=KTML_Bold=من مهد الحضارات إلى العصرانية الديمقراطية=KTML_End=
ومن المعاهدات الهرمية إلى المعاهدات المجتمعية
أحمد بيرهات (كاتب وباحث ورئاسة مشتركة لمنتدى حلب الثقافي)
تلعب #المعاهدات# التي تُبرم بين النظم الدولتيّة دوراً مؤثراً في دوران عجلة التاريخ وتحديد مصير الشعوب والمجتمعات وتفرز نتائج تؤسس لمراحل مُتقدمة، والتي تتمخض عنها الكثير من المعطيات والجوانب منها الإيجابية والسلبية ترفع شأن بعض الدول على حساب دول أخرى أو على حساب مصالح الشعوب.
فما جاءت به نتائج الحرب العالمية الأولى بين الأعوام 1914- 1918 هو تقسيم ما تبقّى من ميراث الدولة #العثمانية# وبناء عدة دول قوميّة في المنطقة خدمةً لمصالح المنتصرين فيها (كإحدى مرتكزات قوى الحداثة الرأسمالية إضافةً إلى الرأسمال والصناعوية)، بعد أن وقّع العثمانيون على هدنة مودروس في 30-11-1918 التي أعلن فيها رسمياً حل الإمبراطورية العثمانية واتفق الحلفاء بموجبها على تقسيم تركتها بعد أن سبق ذلك قيام ثورة عربية لاقت تشجيعاً وتحريضاً من البريطانيين ضد العثمانيين عام 1916، وبدأت تبعات ذلك بتأسيس “الدول المستقلة” أو المنتدبة ابتداءً من المملكة السوريّة عام 1918 إلى الدولة العراقية 1921في منطقة الشرق الأوسط، كانت حصة التركياتية البيضاء المشكّلة من الطبقة البرجوازية وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي والرأسمال المالي و”دونمة الأتراك” هو السيطرة على المشهد العام في تركيا من خلال اتفاق فيما بينهم لتحديد مصير تركيا الجديدة.
يُصادف يوم 24 تموز عام 2023 الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان هذه المعاهدة التي وُقِّعت في مدينة لوزان السويسرية بين كل من الدولة التركيّة من جهة ومجموعة الدول التالية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان ورومانيا وصربيا وكرواتيا وكانت بمثابة الانتهاء الفعلي للحرب العالمية الأولى، وانتهاء الخلافات بين الدول المذكورة مع تركيا، ويعتبر الإسقاط الفعلي لحقوق الكرد المذكورة وفق معاهدة سيفر، فقد استمرت مفاوضات توقيع معاهدة لوزان حوالي 9 أشهر من 23 تشرين الثاني 1922 إلى 24 تموز 1923 قبل التوقيع عليها رسمياً، حيث تم الاتفاق من خلالها على 143 بند، كان يرأس الوفد التركي نائب أتاتورك ومن أصول كرديّة عصمت اينونو، لم يُذكر فيها حتى بند واحد عن الكرد وحقوقهم ماعدا بنود من 37 حتى 45 لحقوق الأقليات (الذي لم يتم استثماره من قبل الأحزاب والشخصيات الكردية السياسية والدبلوماسية ولم يتم إثارتها دبلوماسياً وحقوقياً وسياسياً).
=KTML_Bold=تركيا والتناقضات الدوليّة=KTML_End=
استغلت تركيا الأوضاع السائدة آنذاك ولعبت على التناقضات الدولية بين طرفي الصراع الفرنسيين والإنكليز من جهة والسوفييت من جهة أخرى (وهذا يشبه ما يحصل في الساحة الأوكرانية ومحاولة تركيا الاستفادة من الصراع المحتدم فيها بين دول حلف الناتو وروسيا…).
لقد عمل الكرد في تلك الفترة قبل الإعلان الرسمي لمعاهدة لوزان لتثبيت حقوقهم عن طريق شريف باشا رئيس وفد جمعية تعالي كردستان عندما ذهب مع آخرين إلى مؤتمر السلام في سيفر بفرنسا عام 1919، وعملوا هناك على المطالبة بتقرير مصير الكرد بتأسيس كيان خاص بهم مما شجع ذلك ما ورد في مبادئ “اتفاقية سيفر” والمبادئ الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ويلسون (1856-1924) في خضم الصراعات التي جرت وما تمخض عنها من تموضعات وتحالفات جديدة، والتي شُكّلت آنذاك، ومع انتصار ثورة أكتوبر السوفييتية عام 1917 والتي كشفت عن الاتفاقية السرية المعروفة بسايكس بيكو وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وبسبب مخاوف الفرنسيين والإنكليز من ميل تركيا ومصطفى كمال أتاتورك إلى السوفييت، وخوفاً على مصالحهم الاستراتيجية أكّدوا للجانب التركي استعدادهم بالتنازل عن بعض امتيازاتهم في تركيا والتخفيف من شروطهم السابقة في المنطقة، وبسبب هذه السياسة الجديدة تغيرت موازين القوى لصالح أنقرة وأتاتورك على حساب الكرد خاصةً، وقد ساهم في ترجيح هذه السياسة خسارة الرئيس الأمريكي ويلسون وحزبه الديمقراطي الانتخابات في أمريكا، وهذا ما أدى إلى تخلّي وابتعاد أمريكا عن المطالبة بتطبيق مبادئ معاهدة سيفر، والاختفاء من المشهد بشكلٍ كامل فالجزء الشمالي من كردستان كان تحت الوصاية الأمريكية فتنازل عنها.
وهنا يمكننا ملاحظة كيف تغيّر المصالح حقوق وقضايا الشعوب، فمعرفة قضايانا وحقوقنا ووضع برنامج للسير نحو تحقيقها يحمل في طياته أهمية قصوى (كما حصل للكرد في تجربة سري كانيه وكري سبي بوجود الرئيس الأمريكي السابق ترامب والحالي جو بايدن).
إذاً الظروف والأجواء لم تكن ملائمة للكرد قبل مؤتمر لوزان لتثبيت حقوقهم في اتفاقية سيفر عام 1920، فبعد انعقاد مؤتمر القاهرة حول القضية الكردية عام 1921 بإشراف كبار المسؤولين البريطانيين وبرئاسة ونستون تشرشل (1874-1965) وزير المستعمرات الإنكليزية آنذاك، فقد تم رفض إنشاء كيان للكرد في العراق من خلال توصلهم إلى الاستنتاج الخاص بهم وهو أنَّ الكرد يميلون للتحالف مع الأتراك المتحالفين مع السوفييت، مما زاد من مخاوف البريطانيين خسارتهم لإقليم الموصل المُكتشف فيه النفط للتو (آنذاك)، فسعت بريطانيا إلى كسب تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (إضافةً لما ذكرناه حول خسارة ويلسون الانتخابات الأمريكية والابتعاد عن الصراع والمنافسة على التركة العثمانية).
=KTML_Bold=شراسة الوفد التركي برئاسة إينونو في مفاوضات لوزان=KTML_End=
وضع الوفد التركي في لوزان برئاسة عصمت إينونو ذو الأصول الكردية شرطاً وهو عدم حضور وفد يمثّل الكرد (وفق مبدأ أنه يمثل الكرد في المؤتمر ولا يريدون الانفصال عن تركيا).
فخلال المؤتمر تنكَّر عصمت إينونو لحقوق الكرد، وطالب خلال المؤتمر بالسيطرة على الجزر اليونانية وبتطبيق الميثاق الملي الذي أقروه بأنفسهم في عام 1920 (والذي يتضمن إضافةً إلى الحدود التركيّة الحالية ضم ولاية حلب والموصل أيضاً لحدودهم) واعتُبرت هذه المطالب التركيّة كأحد أشكال الضغط على الدول المشاركة في مؤتمر لوزان، طبعاً تم رفض الشروط التركيّة هذه مما أدى لاستمرار المناقشات عدة أشهر إلى أن توصلوا إلى توقيع المعاهدة في 24 تموز 1923 بصيغتها النهائية، بعدما اضطر أتاتورك لقبول شروط الحلفاء بمؤتمر لوزان (عندما توصل إلى نقطة اللاعودة مع دول الحلفاء لعدم خسارة كل شيء) لتثبيت أركان حكمه وإنشاء دولة علمانية على أنقاض الدولة العثمانية اعتماداً على أسس شوفينية وبحرمان الكرد والشعوب الأخرى من حقوقهم والقيام بترتيبات بما يخص المضائق البحرية والجزر المتنازع عليها مع اليونان، واعتبر مصطفى كمال أتاتورك أنَّ هذا ما سوف يقرَّبه من الغرب، وحتى الآن مازالت القضايا الشائكة والخلافات مستمرة حول الجزر اليونانية والقضايا القومية للشعوب الكردية والأرمنية وغيرها، إذاً هذه المعاهدة كانت نواة تأسيس لتركيا الحديثة التي أُعلنت رسمياً في 29 تشرين الأول عام 1923.
=KTML_Bold=الدور المحوري لبريطانيا في عدم حصول الكرد على حقوقهم=KTML_End=
لعب الاستعمار البريطاني الدور الأبرز في إبرام هذه المعاهدة، لاتخاذها مصلحتها على حساب قضية الكرد ابتداءً من مؤتمر القاهرة 1921 وانتهاءً بمسألة الموصل التي وُقّعت في صيغتها النهائية في اتفاقية أنقرة عام1926 والتي بموجبها تمَّ الاتفاق على إعطاء تركيا حصة 10% من نفط كركوك لمدة 25 سنة، ورسمت الحدود الحالية التركية العراقية على حساب اللعب بالقضية الكردية ومحاولة طمرها إلى الأبد.
تم ذلك دون حسم مسألة الموصل التي تمَّ تأجيلها أثناء مفاوضات لوزان، بسبب تعنُّت الأطراف بمواقفها، وبعد تفنيد بريطانيا حجج الأتراك كُلفوا من قبل عصبة الأمم للانتداب على العراق، فتركيا كانت متمسكة بالموصل بحجة أنَّ سكان المنطقة يرغبون بالانضمام إليهم، وكانت تحت النفوذ العثماني وأنَّ هناك “وحدة العرق” بين الكرد والترك وأنَّ تجارة الموصل مرتبطة بالأناضول، فكان الرد البريطاني هو على الشكل التالي أنَّ غالبية سكان المنطقة من العرب وهم ساميين والكرد من أصول آرية وهم مختلفين عن الأتراك، كذلك فإنَّ غالبية تجارة الموصل هي مع بغداد وفق ذلك رفع طلب من قبل بريطانيا عصبة الأمم للانتداب على العراق والتي أقرّت لاحقاً بأنَّه لا يحق لأي طرف احتلال المنطقة، وأَعفى ذلك الموقف التركي لتعود الموصل إلى الانتداب البريطاني، وهنا تكمن أهمية قراءة التاريخ وإسقاطها على الاتفاقات التي حصلت وتحصل في الشرق الأوسط ك لوزان أو اتفاقية أضنة واتفاقية الجزائر.
فعند التمعّن في ظروف وأهداف توقيع معاهدة لوزان يتراءى لنا أنَّ الدول الأوروبية ولمصالحها الأنانية قد أسقطت فعلياً تجربتها السابقة في توقيع معاهدة وستفاليا التي أُبرمت عام 1648(عندما كانت الإمبراطوريات والشركات الرأسمالية تتصارع فيما بينها آنذاك على امتلاك الجغرافية ونهب ثروات البلدان والشعوب الأخرى وامتلاك الأسواق لبضائعها التجارية وصناعتها)، على منطقة الشرق الأوسط والتي قامت بها عبر تقسيمها إلى دول وكيانات صغيرة ومتصارعة ووضع حدود لها تقودها سلطات ونظم وشخصيات محافظة مرتبطة أغلبها بالأجندات الخارجية، وكانت ذات دول مُنتدِبة وتعيش خلافات حدودية كثيرة وضعتها الاتفاقات والمعاهدات المتعددة الثنائية أو الدولية، كل هذا استهدافٌ للإرث الثقافي لشعوب المنطقة في ميزوبوتاميا وتعايشهم المشترك وإبعادهم وإشغالهم بقضايا ثانوية دخيلة وبعيدة عن ثقافة المنطقة كالتعصب للقومية على حساب الوطن والدفاع عنها وربط مفهوم الوطن بالحدود التي رُسِمت نتيجة سياسات الاستعمار والقوى الخارجية والرجعيين والمتواطئين معهم في الداخل، وبات يُعرف الوطني بقدر ما كان مرتبطاً ومناصراً للزعيم أو الحاكم وعكس ذلك يعني إنهاءه من الوجود كما حصل ذلك مع الشعوب كالكرد والأرمن والآشور.
يشير المفكر الكردي القائد عبد الله أوجلان إلى وجود تحالف في هذه النقطة في مجلده الخامس حيث يقول: “إن تحالف الأشراف وملّاكي الأراضي من الكرد والمستثمرون والكوادر النخبويون من اليهود والعناصر القوموية البيروقراطية التركية، وأن هذا التحالف استمر في حرب التحرير الوطنية التركية (بين أعوام 1919-1922) رغم التشكيك إلى أن غالبية الكرد المثقفين، والأسياد الكرد، قد آزرت هذا التحالف والذي رسّخ في معاهدة أماسيا ومؤتمر أرضروم ومؤتمر سيواس والتشكيلة الأولى للبرلمان التركي ويترسخ هذا التحالف بقانون الحكم الذاتي الكردي المزيَّل بتاريخ 10-03-1922”.
[1]