(تركيا)..... الى أين ؟ (20)
عودة الوعي القومي الكوردي بظهور حزب العمال الكوردستاني
بعد الفترة التي أعقبت الإنتفاضات في الشمال الكوردستاني في العقدَين الثاني و الثالث من القرن العشرين، خيّم اليأس على الكورد الشماليين و دخلت روح الإستسلام في نفوسهم و أخذوا يشعرون بالرعب و الخوف و الرهبة من الجندرمة التركية بعد قيام الحكومة التركية بقتل أعداد كبيرة من الثوار و تنفيذ خطتها المبرمجة، التي وضعها عصمت إينونو، بتكليف من كمال أتاتوك، لتتريك كوردستان و تتريك شعبها و للقضاء على مقومات الثورة في كوردستان و ذلك بإتخاذ إجراءات، منها إنكار الوجود الكوردي و الإدعاء بأن الكورد هم أتراك جبليون متخلفون و تهجير الكورد من كوردستان الى غرب (تركيا) و توطين الأتراك محلهم في كوردستان. كانت الفترة الممتدة من العقد الثالث الى العقد الثامن من القرن العشرين، فترة هدوء و ترقّب في إقليم شمال كوردستان ، حيث بات اليأس و القنوط تسيطران على سكانه.
أركّز هنا على حزب العمال الكوردستاني لأنه لعب و لا يزال يلعب دوراً محورياً في الحياة السياسية في شمال كوردستان، حيث توجد أحزاب كوردستانية أخرى في الإقليم، مثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي تمّ تأسيسه في سنة 1965 و حزب عمال كوردستان الذي ظهر الى الوجود في سنة 1971 و الحزب الإشتراكي الكوردستاني الذي تأسس في أواخر السبعينيات من القرن العشرين و حزب رزگاري و آلاي رزگاري و حزب التحرير الإسلامي و حزب كاوه و غيرها.
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، عام 1978 تمّ تأسيس حزب العمال الكوردستاني، كمنظمة يسارية من قِبل مجموعة من الطلبة اليساريين الكورد و الأتراك، من أمثال عبد الله أوجلان و معصوم قورقماز و مظلوم دوغان، الذين كانوا قد تركوا صفوف الأحزاب التركية اليسارية، بعد أن خاب أملهم في اليسار التركي في الإعتراف بشعب كوردستان و العمل على تحريره من الإستعباد و الإحتلال. ترأس الزعيم الكوردي عبدالله أوجلان الحزب المذكور منذ تأسيسه الى أن تمّ إختطافه و أسره في العاصمة الكينية، نايروبي في عام 1999. تبنى الحزب الفكر الماركسي اللينيني و رفع شعار إنشاء دولة كوردستان المستقلة و بذلك يكون ثاني حركة كوردستانية في التأريخ التي ترفع هذا الشعار بعد أن نادى بها و مارسها ملك كوردستان، الشيخ محمود الحفيد. في 15 آب/أغسطس من عام 1984، أعلن الحزب الكفاح المسلح ضد الحكومة التركية لتحقيق إستقلال كوردستان و تحرير شعبها من العبودية و الإحتلال. كسر الكفاح المسلح الكوردستاني حاجز الخوف لدى الشعب الكوردستاني من السلطات التركية و أحدث تطوراً نوعياً في الوعي القومي الكوردي في الشمال الكوردستاني، بل في بقية أنحاء كوردستان أيضاً.
تحوّل حزب العمال الكوردستاني بسرعة كبيرة من مجرد مجموعة قليلة من الطلاب الماركسيين غير المؤثرين في الساحة السياسية الكوردستانية إلى أهم تنظيم سياسي في إقليم شمال كوردستان و أصبح يحظى بدعم أكثرية المواطنين الكوردستانيين الشماليين، بل أخذ الكثير من الكورد في كافة أجزاء كوردستان يتعاطفون مع الحزب المذكور و ينضمون إليه و يشاركون في نشاطاته السياسية و الإعلامية و العسكرية و التنظيمية و الثقافية.
إنّ ظهور حزب العمال الكوردستاني في الساحة الكوردستانية كان تطوراً نوعياً في الحركة التحررية الكوردستانية، حيث أنّ الحزب إستطاع أن ينجح في تخطّي التنظيمات الكوردستانية التقليدية و القيام بتطوير العمل السياسي الكوردستاني في مختلف المجالات و الذي عجزت عنه الأحزاب و الحركات الكوردستانية التي سبقته.
من أهم الإنجازات التي حققها حزب العمال الكوردستاني هو كسر حاجز الخوف لدى المواطن الكوردستاني من السلطة التركية بعد عقود من الإحباط و الذل. أخذ شعب كوردستان يرى بنفسه كيف يتصدى أفراد الحزب للقوات التركية و كيف يمرغون العنجهية و الروح الإستعلائية الكمالية في التراب. كسر جدار الخوف كان أهم خطوة نحو الثورة لتحرير المواطن الكوردستاني من شبح الخوف من النظام و معرفته بأن النظام التركي الذي كان يتبجح بأنه قوة لا تُقهر، ما هو إلا نمر من ورق، أراد به إرهاب الشعب الكوردستاني و منعه من رفع صوته و صرخاته تعبيراٌ عن آلام العبودية و الذل و المعاملة العنصرية التي يعاني منها.
قام بتحمل أعباء قيادة حزب العمال الكوردستاني طلاب و أكاديميون و أن غالبية أعضائه تنتمي الى الطبقة المسحوقة من العمال و الفلاحين و بذلك قام الحزب لأول مرة في تأريخ الحركات الكوردستانية بإبعاد الإقطاعيين و رجال الدين عن قيادة ثورة كوردستانية. صحيح أنّ هناك أحزاب كوردستانية تتبنى أفكاراً يسارية، إلا أنها عملياً تتقاسم قياداتها الآغوات و رؤساء العشائر و رجال الدين أو أن لهؤلاء نفوذ كبير في رسم قرارات تلك الحركات و الأحزاب. هكذا نجح حزب العمال الكوردستاني في إجراء تغيير جذري في تركيبة القيادات السياسية الكوردستانية من قيادات دينية و إقطاعية الى قيادات مثقفة و التي تنتمي الى الطبقتين الكادحة و الوسطى للمجتمع. مع تعاظم شعبية الحزب في كوردستان، و خاصة بعد إعلان الكفاح المسلح، عمل الحزب على القضاء على النظام العشائري المتخلف و العبودية الإقطاعية و الدينية و تغيير التركيبة الإجتماعية للمجتمع الكوردستاني.
كما ذكرت، رفع الحزب شعار إستقلال كوردستان من الإحتلال الأجنبي و توحيد كوردستان. إنّ هذا الشعار كان له دوراً كبيراً في توعية الكوردستانيين بأنّ وطنهم محتل و مجزأ و أنّ المحتلين صنعوا حدوداً وهمية، قسّموا بموجبها كوردستان و وضعوا حواجز أمام تواصل الشعب الكوردستاني و تفاعله و تكامله. كما أنّ الحزب نجح في بث الفكر القومي للملايين من مواطني كوردستان و بذلك فضح بؤس الحركات و التنظيمات الكوردستانية التي تنادي بالحكم الذاتي أو النظام الفيدرالي للدول المحتلة لكوردستان و الذي يعني الإعتراف الصريح لتلك الحركات و التنظيمات بواقع تقسيم كوردستان و تشتيت شعبه و القبول بهما و الإستسلام للأمر الواقع. كان لهذا الوعي القومي تأثير بالغ على شعب كوردستان، و خاصة في الشمال، بعد معاناته من التعرض للتتريك و الإهانة و الذل و الإستخفاف به و إنكار دوره الحضاري، كواحد من أعرق شعوب الأرض.
بالإضافة الى إحياء الروح القومية لدى جماهير إقليم شمال كوردستان، فأن حزب العمال الكوردستاني لعب دوراً كبيراً في بث الروح القومية في صفوف الجماهير الكوردستانية في الأجزاء الأخرى من كوردستان و خاصة في إقليمَي شرق و غرب كوردستان. تواجد قيادة الحزب في سوريا و لبنان كان له أثر كبير في بث روح الكوردايه تي بين الكورد في غرب كوردستان و في لبنان و نتيجة هذا التأثير إلتحق الآلاف منهم بصفوف قوات البيشمه ركه التي يقودها الحزب. كما أن الحزب نجح في نشر الفكر القومي في شرق كوردستان و خاصة بين جماهير لورستان في إيلام و كرمنشاه و مناطق و مدن أخرى التي كانت الأحزاب الكوردستانية الأخرى في شرق كوردستان قد أهملت سكان لورستان و إقتصرت في نشاطاتها و فعالياتها و تنظيماتها و ثوراتها على المناطق التي يقطنها الناطقون باللهجتين الكرمانجية الجنوبية و الشمالية في مناطق مهاباد و سنه و ورمي و غيرها. إن تنظيم الشريحة اللورية و توعيتهم قومياً كانت عملاً جباراً، حيث تمً إنقاذ الكثيرين من أبناء و بنات هذه الشريحة الكوردية من الإنسلاخ عن شعبهم الكوردي، بعد أن تم تفريس و إستفراس الملايين منهم خلال السنين التي عاشوها في ظل الإحتلال الفارسي و تتحمل الأحزاب الكوردستانية في شرق كوردستان جزء كبيراً من مسئولية إنسلاخ الكثيرين من هذه الشريحة عن أمتهم الكوردية.
لأول مرة في التأريخ الكوردستاني، تقوم المرأة الكوردستانية بالمشاركة الحقيقية و المتكافئة مع الرجل في حزب كوردستاني و حركة كوردستانية، حيث تبوأت مكانتها الطبيعية في صفوف حزب العمال الكوردستاني و أخذت تقوم مع الرجل بتحمل مسئوليات قيادية و تنظيمية و إعلامية و عسكرية. يُشكل العنصر النسوي نسبة عالية في الحزب، و أن أعدادهن قد تكون مساوية للعنصر الرجالي. هذه المشاركة الكبيرة للمرأة الكوردستانية في حركة وطنية تحررية قد تكون فريدةً في العالم أجمع، و لم يحصل مثل هذه الظاهرة في المجتمعات الإسلامية قط خلال تأريخها. كما أنّ الإنتماء النسوي العالي جداً للحزب، يدل على أنّ الحزب إستطاع تغيير المجتمع الكوردستاني الذكوري المتخلف و تجاوز تقييدات الشريعة الإسلامية. في مجتمع متخلف، متمسك بالتقاليد البالية و ذي أكثرية مسلمة، كالمجتمع الكوردستاني، فأنّ ظاهرة المشاركة الكثيفة للمرأة في الحزب المذكور و في كفاحه المسلح، تحتاج الى دراسات و بحوث إجتماعية عميقة لفهمها و معرفة ظروف و أسباب حدوثها. هنا يمكن الإشارة بأن من بين الأسباب المؤدية الى المشاركة الكبيرة للمرأة الكوردستانية في هذه الحركة، قد تكون نسبة كبيرة من العضوات في الحزب تنتمي الى الدين الآري (العلوي)، المتحررات من التقاليد و القيود التي يفرضها الدين الإسلامي و أنّ أعداداً كبيرة من المنخرطات في صفوف الحزب و كفاحه المسلح تتكون من شابات يافعات متحمسات للدفاع عن وجود أمتهنّ و كذلك قد يعود السبب أيضاً الى أنّ نسبة كبيرة من عضوات حزب العمال الكوردستاني و مقاتلاتها تتألف من النساء الكوردستانيات المغتربات في البلدان الغربية و المتحررات من الثقافة الإسلامية و الشرقية. كما أنّ الفكر اليساري الذي يحمله الحزب لا بد أنه قد نجح الى درجة كبيرة في جذب الأنصار، و من ضمنهم بالطبع العنصر النسوي و تجاوز التقاليد و الأعراف التي تُقيّد المرأة و تجعلها حبيسة لهذه التقاليد، بالإضافة الى مشاركة أعداد من النساء الغربيات اليساريات في هذه الحركة الكوردستانية التحررية.
قام الحزب على أسس تنظيمية مسئولة و نشطة، تجاوزت الأساليب التقليدية التي كانت و لا تزال معظم الأحزاب الكوردستانية الأخرى تتبعها، حيث بدأ بنشاطات تنظيمية كبيرة و واسعة في شمال كوردستان و بين الجاليات الكوردستانية في الدول الغربية و في الأجزاء الأخرى من كوردستان و دول العالم الأخرى. نجح الحزب في ضم عشرات الآلاف من الأعضاء و العضوات، من المواطنين الكوردستايين و غيرهم، الى صفوفه و جمع حوله الملايين من الأنصار و المؤيديين. جعل أعضاءه يقومون بتحمل أعباء مسئولياتهم بإلتزام دقيق و يعملون بجد و نشاط لتنفيذ المهام الملقاة على عاتقهم، دون كلل أو تعب، حيث قام أعضاؤه بعمل دؤوب، يتعاونون فيما بينهم و يتكاملون في تنفيذ أعمال الحزب بتوازن و دراية. كما أنّ هذا التنظيم الدقيق كان عاملاً أساسياً في نمو الحزب و زيادة شعبيته.
عرف الحزب الدور الحيوي للإعلام في إيصال الصوت الكوردستاني الى الرأي العام المحلي و الإقليمي و كعامل مهم جداً لتحقيق النصر على محتلي كوردستان، لذلك إهتم منذ البداية بالإعلام و إستغل وسائل الإعلام المختلفة بصورة جيدة لتحقيق أهدافه. حزب العمال الكوردستاني كان في طليعة الذين إفتتحوا قنوات تلفزيونية فضائية في الشرق الأوسط و كانت فضائية MEDIA TV العائدة للحزب ثالث فضائية تم بثها في منطقة الشرق الأوسط، أي أنه سبق غالبية الحكومات في المنطقة في إمتلاك فضائية التي كانت لها تأثير كبير في توعية الجماهير الكوردستانية و الوقوف بوجه الإعلام التركي المعادي لتطلعات شعب كوردستان. رغم الضغوط الكبيرة التي تعرض لها الحزب من قِبل الحكومات التركية المتعاقبة في محاولات يائسة لإيقاف بث الفضائية إلا أن الحزب نجح في الإحتفاظ بفضائيته رغم إقفالها لعدة مرات و في كل مرة قام بتغيير إسم الفضائية لتتمكن من مواصلة بثها و ذلك بالحصول على ترخيصات جديدة لها. لم يكتفِ الحزب بإمتلاك فضائية واحدة، بل أنه يمتلك ثلاث فضائيات في الوقت الحاضر. كما أنه يقوم بإصداره الكثير من المجلات و الصحف بمختلف اللغات، و خاصة باللغات الكوردية و التركية و العربية. قام الحزب بطبع الكثير من الكتب و بترجمة أعداد كبيرة من الكتب. كما أن الحزب يمتلك العديد من المواقع الإلكترونية و بمختلف اللغات. كوادر الحزب يساهمون أيضاً و بشكل دؤوب في نشر المقالات في الصحف الورقية و الإلكترونية. كما أن الحزب وضع سياسة إعلامية وفق برنامج مرسوم لتحقيق الأهداف المحددة لها.
تنبغي الإشارة الى نقطة مهمة أخرى المساهمة في قوة و صمود حزب العمال الكوردستاني و هي قبول الحزب لأناس معروفين بالنزاهة و الإخلاص و المفعمين بالروح القومية العالية للإنخراط في صفوفه و القيام بتربية حزبية ناجحة لأعضائه و كوادره للتمسك بالنزاهة و الإخلاص و التضحية و تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية الأنانية الجشعة. لذلك نرى أن الحزب إستطاع أن يُبعد أعضاءه و كوادره عن الفساد المالي و الأخلاقي و الذي منح الحزب القوة و عوامل الصمود و الإستمرارية و أفشل محاولات العدو لشراء الذمم و إختراق تنظيمات الحزب و ساعد على تلاحم الجماهير الكوردستانية مع الحزب و تجمع الملايين من المؤيدين و الأنصار حوله.
يعتمد الحزب على الجماهير الكوردستانية في الحصول على إحتياجاته المالية لتمويل متطلبات كفاحه و فعالياته، حيث أنّ شعب كوردستان لم يبخل في تقديم دعمه المادي و المعنوي للحزب. هناك الكثير من المواطنين الكوردستانيين الذين يقدمون أكثر من نصف رواتبهم للحزب بالإضافة الى التبرعات السخية للتجار و أصحاب الأعمال الحرة الكوردستانية. هذه السياسة المالية الحكيمة مكّنت الحزب أن يعتمد على نفسه مادياً لإدارة شئون الثورة، بل جعلت منه حزباً يتمتع بإمكانيات مالية تفوق تلك التي يمتلكها الكثير من الدول الفقيرة و الصغيرة في العالم. لاشك أنّ هذه المقدرة المالية الجيدة هي من العوامل الحاسمة التي ساعدت على ديمومة الحزب و نموه و إستمرار نضاله في سبيل تحرر شعب كوردستان.
فيما يتعلق بالتحالفات الإقليمية، نجح حزب العمال الكوردستاني في إجراء تحليل صائب لوضع أسس للتحالف و التعاون مع الدول الإقليمية التي هي في خلاف تأريخي أو سياسي أو إقتصادي مع (تركيا)، مثل اليونان و أرمينيا و بلغاريا، حيث إستفاد الحزب من الخلافات العميقة لهذه الدول مع (تركيا) و نجح في الحصول على دعم سياسي و إقتصادي و إعلامي و عسكري من هذه الدول. تكوين مثل هذه العلاقات الإقليمية الناجحة هو تطور نوعي في العلاقات الكوردستانية الإقليمية.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]