتالي تزداد أخطاء الحراك في البعدين السياسي والدبلوماسي. وبمثل هذه المنهجية أخطأ هنتنغتون، وقدم المفهوم على أنه صراع بين الإيديولوجيات، متناسيا أن الأنظمة سخرت الأيديولوجيات كأدوات لإقناع الشعوب والأنظمة؛ للوقوف إلى جانبها في صراعها مع الإمبراطورية الأخرى.
فاللغط ما بين بشائع الإمبراطوريات وفضائل المؤسسات الحضارية، يدفع بالشعوب وحراكهم التهجم على كلية العلاقات الدولية، دون التمييز بين المؤسسات الحضارية وخدماتها والأنظمة الإمبراطورية ونزعاتها الأنانية، حيث المصلحة قبل القيم والعلاقات الإنسانية، وهو ما يؤدي إلى انعدام الثقة بها، وبالإدارات المتحكمة في مؤسسات الدول الكبرى.
تجاوز الصراع في عصرنا هذا دائرة الحكومات والإدارات السياسية إلى حيث الشركات الرأسمالية العالمية والتي كثيرا ما تكون من مصلحتها ديمومة البؤر الساخنة، فتساهم وبقوة في تطوير أدوات الإنتاج، كمستلزمات الصراع، فتشترك مع الأنظمة السياسية لتكوين النظام الإمبراطوري، فلم ينتبه هنتنغتون في مقاله المنشور عام 1993م، على أن الصدام لا يكون بين جماعات من ثقافات مختلفة، بل بين قوى تتحكم بالشعوب، والفاصل دقيق بين الحالتين لكنه كارثي، فحسب مقولته تنتهك المجتمعات حضاراتها وثقافتها من أجل مصالح القوى المسيرة لها، متناسيا أن القوى السياسية -الاقتصادية هي التي تسخر الناس وأدواتهم وروحانياتهم، وبالتالي فالصراع ليس بين الحضارات بل بين المتحكمين بها والذين يبحثون عن تكوين الإمبراطوريات.
فمقولة، الإمبراطوريات، والحضارات تكمل وتغني بعضها، ساذجة، وتعكس ضحالة الإدراك لجدلية الصراع، ومن هو المهيمن ومن التابع، فهناك خلط فاضح في المفهوم ولدى معظم الذين تناولها بالمدح أو التهجم، فالصراع ذاته يجري اليوم ضمن مؤسسات الدول الكبرى، أمريكا وأوروبا وروسيا والصين، واليابان، وكل تعامل معهم يجب أن تكون في الحسبان هذه المعادلة، وإلا فإشكالية التحدث عن الثقة بهم وعدمه تعكس ضحالة الوعي والجهالة السياسية.[1]