الاستاذ الدكتور محمد تقي جون
دخل #الفيليون# الاسلام بوصفهم (موال) بعد سقوط دولتهم الساسانية على يد العرب الفاتحين. و(الموالاة = الجرش) مبدأ أتاحه الإسلام لغير العرب للعيش مع العرب تأسيساً على قول الله () (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فيدخلون في عشائرهم ويلتحقون بأنسابهم برابطة لا تقل عن رابطة الدم العربية لضمان حقوقهم وتساويهم بأبناء العرب، أي جعلهم الانتماء بدرجة الأصلاء كما يوضح ذلك قول الرسول محمد (r): ” الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب”، فسموا ب(الموالي) و(الحمراء).
وقد حقق الموالي الفيليون حضوراً مبهراً في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي قبل أن يشاركهم الموالي الفرس في العصر العباسي، ويورد ابن عبد ربه نصاً يبين بروز موال أفذاذ غالبوا العرب فغلبوهم أحيانا في نواحي الحياة الجديدة كلها الفكرية والدينية ” قال ابن شهاب الزّهري: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال لي: من أين قدمت يا زهريّ؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلّفت يسودها؟ قلت عطاء بن أبي رباح، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديانة، قال: إنّ أهل الديانة والرّواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبدٌ نوبيٌّ أعتقته امرأةٌ من هذيل، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: أمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ، قال: أفمن العرب؟ قلت: من العرب، قال: ويلك فرّجت عنّي، والله ليسودنّ الموالي العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال، قلت: يا أمير المؤمنين، إنّما هو دينٌ، من حفظه ساد، ومن ضيّعه سقط”.
ونرى أنهم في تلك الحقبة احتفظوا بخصوصياتهم إلا الدين أبدلوه بالإسلام. فكانوا متأثرين ومؤثرين إذ ادخلوا العجمة إلى العرب الأصلاء بفضل زواج العرب منهم.
ويقابل ما حققه الكرد الفيليون في المجتمع الإسلامي، فقدانهم فيما بعد هويتهم الكردية وتحولهم إلى جزء ذائب في فسيفساء هذا المجتمع. وإذا أشر بقية الكرد (كرديتهم) لسكناهم في مناطقهم الجبلية ككرد كردستان، فان الفيليين عاشوا في دشت المجتمع العربي وصاروا مستعربين. وقد حفظ لنا التاريخ هويات كردية فيلية لأشخاص مشهورين فقط، وهؤلاء لم يتركوا نتاجاً فيلياً، ومن خلال هؤلاء المشهورين تتأكد رغبة الكرد الفيليين في الذوبان في المجتمع العربي.
وقد ذابت عشائر كردية ساكنت العرب كعشيرة (جاوان) في الحلة وهي من (اللور)، فهذه العشيرة التي كانت لها صولات وجولات ورجالات بمختلف الاختصاصات، يقول عنها الدكتور مصطفى جواد: ” انقطعت إمارة جاوان بانقطاع الخلافة العباسية…ولم يقع اليَّ فيما قرأت من تواريخ اسم أمير ظهر بعد ذلك الزمان، والظاهر انهم استعربوا استعراباً تاماً، واندمجوا في عرب الفرات الأوسط”. وجاء في سيرة تاج العارفين الشيخ أبو الوفاء محمد الزاهد المتوفي في القرن السادس الهجري، انه كان نرجسي الأصل، وعشيرة جاوان تتفرع إلى النرجسية والبشيرية، وانه قال: أمسيت عجمياً وأصبحتُ عربياً(5). وقد هجا ابن الرومي اعجميا استعرب قائلا:
أإسماعيلُ من رَجلٍ تَعرَّب بعد ما شاخا
فأصبح من بني شَيْبانَ ضخم الشأن بذَّاخا
وصار أبوه بِسْطاماً وكان أبوه قَيْبَاخا
وصار يقول قُمْ عَنَّا وكان يقول قُوهَاخَا
وبهذا نعدّ الكرد الفيليين العراقيين ابتداء من الفتح الإسلامي والى نهاية العصر القديم مندثرين في المجتمع العراقي وهذا هو (الاندثار الفيلي الأول).
والفيليون في العصر الحديث يمثلون انتماءً لرحلات جديدة من پشتكو إلى العراق، وان كانوا على علاقة معينة بالموجات الفيلية المندثرة مع التسليم بأن أرض العراق موطنهم الاول. وقد جاءت الموجات الجديدة في زمن الصفويين الذين احتلوا العراق اذ كانوا يجندون الفيليين في معاركهم، كما أتاح حكم (ذي الفقار نخود الكلهري الفيلي) (1524- 1530م) فرصة نادرة للنزوح من لرستان وپشتكو والانتشار في محافظات العراق في الوسط والجنوب. وفي بغداد سكنوا أماكن عدة مثل محلة (عﮔد الأكراد) في باب الشيخ ومحلة (خان اللاوند). وقد اكتسبت هذه المناطق أسماءها بعد النزوح الفيلي، حيث تشير إلى سكناهم وحالتهم في التجنيد غير النظامي وهو ما تعنيه كلمة (لاوند) التركية، مما يشي بأن العثمانيين كانوا يشرفون على تجنيد وتدريب الفيليين في الحكومة النخودية المسنودة من الدولة العثمانية. ويذكر عباس العزاوي أن مدينة العمارة أنشئت عام 1278ﮪ/1860م، وكانت تسكنها عشيرة (دوزاده) من اللر الفيلية، وجملة عشائر بدوية، وهذا يعني انتقالا جماعيا لهذه العشيرة إلى العمارة.
وقد مرَّ ما ذكره راضي الطباطبائي انه في عام 1273ﮪ/ 1857م نزح عدد غير قليل من جبل ﭙشتكو بسبب ظلم حاشية حسين قلي خان. ولما كان ظلم الولاة متصلاً فحتماً ليس فقط في هذه السنة نزحوا ولا في زمن هذا الوالي، سوى ان انتقالات ممائلة لم تدوَّن. كما أن فشل الثوار في الالوار وپشتكو وتنكيل الشاه رضا ﭙهلوي بالفيليين عقب ذلك، أدى إلى هرب عائلات كثيرة إلى داخل العراق كما اخبرني والدي (رحمه الله). ودفع إلى الهجرة أيضاً انتقال آخر ولاة ﭙشتكو (غلام رضا) إلى بغداد بعد تهديد الشاه رضا إياه، إذ انتقلت عائلته الكبيرة ومعها الحاشية وكثيرون معهم، ولا يزال أقاربه موجودين في الكوت وغيرها. وسبَّب ترك غلام رضا ﭙشتكو نزوح أعداد غفيرة من الفيليين إلى زرباطية اذ كان لمعظمهم بساتين وأملاك في هذه الناحية.
ودليلنا على قرب العهد بالجيل الثاني من الفيليين تشابه لهجات الفيليين في العراق اليوم مع لهجات فيليي إيران لان الألفاظ والدلالة تتغير بسبب الزمن الطويل. كما ان عشائر الفيلية في العراق كلها لها أصل في إيران ولا توجد عشيرة فيلية واحدة في العراق بلا مقابل في إيران.
والفيليون الذين اختاروا الطريق الذي سلكه أسلافهم في العيش مع عرب العراق يمرون بمحنة الاستعراب نفسها، وهم اليوم يتعرضون إلى اندثار ثان وإذا وقع فهو الأخير بعدما استقرت الدول وحددت الهجرة، وهذا الاندثار أبشع وأشنع من الأول؛ لان فيليي العهود الإسلامية استعربوا عن طيب خاطر حباً بالإسلام والمجتمع الذي منحهم الأمن والطمأنينة والمستقبل، أما فيليو اليوم فقد استعربوا خوفاً ورعباً، والأولى بالمجتمع العراقي العربي أن يؤمِّنهم على كرديتهم ويتقبل ولاءهم فليس ثمة كرد سيأتون بعد هؤلاء اذا اندثروا. وقد أعرض عباس العزاوي عن ذكر عشائرهم في كتابه (عشائر العراق) لعدم انطباق الوضع العشائري عليهم قائلا:” إن قبائل الفيلية وفروعها منتشرة في مختلف الأنحاء العراقية في ألوية: ديالى وبغداد والكوت والعمارة والبصرة.. إلا أنها لم تكن بوضع قبائل متشخصة، وإنما مالت إلى المدن والقرى أفراداً، وفي بعض المواطن تكونت منها كثرة ولم تكن بوضع قبائلي.
ان تفاقم ظاهرة الاستعراب بعد سقوط صدام ينذر بأن الفيليين سينقرضون تماما خلال جيل او جيلين قادمين بغض النظر عن مناقشة الاسباب والدواعي.[1]