إعداد/ آزاد الكردي
تزخر سوريا بالأماكن التي يحتضنها الجمال والسحر، فتتعانق بذلك ألوان من الخضرة البهيجة بالماء المنساب؛ وبنضارة ضوء الشمس القابع فوقها بمنتهى الروعة. كما ويتحاور في الكثير منها حكايات التاريخ بمفاتن الطبيعة في لغةٍ واحدة يمكن أن تتجاوز الحدود والمسافات من غير كلام ومن بين هذه الأماكن؛ تل أبو هريرة.
يشكل موقع تل أبو هريرة مادة غنية بالحث والدراسة والذي يخفي كثير من الحقائق العلمية عن طبيعة حياة الإنسان في فترة هامة من تاريخه الطويل، لاسيما إذا كان ما نتحدث عنه قد غمرته المياه بشكلٍ كامل. مشكلاً لغزاً صعباً حيَّر العلماء لفترة من الوقت، حتى نشرت مجلة العلوم الأمريكية مؤخراً بحثاً عن أهمية هذا الموقع، ونشرته صحيفة “ذي صن” أيضاً.
أولى المناطق للاستقرار البشري والزراعة
يقع تل «أبو هريرة» في ريف مدينة الرقة على الضفة اليمنى لنهر الفرات عند الانعطاف الكبير للنهر باتجاه الشرق من الضفة الشامية ويبعد عن مدينة “الرقة” حوالي /80/ كم غرباً، وعن مدينة الطبقة 25 كم. في موقع استراتيجي هام يطل من جهة الجنوب على سهل زراعي واسع ذي تربة خصبة. ويوجد أسفل الموقع سهل فيضان الفرات وافر المياه، بينما يوجد في أعلى ظهر الوادي أرض مخضرة فيها أعشاب “استبس” تمتد بعيداً من هذا المكان، وليس بعيداً عنه، وعلى مسافة قريبة يمكن قطعها مشياً على الأقدام كانت توجد غابات مفتوحة من البلوط والفستق وغير ذلك من الأشجار الحاملة للجوز. ووجدت فيها أقدم آثار للقمح المزروع في العالم، ولهذا يعتقد أن استئناس وتدجين القمح حدث في هذه المنطقة، وبذلك تكون قرية “أبو هريرة” من أكبر القرى في سوريا خلال فترة العصر الحجري الوسيط. حيث كانت الأبنية في هذه الفترة كبيرة الحجم وذات غرف واسعة نسبياً ومستقيمة الأبعاد، الأمر الذي يجعل هذا الموقع من أقدم القرى الأثرية في العالم وعلى أرضها أقام الإنسان بيته الأول.
البعثة الأثرية للموقع قبل غمرها بالمياه
عملت في هذا الموقع بعثة أثرية مشتركة من جامعة أكسفورد ومعهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو، تحت إدارة الباحث أ.م.ت. مور A.M.T.Moore لموسمين فقط، وذلك في 1972-1973م. وقد أمكن خلال مدة التنقيب القصيرة هذه تحديد مناطق الاستيطان الرئيس في التل. ويعود هذا الاستيطان إلى عصور ما قبل التاريخ، ووجدت بقاياه في سويتين رئيستين: الأولى تعود إلى فترة ما بعد العصر الحجري القديم (12500- 10000 ق.م)، والثانية تعود إلى العصر الحجري الحديث، وتشمل ثلاث طبقات. على أثر ذلك، تمكن علماء الآثار من تقديم دراسة وافية حول موقع “تل أبو هريرة” في سوريا، وخلصوا من خلال الأدلة والبقايا من الموقع قبل فقدانه تحت الماء- كون الموقع تم غمره تحت بحيرة السد الآن- وتضمنت الاكتشافات في تل أبو هريرة؛ محاصيل الحبوب القديمة، والأكواخ الصغيرة المستديرة والأدوات ومناطق تخزين الطعام.
حقائق علمية، النيزك الملتهب واصطدامه بالتل
جرى التنقيب في موقع تل أبو هريرة في السبعينيات، ولكن الدراسات على البقايا المجمعة، استمرت لعقود. إلى أن عاد إليها أستاذ الجيولوجيا الفخري بجامعة كاليفورنيا في “سانت باربرا” جيمس كينيت، الذي درس مؤخراً بقايا تل أبو هريرة، ووجد ضمن الاكتشافات، من بين الحبوب وعظام الحيوانات مادة تسمى “meltglass”، يمكن أن تتشكل فقط في درجات حرارة عالية للغاية، مثل تلك المرتبطة بالتأثير الكوني العنيف والنيازك. وأعاد كينيت وزملاءه تحليل بعض المواد، التي جمعت في السبعينيات، وخلصوا إلى أن نيزكاً اصطدم بهذه القرية، وهو ما يبرهن أن الاكتشافات الجديدة، تمثل دليلاً أقوى بكثير على درجات الحرارة المرتفعة للغاية، التي لا يمكن ربطها إلا بالتأثير الكوني، إلى الحد يمكن القول، إن درجات الحرارة المرتفعة هذه قادرة على إذابة سيارة في أقل من دقيقة. وعثر على دليل على تأثير مذنب، يعرف مساره باسم “Younger Dryas Boundary” ، مجزأ قبل زهاء 10 آلاف عام، في مواقع أخرى من أوروبا والأميركتين وأجزاء من الشرق الأوسط.
الجدير ذكره، أن موقع أبو هريرة كان موطناً للمزارعين الأوائل في العالم، ويعتقد الخبراء أنه عجّ بالحياة في وقت ما بين 13 ألفاً وتسعة آلاف سنة مضت، منذ بدء تحوّل السكان من مرحلة جمع الصيد إلى مرحلة حياة المزارعين. وهو أول المواقع التي دمرت منذ زهاء 10 آلاف عام بواسطة بقايا كبيرة من صخرة فضائية، يعتقد أنه نيزك، وبمعنى أدق، فهو يوثق التأثير الكارثي لمذنب مجزأ على منطقة سكنية.[1]