عبد الرحمن محمد
كانت انتفاضة قامشلو عام 2004 شعلة نور ونار، في حياة الشعب الكردي في روج آفا والعالم، لما تمخضت عنها من شوفينية عمياء، ومعاداة وفكر ضيق من قبل السلطات الحاكمة البعثية في سوريا، فأوصلت صوت الكرد من جديد للعالم، وأبرزت وحشية النظام من جهة، والإرادة الحديدية من قبل الشعب الذي رفض الخنوع والمذلة من جهة أخرى.
الانتفاضة العارمة حركت الكثير من الغضب الساكن، خشية القمع والاستبداد، ووصل صداها عموم سوريا، بل وتجاوزتها إلى أوروبا والعالم، وكان لبعض الأصوات الهادرة الصادحة بالحق تأثيرها البالغ في الحراك الثوري، والغليان الشعبي ومن بين تلك الأصوات، التي عَلت منابر الحق، صوت الشيخ محمد معشوق الخزنوي.
قبول الآخر والتسامح… في مواجهه الشوفونية والإنكار
كان من أبرز ما تميز به خطاب الشيخ الشهيد، التشديد على وحدة المصير، والدعوة للتآخي بين شعوب المنطقة بل والعالم أيضا، وهو المعروف بلباقته وتوازنه، وكلماته المنتقاة بعناية، وفصاحة لسانه وجميل بيانه، وكانت لثقافته الواسعة وتلقيه للكثير من المعرفة، والتعلم والإبحار في العلوم الدينية الأثر الكبير في قبول خطابه، الذي كان متزنا عقلانيا، وعلميا ومنطقيا، خاليا من التطرف والشوفينية وإقصاء الآخر، فكان محببا ومقبولا، ذا تأثير على شعوب المنطقة من كردها وعربها وسريانها، وبرز الشيخ الخزنوي كأحد الشخصيات، والقامات المعروفة عالميا، وإن كانت قوميته كردية، إلا إن رسالته كانت سورية، بل وإنسانية عالمية، ما دفع النظام الشوفيني إلى أن يتوجس من علو شأنه وسمو مكانته، وأن يكون لفكره وخطابه المتوازن التأثير على الشارع الكردي خاصة، والسوري عامة.
من شابه أباه… فما ظلم
لم يكن خطاب الشيخ معشوق، ولغته السمحة وحواره المثقف الراقي آتيا من فراغ، وهو سليل عائلة عرفت بتمسكها بفضائل وأخلاق دينية معروفة بين الأوساط الكردية، حتى عرفت على مستوى الجزيرة السورية، بل وسوريا وبعض الدول المجاورة باسم “الخزنوية” نسبة لمؤسسها الشيخ الجليل “أحمد الخزنوي” في قرية تل معروف التابعة لمقاطعة قامشلو، وهي تتبع الطريقة النقشبندية.
ولد الشيخ معشوق عام 1958 في قرية تل معروف، وهو ابن مؤسس الطريقة الخزنوية، الشيخ أحمد الخزنوي، نال الثانوية العامة عام 1977م، تخرج من معهد العلوم الشرعية ثم تابع دراسته في السعودية؛ ليحصل على إجازة في العلوم الإسلامية في المدينة المنورة، ومن ثم تابع دراساته ليحصل عام 2001 على ماجستير في الدراسات الإسلامية عن أطروحته “الأمن المعيشي في الإسلام”.
رجل دين وسياسي حكيم
كانت انتفاضة قامشلو الباب العريض الذي فتح أمام الخزنوي؛ ليلج عالم السياسة، رغم أنه كان دائما حريصا على أن يفصل بين الدين والسياسة، وألا تضفي السياسة صيغتها على الدين، ولأنه كان صادقا في دينه، كما في دنياه، لم يسكت عن المجريات التي حدثت أثناء وبعد الانتفاضة، وبحكم ما كان يحظى به من قبول شعبي، اجتماعيا ودينياً فقد كانت أرضية قبوله سياسيا ممهدة من تلقاء ذاتها، وحتى في ذلك كانت دعوة الشيخ الشهيد تتلخص في رفض سلمي لعمل وحشي واستبداد مستشر، وما زالت مقولته تتردد على الألسن كحكمة متوارثة، ويرجع صدى صوته في كل يوم في أذن من سمعه يومها يقول: “إن الحقوق لا يتصدق بها أحد، إن الحقوق تؤخذ بالقوة”.
تلك المقولة، وما كان يقوم به الخزنوي من نشاطات ومشاركات في ندوات ومؤتمرات شعبية محلية ،ورسمية خارجية، وفحوى تلك النشاطات ومضمونها ونتاجها كان دوما لشرح القضية الكردية، ومطالبة بالحقوق ورفع الظلم، مستفيدا من علاقاته المتينة مع المنظمات الدولية والأوروبية الحقوقية، والدينية من أجل إحلال حوار الأديان والحضارات محل صراعها، والوقوف في وجه التطرف والتكفير، وكان انتقاده واضحا للأطر الضيقة في النضال السياسي، ونبذ ورفض السياسة القمعية العسكرية في الداخل، ما ألّب عليه السلطات الأمنية، التي عزمت إبعاده عن الساحة، بل وتصفيته.
مسرحية دموية وإخراج فاشل
بعد التحضير لمسرحية الخطف، ومن ثم القتل، كانت أولى الفصول، التي أخرجت من قبل النظام اختطاف الخزنوي، بعد ستة أيام من إلقائه كلمة في قامشلو بتاريخ الرابع من أيار، دعا فيها إلى الاعتراف بحقوق الكرد كاملة، وإن منحهم ذلك لا يعدّ مكرمة، ولا منحة من أحد، بل إنها ستؤخذ بالقوة إن رُفضت، ثم تم اختطافه من مقر إقامته في “مركز الدراسات الإسلامية” جانب وزارة الاوقاف السورية بالعاصمة دمشق، لأن الخزنوي كان نائبا لمدير المركز، وأستاذا محاضرا فيه.
فور وصول أخبار الاعتقال، والخطف كانت مناطق الجزيرة “إقليم الجزيرة الآن”، ودمشق، وحلب، تعج بالمتظاهرين، الذين طالبوا النظام الإفراج عنه، وكان رد النظام شن المزيد من حملات الاعتقال، ووصلت المظاهرات إلى دوار المحافظة في العاصمة دمشق في 30 أيار.
أحيل وقتذاك أكثر من خمسين مواطنا، ممن شاركوا في المظاهرات إلى محاكم عسكرية، كانت الدلائل تصب في اتجاه ضلوع النظام بالخطف، والاعتقال حسبما أشارت اليه منظمة “هيومن رايتش ووتش” وما أكده الكثير من الكرد وقتها، فيما وثّق ”مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا” شهادة طبيب في مشفى تشرين العسكري، (لم يذكر اسمه) ضمن شهادته على الحادثة، إنه في 28 من أيار 2005، “نقل إليهم معتقلًا برقم خاص، وكان هو الشيخ الخزنوي، وثم بعدها تعجل إخراجه”، وأضاف “غادر (الخزنوي) وهو على قيد الحياة، رغم الحالة السيئة، والمنهكة التي كان عليها”.
إعلان الاغتيال
بعد عشرين يوما من الاعتقال والتعذيب، الذي ظهر واضحا فيما بعد على جثمان الشهيد الخزنوي، أعلنت السلطات الأمنية، أنها عثرت على جثة الشهيد في مكان شبه مهجور، قرب مقبرة في دير الزور، في مسعى جديد منها لإثارة الفتنة التي زرعتها، ورعتها في الرابع من آذار 2004، وقدمت الحكومة مرة أخرى، مجموعة من الأشخاص ادعت أنها من قامت بالخطف والقتل، وقد ثبت كذبها فيما بعد أيضا.
فور إعلان الخبر، كانت قامشلو، والعديد من المدن الكردية على صفيح ساخن، وعمّت المظاهرات الساحات والشوارع، ومرة أخرى اعتقل العشرات؛ لمشاركتهم في المظاهرات، ووجهت لهم تهما شتى، بينما لا زال القتلة يسرحون، ويمرحون ولعلهم يكتبون فصولا أخرى لمسرحيات، كُتب لها الفشل، قبل أن تُعرض على مسرح وطن، أثقلته الجراح.[1]