عبدالوهاب بيراني [1]
الغناء، نِتاج فني قديم قِدم المجتمعات البشرية، وربما من أعمق الفنون الموسيقية تأثيراً، والذي طالما كان حالة تعبيرية عن مزاج خاص للإنسان فينطلق ببث نجواه وأحاسيسه ومشاعره عبر استخدام حباله الصوتية ومخارج الحروف وما بين طبقات صوته والمقامات الموسيقية، ولعل الأغنية العاطفية المعبّرة عن مشاعر الحب والحنين والفراق والألم، أو عن الفرح واللقاء، كانت ومازالت شغفه الأول كموسيقي وفنان، أما الأغاني التي مازال صداها يتردد على الجبال والمدى والأفق المفتوحة، حيث تُغنى بالمواسم والأعياد والأفراح وحفلات الزواج والولادات، والأغنية الملحمية التي تروي حكايات عن الصداقة والبطولة أو الخيانة والغدر فأنها تحولت إلى صفحات من تاريخ الجغرافية الموغلة في العمق والوعورة ويوميات شعوب عاشت هناك تحت شمس الله وما زالت أغانيهم وموسيقاهم تشد المستمع لما فيها من صدق للمشاعر وعمق في الوعي وبساطة في اللحن وهو ما يطلق عليه مصطلح الأغنية التراثية.
أما الصنف الأخر فهو الأغنية المتعلقة بالأرض كرمزية لارتباط الشعب بأرضه التي يحيا عليها منذ القِدم، تلك هي الموسيقى الوطنية أو الأغنية القومية ببعدها الواسع وليس البعد الشوفيني الضيق إلى حيث حرية الوطن وحرية الشعب وسرد تاريخ الشعب وبطولاته وخيباته ويومياته وشهدائه ومآثره القومية والوطنية.
ولسنا هنا لتصنيف أشكال الأغاني كونه بحث يطول الحديث أو الكتابة عنه فهناك أغاني الطفولة و المراثي والمناسبات والأعياد وأناشيدها الخاصة كما هو الحال مع الأغنية أو الموسيقى الصوفية أو الدينية، والتي تأتي ممتزجة معاً في أغاني معاصرة تبث شكوى عامة أو تبث فرحاً غامراً.
وإنما الهدف من هذه المقدمة الطويلة نسبياً هو للكتابة حول أغنية تم طرحها حديثاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الكردية التي استطاعت أن تجمع ما بين العاطفي القومي التراثي وبصيغة حداثية وموسيقا كردية شرقية حديثة، ويأتي كل ذلك من كلماتها التي صاغها أمير شعراء الكرد العلّامة والفيلسوف والشاعر المتصوف صاحب ملحمة ممو زين الشاعر ملاي أحمدي خاني (16501707) ميلادي والذي يعد رائد الشعر الوطني القومي وهو أول من كتب الشعر عن ضرورة حرية الوطن والشعب ومازالت الكلمات التي كتبها قبل أربعة قرون تحتفظ بقيمتها وحداثتها رغم مرور أكثر من أربعة قرون من الزمن، وهذا أن دل على شيء فأنه يدل على عمق الألم والوجع الذي تعرض له الشعب الكردي ومنذ تاريخ طويل من النضال والتضحية.
اليوم ومن خلال أبيات شعرية خلدها “أحمد خاني” بإبداعه وإعجازه اللغوي وبلغة كردية بليغة، وألحان الموسيقي الشاب بيشاوا ميرزا Peshawa Mirza عبر تنويعات لحنية أسكبها في مقامات بديعة، وغناها مشاركة مع الفنانة الكردية جيان آغا Jiyan Agha عبر دويتو (ثنائي) في أغنية بعنوان “Roja me li Rojava ye”، الذي لم يعتمد فقط على مبادلة طبقات الصوت والتناغم ما بين القرار والجواب وأفراد كل جملة لحنية لطبقة صوت معينة وإنما اعتمدت على الغناء مبادلة ما بين لهجتين من لهجات الكرد وهما الكورمانجية الشمالية والسورانية الجنوبية، والعمل من إخراج بيشاوا ميرزا، وهي من المرات القليلة التي نكاد نسمع أغنية اعتمدت هذا النوع من الدويتو الذي غالباً ما يستخدم لغتين أو موسيقى مختلفة ضمن قالب لحني واحد.
استطاع كل من الفنان الكردي بيشاوا ميرزا أن يعبّر ومن خلال اللحن المتماسك والجميل أن يُوصل فكرة مبتغاه لما يريد إيصاله للملتقي (الجمهور) وكانت الفنانة جيان آغا وبقدراتها الصوتية العالية ومقدرتها الفنية على الأداء وذلك بما تمتلك من خبرة فنية وتجربة عميقة في مجال الغناء ولعلها لم تجد فرصتها الحقيقية لتعلن عن صوت فنانة تمتلك قامة فنية عالية على الساحة الفنية الكردية حيث استطاعت أن تمنح الأغنية والكلمات واللحن مسحة أنيقة عِبر قوة في الأداء ودفء في الصوت وعمق الإحساس إضافة للثقة التي تمتلكها وبقدرتها على تحقيق إنجاز فني مختلف ومتميز على جميع الصُعد الفنية كما أن طبقات صوتها الجمالية منحت الأغنية قوة وإحساساً عالياً أمام نقاء وروحانية الفن بالتوازي مع أداء الفنان بيشاوا ميرزا الذي يمتاز بخامة صوت نادرة حيث الدفء والسلاسة والليونة وقوة الأداء مع جمال ونقاء الصوت، هذه المبادلة الأدائية ساهمت ببلوغ الأغنية المستوى الفني العالي وخاصة أن حامل اللحن والذي منح الأغنية القوة والجزالة والمتانة هي القصيدة وكلماتها ووزنها وروعتها، كل ذلك ومع طريقة الأداء الثنائي حيث الصوت النقي الواضح البيان فلم نجد صوت الموسيقى يعلو أو يحجب الصوت البشري أو أي تحجيم ما مما نلاحظه في أغلب الأغاني الحديثة وأيضاً جاء مستوى الصوت موازياً لبذخ الموسيقى وتوزيعه الإبداعي.
يمكننا القول أن أغنية بهذا المستوى والعناية كلماتٌ ولحناً وأداءً ستحقق غايتها وستكسب شعبيتها وجمهورها وقيمتها الفنية العالية وستحظى بإعجاب المستمعين، وستكون رصيداً فنياً يسجل لكل من الفنان المبدع بيشاوا ميرزا والفنانة الرقيقة جيان آغا كأغنية اكليركية عاطفية قومية حيث الوطن والتاريخ والأمجاد والأبطال والجغرافية ماثِلة في كلماتها، لذلك تعتبر إضافة جادة وحقيقية لسجلات ومكتبة الموسيقى والفن الكردي المعاصر.