مشكلة توحيد اللغة الكردية
بيير روندو
مشكلة توحيد اللغة الكردية”
دراسة منشورة في “مجلة الدراسات الإسلامية” / باريس 1936
ترجمها عن الفرنسية: إبراهيم خليل
ليس من السهل, في وقتنا الحالي, القيام بإحصاء تفصيلي لمختلف أنماط الكلام في اللغة الكردية, ولكننا مع ذلك نعلم أن الاختلافات فيما بينها, رغم عددها الكبير, ضئيلة بحيث يمكن حصر أنماط الكلام الكثيرة هذه عملياً في عدد محدود من اللهجات المتمايزة. وعلاوة على ذلك, فإن بعض تلك اللهجات – كالظاظائية مثلاً – مستخدمة في بقعة جغرافية صغيرة جدًا ومن قبل متكلمين قلائل للغاية، وهي, إذا جاز القول, خارج الاستخدام في المجالات الأدبية. وبالنتيجة, فإن اللغة الكردية منقسمة فعلياً إلى لهجتين رئيسيتين هما: الكرمانجية (الكردية الشمالية) والصورانية (الكردية الجنوبية) والغالبية العظمى من الكرد يستخدمون واحدة من هاتين اللهجتين وهما, في الحقيقة, الأكثر انتشاراً في الاستخدام الأدبي(1).
هذه الازدواجية اللغوية, التي فرضت على الكرد الكثير من عوامل التقسيم الأخرى, قد أرغمت المتعلمين الكرد الراغبين في الاطلاع بشكل واسع على لغتهم أو النهل من منابعها الأدبية أن يتأقلموا مع كلتا اللهجتين؛ كما أنها قلصت من مساحة الاستفادة من الأعمال النادرة المنشورة في هذه اللهجة أو تلك وهذا ما شكّل عقبة حقيقية أخرى أمام وصول عامة الناس إلى التعليم والتثقف. لذا فإن “مشكلة توحيد اللغة“ مطروحة بشكل مُلحّ أمام المثقفين الكرد المهتمين بتطوير ثقافتهم القومية. وسنرى, مع ذلك، أن لا حل لتلك المشكلة في المدى المنظور.
كان من المفترض أن يتم البحث عن حل لهذه المشكلة في العراق لأن هذا البلد يشتمل فعلياً على مناطق ناطقة بالصورانية وأخرى ناطقة بالكرمانجية, واللغة الكردية هي, إلى حد ما، لغة التعليم الرسمية ولغة التدريس في الأراضي الكردية (2). ومع ذلك، لم يحدث أن كانت قضية توحيد اللغة مطروقة بشكل مباشر في العراق.
قبل إلحاق ولاية الموصل بالعراق سنة 1925، كانت الغالبية العظمى من كرد العراق (منطقة السليمانية) في الواقع يتكلمون الصورانية. وكانت الأهمية السياسية للسليمانية، وهي مركز الحركة الوطنية الكردية, قد جذبت اهتمام السلطات البريطانية ليس فقط إلى اللهجة الصورانية ولكن كذلك إلى لهجات اخرى في المدينة مستخدمة ولها خصوصيتها. على الرغم من طابعها الخاص والمحلي للغاية وعدم اكتمالها(3)، ولأسباب تعود إلى استفادة الحركة الأدبية منها بالإضافة إلى جدواها الواضحة في التعليم في المدينة باللغة الكردية (4)، علا شأن لهجة السليمانية كأساس، منذ البداية، في الدراسات القواعدية والألسنية الكردية (5)؛ وتم اختيارها لإعداد الكتب المدرسية الكردية وبالتالي فقد اعتمدت رسمياً لتكون “اللغة الكردية الأدبية الوحيدة الموجودة في العراق (6). ولكن سرعان ما ستظهر مساوئ هذا الاختيار القائم, على ما يبدو, على أساس طبيعة ظروف المنطقة حينها.
قبل كل شيء, بدا أن الأساس الذي تم وفقه اختيارها ك “كردية قياسية“ ضيق للغاية: فلهجة السليمانية تحتوي على فروقات دقيقة في النطق على الصعيد المحلي، فروقات مقاطعاتية، ويبدو أن الذين اختاروها قد مالوا إلى منحها تكريساً غير مستحق؛ وكان علينا العودة إلى مفهوم أعم للهجة الصورانية. بهذا المعنى فإن تطور معنى نظام الأبجدية اللاتينية حسب س.ج. إدموندز جدير بالملاحظة (7). وعلى الأقل, ما كان للسياسة اللغوية الكردية في عراق تحت الانتداب البريطاني أن تنطلق, بكل هذا القلق البالغ والاعتبارات المفرطة، من تنوع أنماط الكلام المحلية؛ لأن هذا الاتجاه قد شكّل حساسية ملحوظًة خاصة في مناطق العراق الناطقة بالكردية الكرمانجية. أثبتت المواد المدرسية المطبوعة لأجل السليمانية وبلهجتها أنها غير مجدية ولا مقروءة في ولاية الموصل ذات اللهجة الكرمانجية بعد إلحاق الموصل بالأراضي العراقية. وبسبب عدم وجود مراجع بالكرمانجية فقد توجه المعلمون بشكل تلقائي إلى تفضيل الكتب المدرسية المكتوبة باللغة العربية, والتي يفهمها الجميع تقريباً في المنطقة, على تلك المكتوبة بالصورانية وشرحها لتلاميذهم شفهياً بالكرمانجية. ولم يتأخر المعلمون وأولياء التلاميذ في تبني وتفضيل التدريس باللغة العربية على التدريس بكردية غير مستقرة بعد.
صرّح السير هنري دوبس ، المفوض السامي البريطاني للعراق في لجنة الانتداب ل S.D.N، منذ عام 1926:
(لقد وجدنا أن الأكراد الذين يعيشون شمال الموصل لا يرغبون في تبني الكردية كلغة رسمية، إنهم يفضلون استخدام اللغة العربية … وكذلك فمعظم التوجهات في المناطق التابعة للموصل تعارض أي جهد لإدراج اللغة الكردية كلغة رسمية في الاستخدام العام في البلاد، ولا يريد الآباء أن يتلقى أبناؤهم التعليم بالكردية. ومع ذلك فهناك مشاعر واضحة الميل نحو تفضيل اللغة الكردية بين كرد الجنوب في لواءي السليمانية وأربيل (8). ولكن ثمة إشارة إلى “نفور مشابه” حتى في لواء أربيل:
“المجلس الإقليمي في أربيل … قرر اعتماد اللغة العربية لغةً للتدريس في الفصول المدرسية الثانوية في أربيل. وبحث المجلس ذاته إمكانية تقديم طلب للتدريس بالعربية في الصفوف 5 و 6
من التعليم الابتدائي بحيث يكون الأولاد الذين أنهوا المدرسة الابتدائية أكثر قدرة على الاندماج في صفوف المدارس الثانوية حيث العربية هي اللغة المستخدمة(9).
بعد ذلك، صدر بيان عن المفوض السامي البريطاني الجديد في العراق، السير فرانسيس همفريز، إلى لجنة الانتداب عزا فيه الصعوبات الموجودة في تنظيم التدريس بالكردية إلى تعدد أنماط الكلام خاصةً في اللهجة الكرمانجية أكثر مما عزاها إلى وجود لهجتين رئيسيتين في الكردية، وكشف عن سياسة لتدريس الكردية مبنية على أساس الاحترام المطلق للفروقات المحلية في أنماط الكلام.
كتب السير فرانسيس همفريز:
“تتمثل الصعوبة العملية في أن الاستخدام العام للغة كردية موحدة ليس منتشراً في مجمل المناطق الكردية في العراق. ولو لم يكن هناك سوى لغتين متميزتين فقط، واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب, لم يكن ذلك ليشكّل أي إزعاج خطير – في حال لو رغب الكرد – ولكان من الممكن, وباستخدام قوة القانون, فرض كل واحدة من اللهجتين في منطقتها اللغوية الخاصة بها, لكن المشكلة أن عدد اللهجات المحلية لا يقتصر على اثنين فقط؛ ففي لواء السليمانية ذاته يتكلم السكان بعدة لهجات وفي ألوية الموصل وكركوك وأربيل ثمة فروق لغوية كثيرة بين السكان. بعد مناقشة هذه القضية مع الحكومة والتشاور مع الكرد, تمكنّا من تجاوز تلك الصعوبات من خلال إدراج بند جديد في القانون والذي بموجبه ستكون اللكنة الكردية المنصوص عليها في أقضية ألوية السليمانية وكركوك وأربيل التي سيُطبَّق عليها القانون, هي المستخدمة حاليًا. وسيكون على سكان الأقضية الكردية الستة في محافظة الموصل أن يختاروا, في غضون سنة واحدة ، اللهجة الكردية التي يرغبون في استخدامها(10)“.
إننا نرى إلى أي مدى بقينا بعيدين, في العراق, عن أي حل لهذه المشكلة التي نبحثها. دون شك, جرى تفضيل واحدة من اللهجتين الكرديتين، أعني الصورانية, ولكن بشكل مغرق في خصوصية لكنة السليمانية، ولم يتم فعل أي شيء لتسهيل إيصالها إلى السكان في المناطق الناطقة بالكرمانجية؛ تلك المناطق التي لم نحاول حتى تشكيل (الكرمانجية القياسية) الخاصة بها، ولكن قمنا, إلى حد ما, بقوننة استخدام أنماط الكلام المحلية مع إعطاء اللغة العربية مكانة أكثر أهمية كلغة للتدريس. أهملنا ليس فقط أي جهد للتوحيد بين لهجتي الكردية الرئيسيتين الصورانية والكرمانجية ولكن تخلينا كذلك عن أي جهد للعمل على الثانية بهدف جعلها “لغة قياسية“. المشكلة, بصراحة مريرة لا بد من قولها, أن توحيد اللغة الكردية في العراق مشكلة حُرمَت من أي محاولة للحل: لقد اقتصرنا على اختيار لكنة من لهجة محددة هي الصورانية ومنحناها نصف اعتراف.
في داخل اللهجة الكرمانجية، تعتبر قضية توحيد أنماط الكلام شبه محلولة فقد كرّس الكلاسيكيون الكرد لغة أدبية كرمانجية تكفل النحويون الكرد بعد ذلك بحفظها وهي باقية بشكل تقليدي, إلى حد كبير, عند المتعلمين الذين يستخدمون هذه اللهجة. وتلك هي اللغة الأدبية التي يستخدمها محررو المجلة الكردية هاوار (Hawar), في دمشق, آخذين على عاتقهم مهمة تطهيرها وإثرائها وتثبيتها متحاشين تقديمها أو تعريفها ك “لكنة” كرمانجية تنتسب إلى قبيلة أو منطقة محددة(11). ثمة عملية مماثلة قام بها اللغويون في الاتحاد السوفياتي في أرمينيا السوفياتية أفضت إلى بعث لغة كرمانجية “معيارية“ قابلة للمقارنة عملياً بلغة مجلة هاوار.
والآن فإن تنوع اللكنات الكرمانجية مغطى ب“لهجة مشتركة“ يمكن لجميع الكرد الكرمانج الوصول إليها بسهولة وهي الآن تقوم بدور اللغة الأدبية.
ولكن، وللمرة الثانية، نكرر أن المشكلة الحقيقية في توحيد اللغة الكردية ليست في إنجاز لغة نموذجية لكل من اللهجتين الرئيسيتين الصورانية والكرمانجية وذلك أمر سهل نسبياً, ولكن في التوفيق بين هاتين اللهجتين وهنا تكمن الصعوبة.
عرض بروفسور كردي من العراق يُدعى “هفندي صوري” (وهو اسم أدبي) هذه المشكلة على صفحات مجلة هاوار, وهي لسان حال المثقفين الكرد في دمشق تعتمد الكرمانجية ولكن تستقبل كذلك مساهمات بالصورانية, فكتب يوم 15 شباط 1933 في العدد 16 من المجلة المذكورة، برنامج “استبيان حول توحيد اللغة الكردية“ (Sehîtî lebo yeqîtîya zmanê qurdî) الذي تضمن النقاط التالية:
1- كيف يمكن تقوية اللغة الكردية وتنقيتها؟
2- بأي وسيلة يمكن التقريب بين لهجات كردستان المختلفة وتشكيل لهجة بحيث يفهم جميع الكرد بعضهم بعضاً؟
3- كيفية تطوير اللغة الكردية وكيفية جعلها كاملة؟“
وعلى إثر نشر ذلك الاستبيان, تلقت المجلة خمسة ردود تم نشرها لاحقاً في الأعداد 21 و 22 و 23؛ وهي تعطي لمحة عامة ثمينة عن كيفية تعامل المثقفين الكرد مع مشكلة اللغة.
أوصى لاوكي كرد (Lawêqî Qurd), وهو اسم مستعار لبروفسور كردي من العراق كتب بالصورانية, بما يلي:
1- أن تقوم لجنة بإنشاء قائمة بمفردات كل لهجة ثم تقوم بتصنيفها تحت العناوين الخمسة التالية: “الفنون والآداب, التجارة, العلوم, الزراعة, الحكومة“؛ ثم تنشر هذه القوائم في المجلات الأدبية الصورانية والكرمانجية، وبعد ذلك يتم الإعلان عن مؤتمر عام يجري خلاله اختيار الكلمات التي سيتكون منها القاموس الرسمي.
2- طباعة النتاجات الكردية الكلاسيكية والمعاصرة والصحف والمجلات
3- تشكيل مؤتمر مختلط (كرمانجي وصوراني) يقوم باختيار أبجدية لاتينية موحدة سواء كانت أبجدية توفيق وهبي أم أبجدية مجلة هاوار (12).
بدوره, أوصى علي سيدو ﮔوري (Elî Seydoyê Gewrî), ( علي سيدو كوراني – المترجم ) وهو بروفسور كردي من شرق الأردن، درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، يكتب باللهجة الكرمانجية, بما يلي:
1- البحث في كل اللهجات الكردية عن الكلمات البديلة للمفردات العربية والتركية التي يستخدمها الكرد.
2- بالنسبة للغة الكتابة, يجب اختيار لهجة غنية بالاستعارة من اللهجات الكردية الأخرى
3- العمل على ازدهار الكردية بنشر الأشعار والمأثورات القديمة, افتتاح المدارس, ترجمة الكتب الأجنبية, إصدار الصحف والمجلات, تأسيس مجمع علمي وآخر ديني يعملان على التفتيش عن الكلمات القديمة ونحت مفردات جديدة(13).
أما أوصمان صبري (Osman Sebrî), وهو كردي من منطقة ديار بكر, درس الثانوية ويكتب بالكرمانجية, فقد اقترح ما يلي:
1- توحيد الألفباء
2- إنشاء مجمع علمي كردي يضم مندوبين عن الشبيبة الكردية من كل بلد
3- نشر معجم كبير ونشر الكتب القديمة والحديثة وبجميع اللهجات, وفي غضون عشر سنوات سيمكن الحصول على لغة موحَّدة للكتابة وقريبة من اللغة المحكيّة(14).
من جهته, أوصى جﮕرخوين (Cegerxwîn) وهو اسم مستعار لملا كردي من سوريا يكتب بالكرمانجية وأحياناً بالصورانية:
1- إنشاء مجمع علمي يضم ممثلين عن جميع الكرد ومطّلعٍ على جميع اللهجات
2- أن يقوم هذا المجمع باختيار اللهجة التي يتكلمها الغالبية العظمى من الكرد على أن يتم القضاء على اللهجات الأخرى (في النص الأصلي يستخدم جكرخوين فعل “قتل– “kujin)
3- استعارة (في النص الأصلي يستخدم جكرخوين فعل “سرقة – “dizîn) الكلمات الضرورية للهجة المختارة من اللهجات الأخرى قبل القضاء عليها
في الواقع, يضيف السيد جﮕرخوين: إن خلق لهجة جديدة سيخلق مشكلة لعشرة ملايين كردي أما اختيار لهجة موجودة ومُتكلَّم بها من قبل فلن يخلق مصاعب سوى لمليونين(15).
ومن الواضح أن هذا الموقف يشير ضمناً إلى ضرورة اختيار اللهجة الكرمانجية.
وأخيراً, كتب لاجي هني ( – Lacê Henîابن هني), وهو اسم مستعار لكردي موظف في مصر, أزهري, أصوله من ديار بكر, يكتب بالكرمانجية, وعدّدَ قبل طرح الحل الذي يراه مجموعة العوامل التي تسببت أو أبقت على تجزئة الكرد وخلقت هذه الفوارق بين أنماط كلامهم: تشتت الكرد في أودية حالت دون التواصل, انقسام الكرد إلى قبائل تحت قيادة زعماء لا يهتمون سوى بمصالحهم الخاصة ويعادي بعضهم بعضاً, الطابع الشفهي للغة الكردية, اضطرار المثقفين الكرد إلى اللغات الأجنبية من أجل دراسة الآداب والعلوم, إلخ …
يتمنى المراسل الأخير هذا, نظراً إلى تأمّله في حالة الأشياء, أن يتم:
1- الحفاظ على مفردات جميع اللهجات ونشر كتابين أو ثلاثة بكل لهجة
2- قيام الشباب الكرد بدراسة مُعمَّمة لجميع اللهجات الكردية بهدف التقريب فيما بينها عبر اختيار الكلمات المناسبة من كلٍ منه
3- تأسيس هيئة مهمتها توحيد اللهجات ونحت تعابير جديدة(16)
لم يتّبع محررو “هاوار” تلك الردود بأي إجابة ومع ذلك يمكننا أن نلاحظ لدى مراسلي المجلة الكردية اتجاهين مختلفين بما فيه الكفاية:
البعض يقترح تأسيس كردية اصطناعية ناتجة عن أعمال التأليف ومؤتمرات مثقفين ودراسات معمّمة ومعمّقة للهجات, بينما يفضّل البعض الآخر اختيار إحدى اللهجات الموجودة واتخاذها أساساً على أمل إغنائها عبر الاستعارة من اللهجات الأخرى وخلق كلمات جديدة والبحث عن الكلمات القديمة.
من اللافت للنظر التأكيد أن هذه الاقتراحات غير مصحوبة بأي أحكام قيمة عن اللهجات الكردية, لم يرصد المراسلون حالة تطور النحو وأصالته قياساً إلى اللغات الايرانية الأخت وهذا ما كان سيقود حكماً إلى تفضيل الكرمانجية, ولا راعوا الغنى بالمفردات أو نسبة التكيف أكثر أو أقل مع متطلبات الحياة المعاصرة وهذا ما كان سيقودهم بالضرورة إلى اختيار الصورانية, وكل ما في الأمر أن واحداً من المراسلين المذكورين قد استند على اعتبارات التفوق العددي للسكان فقام ضمناً بتفضيل الكرمانجية.
بالجملة, اقتصر المراسلون على الإشارة إلى ضرورة توحيد اللغة, وكانت الوسائل التي اقترحوها ذات طبيعة نظرية أكاديمية نوعاً ما – نشر كتب ومجلات, اجتماع مؤتمرات وهيئات – وهي صعبة التنفيذ عملياً في الوقت الحالي مع ما تعانيه الأوساط الثقافية الكردية من التشتت والحرمان من المصادر المادية.
يمكن القول بدقة أن مجلة هاوار قد شكّلت, إلى حد ما, بنشرها للنصوص الكرمانجية والصورانية وشرح بعض مفرداتها, ما يشبه مختبراً للتقريب بين اللهجات لولا أن العوائق المادية قد أدت, لسوء الحظ, إلى توقفها عن الصدور(17).
يمكن, من جهة أخرى, التشكيك في فعالية الإجراءات الأكاديمية والعلمية المطبَّقة في موضوع كموضوع اللغة لأن الأهم, في الحقيقة, هو وجود سلطة مركزية تفرض لغة إدارية أو بروز مدعوم للهجة ما عبر إصدار أعمال أدبية شعبية بها في المقام الأول.
يبدو تقارب اللهجتين الكرديتين, في الظروف الحالية, أمراً خرافياً تماماً فوسائل تعبير الناطقين باللهجتين والأفكار التي يستخدمونها تبدو, على العكس, داعية أكثر فأكثر إلى التباعد.
في أقصى جنوب العالم الكردي, يجد أكراد العراق أنفسهم مرتبطين سياسياً بمصير دولة عربية. أما الامتيازات المناطقية الممنوحة لهم فهي محدودة ومشروطة – ولطالما ذكّرهم الانتداب البريطاني بذلك – بالحفاظ على ولائهم كمواطنين صالحين داخل الدولة العراقية.
لقد فرضوا عليهم عملياً معرفة التحدث باللغة العربية واستخدامها والتكيف مع مجتمع الحياة الفكرية في بغداد مركز الفكر الإسلامي التقليدي. وقد دفعتهم هذه الاعتبارات إلى التخلي عن استخدام الأبجدية اللاتينية كوسيلة للتعبير والتعليم الشعبي, ومع ذلك فقد كيّفوا الأحرف العربية لتتناسب مع لغتهم تمهيداً لتحديد موقفهم في المستقبل.
تم تكريس اللهجة الصورانية رسمياً في العراق ولكن على شكل “لكنة” السليمانية المكتوبة بالأحرف العربية – الفارسية, وسيتم استخدامها للترجمة ضمن دوائر المثقفين المحلية, مشتركة في بعض الفروقات مع الحركة الثقافية العامة في الشرق الأدنى.
على العكس تماماً, ففي أقصى شمال العالم الكردي يرتبط كرد أرمينيا السوفياتية وأذربيجان بالسلطة السوفياتية سياسياً وهذه السلطة تفضّل دفعهم إلى دراسة لغتهم واستخدامها وجعلها تستفيد من الأبجدية اللاتينية في الوقت نفسه الذي توجههم فيه نحو المفاهيم الاجتماعية والسياسية البعيدة كلياً عن المفاهيم الشرقية التقليدية(18).
أما اللهجة الكرمانجية المكتوبة بالأحرف اللاتينية فقد استخدمتها ثلة من المثقفين الشباب الجريئين المنبهرين بالأفكار الجديدة والذين امتلكوا إمكانات أدبية واسعة.
بين هاتين المجموعتين, وبغض النظر عن الجماهير الكردية غير المتعلمة في تركيا وايران, شكّلَ المثقفون الكرد في سوريا الذين يتحدثون الكرمانجية ويكتبون بالأحرف اللاتينية, رغم ضآلة عددهم, فارقاً هاماً للغاية وكانت “هاوار“, وهي لسان حالهم, مواكبة لتطور التقاليد الأدبية الكردية ومن المؤسف أنها قد توقفت عن الصدور بحيث لم يعد ممكناً لأولئك المثقفين الآن لعب دور نشط في التطور الثقافي الكردي.
يمكننا القول بالمجمل أن المثقفين الكرد ينقسمون إلى:
– قسم عراقي تقليدي ومستعرب بدرجة أكثر او أقل, يتكلمون الصورانية ويكتبونها بالأحرف العربية – الفارسية
– وقسم ثانٍ في الاتحاد السوفياتي, مجدد ومُسَفيَت (نسبة إلى الاتحاد السوفياتي), يتكلم الكرمانجية ويدونها بالأحرف اللاتينية.
يمكن لانقسام اللغة الكردية المشار إليه آنفاً, والمتمثل في اختلاف الكتابة والفكر, أن يطوّر من الآن فصاعداً أكثر النتائج تطرفاً.
ليس من السهل التنبؤ بمستقبل اللغة الكردية فاندماج اللهجتين يغدو أصعب يوماً بعد يوم ولكن ليس من المستبعد كذلك أن تستمرا جنباً إلى جنب ضمن إطارات مختلفة أو أن تزيح إحداهما الأخرى في نهاية الأمر بناءً على الوقائع التي لا يمكن التنبؤ بها البتّة في المجال اللغوي.
(1) الأسماء الكردية المذكورة في هذه المقالة مطبوعة بالأحرف المائلة وهي مرسومة بحسب أبجدية مجلة “هاوار“
(2) انظر “ملاحظات الحكومة البريطانية على عرائض أكراد العراق بتاريخ 26 يوليو و 3 أغسطس 1930 “، ملحقة ب“مشروع قانون عراقي بشأن اللغات المحلية “، وكذلك البيانات السابقة لمفوض السامي البريطاني في العراق أمام لجنة الانتداب. (محاضر اجتماع الهيئة الدائمة للانتداب
من S. D. N. ، “جلسة 19، ص 183 – 191 ؛ جلسة 20 ، ص 117) ؛ وكذلك تصريحات رئيس الوزراء العراقي في برلمان بغداد في 21 يناير 1926.
(3) انظر س.ب. سوان “متنكراً في ميزوبوتاميا وكردستان“.
(4) انظر بيانات المفوض السامي البريطاني. محاضر اللجنة الدائمة للانتداب, الجلسة 10, ص 77
(5) انظر س. ج. ادموندز“اقتراحات لاستخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة الكردية” ، في صحيفة (الجمعية الآسيوية الملكية), يناير 1931, ص 33
(6) انظر تقرير من حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية إلى مجلس عصبة الأمم حول إدارة العراق سنة 1931, ص 230
(7) انظر دراستنا عن “ثلاث مقالات عن لتينة الأبجدية الكردية: العراق ، سوريا الاتحاد السوفياتي “. قيد النشر في نشرة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق.
(8) محاضر اللجنة الدائمة للانتداب، الجلسة العاشرة، ص. 61.
(9) تقرير حكومة جلالة الملكة في المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال ايرلندا إلى مجلس عصبة الأمم حول إدارة العراق, سنة 1927, ص 26
(10) محاضر اللجنة الدائمة للانتداب, الجلسة 20, ص 117
(11) انظر في هذا الموضوع تقريرنا حول مجلة هاوار في نشرة الدراسات الشرقية المعهد الفرنسي في دمشق، المجلد الثاني ، الصفحة 303.
(12) انظر المجلة الأرمنية باللغة الإنجليزية (Massis)، وخاصة العدد 47 في نوفمبر وديسمبر 1933, ص 106
(13) مجلة هاوار, العدد 21
(14) مجلة هاوار, العدد 22
(15) مجلة هاوار, العدد 23
(16) مجلة هاوار, العدد 23
(17) صدر العدد الأخير منها برقم 26 في 8 آب 1935
(18) انظر دراستنا عن “تبني الأحرف اللاتينية والحركة الثقافية عند كرد الاتحاد السوفياتي“, مجلة الدراسات الإسلامية, 1935, ص87-96
[1]