رستم عبدو
يعتبر الحي السكني الذي تكون من مجموعة منازل في أوركيش بمثابة خزان معلومات لما وجد فيه من لقى كان أهمها الأختام وطبعات الأختام وبخاصة المتواجدة منها في المنزل المعروف باسم “بوشام” وهو أكبرها، واتخذ شكلاً مربعاً وكان مؤلفاً من باحة مركزية داخلية محاطة بمجموعة من الغرف من الجهة الشمالية والغربية والجنوبية، ومزوداً بشبكة مجاري للصرف الصحي, اعتبر هذا المنزل من أضخم المنازل العائدة لفترة البرونز القديم والوسيط بحسب بيتر بفلسنر Pfalzne حيث كانت مساحته تعادل مساحة القصور.
كان للمنزل وظيفة اقتصادية بدليل الكتابة التي وجدت على ختم بوشام Pusham وهو حوري يدعي بأنه وكيل لدى تاجر استيراد وتصدير من الجنوب وهو ما يؤكد أيضاً ارتباط أوركيش بعلاقات تجارية مع مناطق بعيدة خلال فترة أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.
عثر بداخل منزله على أكثر من 150 طبعة ختم، كما عثر على مجموعة كبيرة من الأختام وطبعات الأختام (أكثر من ألف طبعة ختم) حوالي 150 منها توجد عليها كتابة بداخل القصر وبالتحديد في المستودعات على أرضية بعض غرفها، وكذلك في ساحة القصر المخصص للأمور الإدارية التي كانت تستقبل البضائع من القرى والمزارع المجاورة, كانت هذه الأختام ممهورة على السلال والجرار الفخارية والصناديق والأكياس وكذلك على الأبواب, لتأمين محتوياتها، ويعود تاريخ معظمها إلى الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد. هذه الأختام منها ما تعود للأسرة المالكة كالملك توبكيش والملكة أقنيتوم والملكة تارام أكادا والملك إيشار كينوم ومنها ما تعود لأشخاص مرتبطين بالقصر كالمربية زامينا والطباخة تولي وبعض الشخصيات المرموقة كالتاجر بوشام.
لم يعثر على أي مكان في ميزوبوتاميا وفي أي فترة تاريخية قديمة على أختام تحمل خصوصية محددة وتفاصيل تعبر عن ثقافة مختلفة كالتي وجدت في أوركيش.
تفاصيل حملتها أختام أوركيش
قدمت هذه الأختام تفاصيل دقيقة من خلال طرحها لمواضيع كثيرة تعلقت بطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأسرة الحاكمة والحاشية وأيدولوجية السلالة الحاكمة وفكرة الخلافة والتعاقب على العرش وطبيعة الأسماء والألقاب الملكية والمصاهرات السياسية, كما طرحت الأختام مواضيع إدارية كثيرة أظهرت دور المرأة الرئيس في متابعة تلك الأمور ودورها في عملية الإشراف على البضائع وصرفها، والتعاون مع أشخاص ينوبون عنها في المراقبة والتسجيل، وذلك داخل القصر وخارجه, بالإضافة إلى مواضيع أخرى متعلقة بدور مطبخ القصر ونوعية الوجبات وكذلك أمور التربية والعناية بالأطفال.
يعتقد أن الملكة أقنيتوم هي من كانت تشرف على المستودعات المتعلقة أو المخصصة بالبضائع, وكانت تشارك زوجها أمور الحكم، حيث ظهرت على العديد من طبعات الأختام وهي تلبس ثياباً راقيةً وتجلس بمحاذاة زوجها كما في طبعة الختم المسمى “مشهد العائلة ” وكأنها لا تقل مرتبة عنه وكانت تطلق على نفسها ملكة أوركيش أو زوجة توبكيش.
كما أن زامينا المربية وتولي الطباخة اللتان كانتا تحملان طبعات أختام بأسمائهما، ما يدل على مكانتهما الهامة في القصر ودورهما الحساس, فزامينا وتولي كانتا مرتبطان بالملكة أقنيتوم – التي يعتقد أنها من أصول أكادية – مباشرة حيث كانت زامينا تشرف على تربية الأولاد وتلقنهم الثقافة الحورية كاللغة وغيرها, كذلك تولي كانت تشرف على أمور الوجبات ونوعيتها لغاية تتعلق بالاهتمام بالأطعمة التقليدية والعادات المتعلقة بآداب الطعام.
وقد عالجت الأختام الكثير من المواضيع ذات الصلة بالميثيولوجيا الحورية والآلهة ورموزها ودور الكهنة وواجباتهم تجاه المعبد والمدينة, كما طرحت الأختام مواضيع اقتصادية كثيرة متعلقة بالإنتاج, بالإضافة إلى كل هذه المواضيع قدمت لنا الأختام مادة لغوية من خلال النقوش الكتابية القصيرة ذات الصيغة التعريفية للمشاهد المصورة، كما قدمت لنا أفكاراً عن نوعية اللباس والهدايا التي كانت تقدم للملك والملكة وللقصر في تلك الفترة.
يذكر أن الأختام التي كانت تحمل نقوشاً ذات طبيعة متعلقة بالأمور الروحية والطقوس الدينية كانت نادرة، لكن في أوركيش عثر على أختام تتعلق بتقديم الأضحية خلال الطقوس كما في المشهد الذي يظهر كاهنات وثور وشجرة نخيل, منها ما هو عائد للملكة تارام أكادا حيث وجدت العديد من الأختام باسمها أيضاً.
ويذكر أيضاً أن شخصاً حورياً وهو أوريم أتال Awrim Atal أحد رجال حاشية القصر كان يرافق تارام أكادا أو يتودد إليه، ربما لنفس الدور الذي لعبتاه تولي وزامينا عندما كانتا بجانب أوقنيتوم باعتبار تارام أكادا هي الأخرى أكادية.
نجد أن مشاهد بعض الأختام في أوركيش كانت تحمل تأثيرات جنوب رافدية وكذلك شرق أناضولية كما نجد أن فن أوركيش كان له تأثير على الفن في نوزي التي كانت أحد أهم المقاطعات الحورية الميتانية خلال منتصف الألف الثاني قبل الميلاد.
عثر بداخل القصر أيضاً على وثائق كتابية قليلة, تعود للفترة الواقعة بين 2250-2000 ق.م, تعالج مواضيع إدارية ومدرسية تعود للحوريين الذين كتبوا نصوصهم بالرموز المسمارية وباللغتين الحورية والأكادية.
الجدير ذكره أن اللغة الحورية التي وجدت في سوريا خلال الألف الثالث قبل الميلاد، ذات صلة باللغة الأورارتية التي وجدت في شرق الأناضول خلال القرن التاسع والثامن قبل الميلاد, وهي لغة شبيهة باللغة السومرية لا ترتبط بأي من اللغات السامية أو الهندو أوروبية كما يقول عالم الآشوريات بيتر ميكائيلوسكي Pitor Michaelowski. كانت اللغة الحورية لغة محكية في قسم كبير من شمال سوريا وشمال العراق وجنوب شرق الأناضول خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وقد وصلت إلى ذروته بعد تأسيس الإمبراطورية الحورية – الميتانية التي سيطرت على منطقة كبيرة من الهلال الخصيب كما أنها كانت معروفة خلال الألف الثالث قبل الميلاد.
عُثر في العاصمة الحثية خاتوشا (بوكازكوي) على نصوص تعود لمنتصف الألف الثاني قبل الميلاد تتضمن أساطير عن الآلهة والأبطال، إلا أن الغريب في الأمر أن هذه الأساطير ليست حثية بل حورية وقصصها ليست في الأناضول بل في الجزء السوري من ميزوبوتاميا، بعضها ثنائية اللغة حورية – حثية, كما عثر في نفس المكان على معظم الأدلة حول المعتقدات الدينية والأساطير الحورية التي تعكس في مجرياتها طبيعة جبلية تعود للألف الثاني قبل الميلاد، أي بعد ألف سنة من ازدهار أوركيش.
تماثيل ومنحوتات لحيوانات متنوعة
فيما يخص التماثيل الحيوانية فقد عثر في موزان على مجموعة كبيرة منهم والتي نحتت من الطين بأشكال صغيرة وأقرب إلى الواقع, هذه المنحوتات كانت لفصائل من حيوانات مدجنة كالثور والماعز والأغنام والكلاب، وحيوانات غير مدجنة كالماعز البري والدب والقط البري والضبع, بالإضافة إلى فصيلة الخيول كالحصان البري والبغل والحمار.
من المؤكد أن تدجين الخيل يعود إلى بدايات الألف الثاني قبل الميلاد كحد أقصى إلا أن الأدلة المتوفرة في موزان ترجّح مبدئياً استئناس الخيل وبالأخص الحصان إلى أبعد من ذلك.
أما الفخاريات فقد عثر على العديد من الأواني الخزفية، منها الثابت كالتنور والمواقد والأحواض ومنها المتحرك, كالجرار الكبيرة ذات الأشكال المختلفة, التي استخدمت لتخزين السوائل كالزيت والمواد الصلبة كالقمح والشعير, وصواني التقديم الكبيرة والقحاف المتوسطة والصغيرة التي استخدمت لتقديم الطعام والأكواب المخروطية إلى جانب الأواني الفخارية التي كانت تستخدم للحاجات الغذائية، بالإضافة إلى جرار صغيرة استخدمت لحفظ مواد الزينة ومنها ما استخدمت لأغراض طقسية.
كذلك تم العثور على العديد من التماثيل والمنحوتات التي صنعت من مواد مختلفة كالمعدن والحجر والطين, منها المجسم كالأسدين اللذين تم تصويرهما بشكل واقعي وأقرب لشكلهما الحقيقي، حيث استطاع الفنان إظهار هيبة وعظمة الأسدين بواقعية وحيوية مفقودة فنياً في أي مكان آخر في ذلك العصر, وتمثال أسد آخر من الحجر ورأس لإنسان وتماثيل مصنوعة من الطين على هيئة جرار كالمرأة العارية التي ربما استخدمت لأداء طقوس معينة بالإضافة إلى تماثيل نفذت بطريقة النحت الناتئ كتلك المصنوعة من الحجر والتي تمثل مشهداً لرجل يقوم بأعمال الحراثة على أحد الوجوه ومشهد لحيوانات ترعى على الوجه الآخر، كذلك اللوحة الناتئة التي تظهر كل من أنكيدو وجلجامش بحسب الباحثة مارلين بوتشيلاتي.
بنهاية الألف الثالث قبل الميلاد ومع انتهاء الدور الاقتصادي المركزي ل أوركيش تقلّص حجم المدينة ليصل إلى حجم التل الحالي.
في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد حافظت أوركيش على مركزها كقوة أساسية مستقلة في مناطق حوض الخابور كما تشير نصوص ماري بالرغم من اضمحلال دورها الاقتصادي، إلا أنها بقيت من المراكز المهمة في شمال بلاد الرافدين.
هُجِر القصر وتوسعت المدينة فوق المكان الذي كان يشغلها. في القرن الثامن عشر قبل الميلاد ظهرت ماري كقوة رئيسية على الساحة وامتد نفوذها ليصل إلى مناطق حوض الخابور, ونتيجة لهذا الوضع أعلن كل من تيررو Terru ومن بعده حازيران Haziran حاكما أوركيش، التبعية لحاكم ماري زمري ليم Zamri lim كما تبين الرسائل المكتشفة هناك والتي كانت مصدرها أوركيش, إلا أن الغريب في الأمر هو روح التمرد لدى الأوركيشيين الذين أبدوا استياءهم من مواقف حكامهم ورفضوا هذه التبعية.
فقد ورد في إحدى رسائل ماري خطاباً من حاكمهم يخاطب فيها حاكم أوركيش بالقول “لا أعلم لماذا أبناؤك – شعبك – في مدينتك يكرهونك بسبب تبعيتك لي, لكن أنت لي على الرغم من أن سكان أوركيش ليسوا كذلك”.
تقلص الدور السياسي لأوركيش
تعاظمت قوة الحوريين في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد حيث اتحدت كل مناطق حوض الخابور – الذي كان يعتبر المركز الرئيسي للحوريين في ذلك الوقت – تحت راية حكمهم الذين جعلوا من مثلثها مركزاً لانطلاقاتهم.
امتد نفوذهم من جبال زاغروس شرقاً حتى مناطق العاصي والمتوسط غرباً، ومن آمد شمالاً حتى قادش وقطنا في حمص جنوباً, مشكلين بذلك أوسع إمبراطورية سياسية شعبية توسّعية في الألف الثاني قبل الميلاد كما ذكرها أنطوان مورتكات في كتابه تاريخ الشرق الأدنى القديم.
اقتصر دور أوركيش في هذه المرحلة على الأمور الدينية، ويعود سبب تقلص دورها السياسي في اعتقادنا إلى كون مركز الثقل والحكم والقوة قد انتقل إلى واشو كاني (تل الفخيرية) التي أصبحت العاصمة السياسية للحوريين.
أمام الظروف والتغييرات السياسية التي حدثت, استطاعت أوركيش الحفاظ على مكانتها كمدينة مستقلة إلى أن هُجِّرت في الفترة الواقعة بين أعوام 1300-1200 ق.م كحال ممالك إيبلا وآكاد وماري, دون معرفة الأسباب الحقيقة وإن كانت التوقعات تشير إلى التغييرات المناخية التي تسببت بالجفاف.
قبل عام 1990م كان الحوريون موجودين فقط من خلال بعض أسماء الأعلام لكن بعد اكتشاف أوركيش اختلف الوضع, يقول العلامة كونزالو روبيو Gonzalo Rubio “كنا نفتقد للكثير من المعلومات الواضحة المتعلقة بالحوريين لكن بعد اكتشاف أوركيش فإن الأمر اختلف كلياً وبشكل لا يصدق”، وبالتالي ما زال البحث عن المصادر الحورية في أطوارها الأولى، والتي نأمل أن تتوضح أكثر لا سيما بعد نشاط حركة التنقيبات في مناطق حوض الخابور وشمال سوريا وجنوب شرق الأناضول، وبالتالي نأمل أن تتجلى كامل ملامح الحضارة الحورية العريقة التي نشأت عبر التاريخ والتي من المثبت عنها كما تقول مارلين وجورجيو بأنها كانت ذات تأثير كبير على كامل منطقة الشرق الأدنى القديم.
من بحث مطول بعنوان “أوركيش أولى المراكز الدينية في شمال ميزوبوتاميا”[1]