في سورية حريات دينية وحرمانات سياسية
#سليمان يوسف يوسف#
الحوار المتمدن-العدد: 955 - #13-09-2004# - 11:40
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
سوريا، بحدودها التاريخية والثقافية القديمة، التي تجمع أجزاء هامة من بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، كانت ملتقى الشعوب والحضارات، فاجتمعت فيها اللغات واختلطت العادات وتفاعلت الثقافات، وقد شكلت، عبر التاريخ وحتى زمن قريب، بيئة ثقافية واجتماعية مناسبة، لنمو الأفكار والعقائد الدينية والسياسية والمذاهب الفلسفية.لكن سوريا اليوم لم تعد تلك الواحة الغنية الخصبة التي كانت تضج بالحياة بكل ما للكلمة من معنى، فقد أصابها شيء من التصحر الثقافي والجفاف السياسي وجمود في التقدم الاجتماعي، ذلك بسبب انغلاق الساحة السورية على ذاتها ومصادرة الحريات السياسية والفكرية وغياب المناهج التعليمية العلمية الصحيحة وانعدام برامج التنمية الوطنية، وتحريم الفكر النقدي وهيمنة الفكر الأوحد على مختلف مناحي الحياة في سورية.
لنأخذ مدينة (القامشلي)، أكثر المناطق بعداً عن العاصمة، دمشق، لم يكن يتجاوز عدد سكانها عام 1960 خمسين ألفاً وكانت نسبة الأمية فيها مرتفعة جداً، كان فيها مطبعتان متواضعتان، تصدر عنهما صحيفتان هما(صوت الجزيرة) و( الشرق العربي) و مجلة (الخابور)، كانت القامشلي ساحة مفتوحة للتنافس الديمقراطي بين مختلف الأحزاب والقوى الوطنية السورية، لكن اليوم و بعد نصف قرن من الزمن، دب الجمود في الحياة السياسية، حيث عزوف/هروب عام عن السياسية، وتراجع بشكل كبير النشاط الثقافي والفكري في المدينة، كماً ونوعاً، فبعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي، اختفت تلك الصحف عن واجهة المكتبات، وبالرغم من الثورة المعلوماتية واستخدام التكنولوجيا الحديثة في الطباعة، لا يصدر عن القامشلي،التي يرنو عدد سكانها اليوم من الربع مليون نسمه، بينهم آلاف حامليي الشهادات الجامعية والدراسات العليا، أية صحيفة أو جريدة، باستثناء تلك التي تصدرها الأحزاب الآشورية والكردية المحظورة.وأكثر ما تتميز به مدينة القامشلي حالياً، كباقي المدن السورية ومدن الشرق، كثرة الجوامع والمساجد، التي تتضاعف عددها عشرات المرات، والكنائس وإن بنسبة اقل.وبقي المركز الثقافي العربي في المدينة، وحيداً يتيماً لا رواد له،وكما هو معروف ممنوعاً على القوميات الأخرى، من آشوريين(سريان/كلدان) وأكراد وأرمن، من فتح مراكز ثقافية خاصة بهم.في حين انتشرت المدارس والمعاهد الدينية في كل انحاء البلاد، بهدف ابعاد المجتمع عن السياسية. من الطبيعي، في ظل هذه المناخات والأجواء السورية التي اتسمت بالحريات الدينية وغياب الحريات السياسية والفكرية، أن تنمو ظاهرة التدين وبشكل حاد في المجتمع،إذ تحولت المراكز الدينية الى منتديات لنشر الفكر الغيبي وتوسيع القاعدة الشعبية للتيارات الاصولية الاسلامية و تضائل نفوذ القوة العلمانية والديمقراطية وتقلص دور الاحزاب السياسية، وبروز حركات ومجموعات دينية اسلامية متطرفة على الساحة السورية، (حركة الأخوان المسلمين) التي شكلت خطراً حقيقياً على أمن واستقرار المجتمع السوري في الثمانينات من القرن الماضي.مع أن النظام استطاع القضاء على بنيتها العسكرية والتنظيمية، لكن لهذه الحركات والمؤسسات الإسلامية اليوم، من القوة الايديولوجية والشعبية في قاع المجتمع ستمكنها من أن تلعب دوراً أساسياً في أي تحول سياسي ديمقراطي في سوريا.
وبدلاً من أن تقوم السلطات السورية بتحرير القوى الحية في المجتمع واطلاق حرية الصحافة وحرية الرأي والحريات العامة والفردية، للتخفيف من ظاهرة التدين وللحد منها، أقدمت على إغلاق المنتديات الثقافية أمام المطالبين بالديمقراطية والحريات السياسية ودعاة المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان ، وملاحقة واعتقال النشطاء بينهم وحظر نشاط أحزاب المعارضة، ومنع الاعتصامات الهادئة التي كانت تنظمها المنظمات الأهلية احتجاجاً على المظالم التي تلحق بهذه المجموعة السورية أو ذاك الحزب، مما زاد من حالات الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلاد.
ما من شك، بان المسيحيين السوريين يتمتعون، بهامش جيد من الحريات الدينية، وبقدر كبير من المساواة مع المسلمين، لكن الدستور السوري يحمل بعض المواد التي تنتقص من حقوقهم السياسية وحقوق المواطنة، إذ ينص الدستور على أن يكون دين رئيس الدولة(الإسلام) والشريعة الاسلامية مصدر أساسي للتشريع، مما يعيق من اندماجهم الوطني في المجتمع، ويمنع تحقيق المفهوم الصحيح للمواطنة في سوريا. كما أن المسيحيين السوريين، من غير العرب، كغيرهم من المجموعات الثقافية والإثنية الأخرى، وقعوا ضحية التضليل الايديولوجي للفكر القومي العربي الذي ينظر لجميع مكونات المجتمع السوري بمنظار ايديولوجي عروبي قوموي يحجب رؤية المجتمع السوري على حقيقته، وعلى ما هو عليه من تعددية ثقافية ولغوية، ويتعاطى مع جميع المسيحيين في المنطقة على أساس انهم عرب مسيحيين، متنكراً لخصوصيتهم التاريخية والثقافية التي ما زال الكثير منهم يحتفظ بها، فقد أقام كل من الآشوريين(سريان/كلدان) والأرمن، بعض الهيئات الثقافية والاجتماعية والمدارس الخاصة بالكنائس التي سمح بها في اطار الحريات الدينية، للاهتمام بلغتهم وبتراثهم القومي الخاص.وضمن هذا الاطار جاء تدشين ((كنيسة)) في قرية هيمو بالقرب من مدينة القامشلي- من قبل البطريرك مار اغناطيوس زكا الأول عيواص، اثناء زيارته للجزيرة السورية في شهر آب الماضي -على ضريح المناضلة (السريانية) السورية (فبرونيا)،بنت (نصيبين)، التي اغتيلت على أيدي جندرمة جيش الاحتلال الروماني، سنة 304م وهي تدافع عن حرية واستقلال وطنها سوريا. لكن حدث التدشين تجاوز بعده الديني والكنسي، ليكون بيان تاريخي يلقي الضوء على عمق الوجود السرياني(الآشوري) في سوريا و المنطقة وللرد على حملات التضليل والتزييف التي تتعرض لها الهوية التاريخية والحضارية للجزيرة السورية، ومحاولة البعض اسقاط المرحلة السريانية(الآشورية) من تاريخ سوريا واختزال تاريخها بتاريخ العرب المسلمين، الذين قدموا الى المنطقة في القرن السابع الميلادي لنشر دينهم الجديد(الإسلام).
إن (السريان)- وكما عرفهم البطريرك زكا عواص الأول، الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية في العالم هم: (( جميع الطوائف السريانية المارونية والكاثوليكية والكلدانية والآشورية، وكل الذين يرفعون صلواتهم باللغة السريانية، وبل كذلك المسلمون الذين ما زالوا يتحدثون باللغة السريانية في مناطق عديدة من سوريا))- يرفضون أن ينظر لهم، على أنهم طوائف (مسيحية عربية) واقتصار حقوقهم على بعض الحقوق الدينية، كتشييد الكنائس والأديرة وحرية العبادة، فهذا ظلم واضطهاد، ليس بحق الآشوريين السريان بمختلف مذاهبهم فحسب، وإنما هو ظلم وإجحاف بحق سوريا، الوطن والتاريخ والحضارة. أن الإقرار بالحقوق الثقافية والسياسية للآشوريين(سريان/كلدان) هو ضرورة وطنية بقدر ما هو حق مشروع لهذه المجموعة السورية الأصيلة.ولم يعد مقبولاً أن يبقى تعليم اللغة السريانية، لغة سوريا القديمة،مقتصراً على الأديرة والمدارس الخاصة بالكنائس، وأن تخلو مناهج التعليم في سوريا من مادة اللغة السريانية، وكتاب تاريخ عن السريان(الآشوريين)، ليتعرف الإنسان السوري على الحضارة السورية القديمة ، وعلى دور السريان الحضاري، القديم والجديد في بناء الوطن السوري. ويقدم الانسان السرياني على أنه عنصر أساسي وأصيل من النسيج الوطني والاجتماعي، ليس في سوريا بحدودها السياسية القائمة وحسب، وإنما في سوريا الطبيعية بحدودها التاريخية والثقافية المعروفة، التي هي بالنسبة للسريان، أينما كانوا وحيثما حلوا، أكثر من وطن وأكبر من دولة، فبها ارتبط وجودهم ومعها يتقرر مصيرهم.
سليمان يوسف يوسف.... كاتب سوري.... مهتم بحقوق الأقليات
[1]