(تركيا).. الى أين؟ -21- حزب العمال الكوردستاني و أخطاء إستراتيجية
د. مهدي كاكه يي
في البداية أعتذر للقراء الأعزاء عن مرور فترة ليست قصيرة على إنقطاعي عن مواصلة كتابة حلقات هذه الدراسة بسبب الإفتقار للوقت لإنجازها. أأمل أن أجد الوقت الكافي لنشر الحلقات المتبقية خلال هذا العام.
بعد أن تحدثت في الحلقة السابقة عن دور حزب العمال الكوردستاني في إحياء الروح القومية للكورد في إقليم شمال كوردستان و إعادة الثقة و الأمل الى نفوسهم، أتحدث في هذه الحلقة عن أخطاء و إخفاقات الحزب المذكور و التي قد تكون مفيدة للشعب الكوردستاني في نضاله التحرري المتواصل. كما أن المسألة تخص الشعب الكوردي الذي تبلغ نفوسه أكثر من خمسين مليون نسمة، و عليه فأن الواجب الوطني يضع كافة أفراد الشعب أمام تحمّل مسئولياتهم في المساهمة في خدمة الأمة الكوردية لتحقيق أهدافها في الحرية و الإستقلال. يناضل الشعب الكوردي منذ قرون عديدة لتحقيق حريته و إستقلال بلاده و ضحى الملايين من الكوردستانيين بحياتهم و أموالهم في سبيل حرية شعبهم و أصاب الخراب و الدمار كوردستان و إختلّ نظامها البيئي و تحطمت البُنية الإجتماعية و الإقتصادية للشعب الكوردستاني نتيجة هذا النضال، دون أن يحقق الشعب أهدافه في تحرير كوردستان من الإحتلال و الإستيطان و بناء دولة ديمقراطية مزدهرة يعيش في ظلها بكرامة و في رخاء. إن لهذا الفشل و الإخفاقات أسبابها و أنها تتعلق بمصير أمة عريقة و كبيرة و لذلك فأن تحديد أسباب تلك الإخفاقات ضرورية لنجاح النضال الكوردستاني بأقل خسارة ممكنة في الأرواح و الأموال و في البنية التحتية. هنا سأركز على االعوامل و الأسباب الذاتية التي يتحكم بها المجتمع الكوردستاني بشكل عام و القيادات السياسية بشكل خاص و التي يمكن تغييرها و جعلها عوامل قوة و نصر لهذا الشعب المضطهَد.
تبنّي الحزب للفكرالماركسي-اللينيني كان أحد أهم أسباب إخفاق حزب العمال الكوردستاني الى الآن في تحقيق تحرير الإقليم الشمالي لكوردستان من الإحتلال التركي. هنا لا أهدف الى إنتقاد الفكر الماركسي، و إنما أشير الى تبنّي حزب العمال الكوردستاني لهذا الفكر، كحركة تحررية و في ظل الواقع الكوردستاني و الظروف الإقليمية و الدولية، كان خطأً جسيماً، حيث إختارت الحركة التحررية الكوردستانية التي يقودها حزب العمال الكوردستاني جبهة الإتحاد السوفيتي السابق و حلفائه الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط، من ضمنها دول تحتل أجزاء من كوردستان، مثل سوريا و العراق و إيران و جعلت الدول الغربية الرأسمالية و إسرائيل في خانة الأعداء. بلاد محتلة من قِبل عدة دول، مثل كوردستان، كانت تحتاج الى حركة تحررية تستغل صراع الحرب الباردة آنذاك بين كل من الحلف الأطلسي و حلف وارشو من خلال تبني أيديولوجية وسطية، مثل الفكر الإشتراكي الديمقراطي على سبيل المثال، لتكون قادرة على المناورة و الحركة في خضم المنافسات الدائرة بين القوى العظمى في ذلك الوقت و تتجنب معاداة العالم الغربي و إسرائيل. كما أن الحزب إرتكب نفس الخطأ الذي إرتكبته الأحزاب الشيوعية في تبنيه للفكر الماركسي اللينيني، دون الأخذ في الإعتبار أن كوردستان محتلة و مجزأة و أن المجتمع الكوردستاني هو مجتمع قبلي إقطاعي أو شبه إقطاعي متخلف. كما أود هنا أن أشير بأنني شخصياً أحمل فكراً يسارياً يستند على الواقعية و أؤمن بأن نظاماً يسارياً عادلاً سيسود المجتمع الإنساني في المستقبل البعيد و الذي يرسم ملامحه عاملَين أساسيين: تطور الإنسان و فهمه لفلسفة الحياة و التطور المادي الذي يخلقه الإنسان. هذا الموضوع يحتاج الى التحدث عنه بشئ من التفصيل و الذي أأمل أن يُتاح لي الوقت للكتابة حوله.
صحيح أن الدول الغربية و إسرائيل تقف الى جانب (تركيا) بسبب عضوية (تركيا) في الحلف الأطلسي و علاقاتها الجيدة مع إسرائيل، نتيجة إلتقاء مصالحهما في بعض الجوانب، إلا أن هذا الأمر كان سيتسم بالمرونة و القدرة على المناورة و الحركة لو لم يتحالف حزب العمال الكوردستاني مع القوى المعادية للغرب و مشاركته الفعلية في ضرب المصالح الغربية في المنطقة و دخوله طرفاً في النزاع العربي – الإسرائيلي، حيث كان زعيم حزب العمال الكوردستاني يُقيم في سوريا و لبنان التي كانت تحت الإحتلال السوري آنذاك. كان الحزب يحارب في صفوف الفلسطينيين ضد إسرائيل، حيث أنه خلال حصار إسرائيل لبيروت، كانت قوات حزب العمال الكوردستاني تحارب الإسرائيليين جنباً الى جنب مع الفلسطينيين، لدرجة أن الفلسطينيين في قلعة شُقيف في لبنان فروا منها إنقاذاً لأرواحهم، بينما إستمر مقاتلو حزب العمال في قتال الإسرائيليين في القلعة المذكورة و قدموا تضحيات كبيرة و خسائر بشرية. كان يقوم بهذا العمل نتيجة الضغوط السورية و بسبب آيديولوجيته الشيوعية في محاربة الإمبريالية و الصهيونية. إن الحزب الذي يقود حركة تحررية فما له في محاربة الدول الرأسمالية و إسرائيل؟ إنه كان أمراً خطيراً جداً عندما أصبح حزب العمال طرفاً يهدد الوجود الإسرائيلي و أمنه. إستمر حزب العمال الكوردستاني في نهجه حتى بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي و الأنظمة الأوربية (الشيوعية) الأخرى و إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية في التحكم في مصير العالم.
لنتكلم هنا بصراحة وبموضوعية في تحديد علاقات الشعب الكوردستاني مع الدول الإقليمية و الكبرى في العالم لندرك المصالح الكوردستانية الملتقية و المتقاطعة مع تلك الدول، حيث أن البعض يقوم بتحليل الأمور من منطلق خاطئ، ناتج عن تراكمات التربية التي تلقوها من قِبل الدول المحتلة لكوردستان و التي ترعرعوا في ظلها، حيث حصلوا على تربية مبرمجة في المدارس و المعاهد و الجامعات و واقعين تحت تأثير وسائل إعلام تلك الدول. يحتاج هذا الموضوع الى الكتابة بشئ من التفصيل لإلقاء الضوء الكافي عليه و التي لا تتسع له هذه المقالة، لذلك نقارن هنا بإختصار شديد بين مدى إلتقاء المصالح الكوردستانية مع الدول الغربية و إسرائيل من جهة و الدول المحتلة لكوردستان و الدول الإقليمية الأخرى في المنطقة. الدول الغربية و إسرائيل لها أنظمة ديمقراطية و وسائل إعلام حرة و مؤثرة و منظمات و جمعيات مستقلة و هذه الدول متقدمة تكنولوجياً و علمياً و إجتماعياً و لا تحتل أراضٍ كوردستانية، بينما الدول المحتلة لكوردستان و الدول الإقليمية الأخرى لها أنظمة شمولية دكتاتورية و وسائل إعلام حكومية موجهة و منظمات و جمعيات و نقابات تابعة للحكومات و هي دول متأخرة تكنولوجياً و علمياً و إجتماعياً و أربع دول منها تحتل كامل الأراضي الكوردستانية و تتحالف مع البعض لإستعباد الشعب الكوردستاني. الدول الأخرى في المنطقة تحكمها حكومات عنصرية متخلفة حليفة للدول المحتلة لكوردستان فيما يتعلق بحقوق شعب كوردستان. لنفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الغربية تُنهي نفوذها في المنطقة و لا تتدخل في شئونها و أن دولة إسرائيل تنهار و تختفي ككيان سياسي في منطقة الشرق الأوسط. ماذا يحدث للشعب الكوردستاني في هذه الحالة؟ المنطقة برمتها ستصبح مستعمرة إيرانية و قد تستطيع (تركيا) الإبقاء على كيانها السياسي و ستتم إبادة أي حزب كوردستاني أو حركة كوردستانية و يتم حرمان الكورد من أبسط حقوقهم و حتى أن لغتهم و ثقافتهم تختفيان على المدى البعيد. الشعب الكوردستاني، بلاده محتلة، تلتقي مصالحه مع مصالح الدول الغربية و إسرائيل. يتكلم البعض عن دور إسرائيل في إختطاف زعيم حزب العمال الكوردستاني، و عليه يجب أن لا يتحالف الكورد مع الإسرائيليين و لا يثقوا بهم. هنا يجب القول بأن علاقات الدول و الشعوب و حتى الأفراد تحددها المصالح، سواء كانت مادية أو معنوية، و تتغير هذه العلاقات تبعاً لتغيير المصالح. في حالة العلاقة بين حزب العمال الكوردستاني و إسرائيل، فأن حزب العمال الكوردستاني يعتنق الفكر الشيوعي الذي يتناقض مع النظام الديمقراطي الإسرائيلي و كان حزب العمال حليفاً للنظام البعثي السوري الذي إسرائيل في حالة حرب معه و يهدد أمنها الوطني، بل وجودها و كانت قوات حزب العمال الكوردستاني تشترك الى جانب الفلسطينيين في القتال ضد إسرائيل، بدلاً من إشراك تلك القوات في النضال ضد النظام التركي. هنا نتساءل: هل شارك فلسطيني واحد في صفوف الحركة الكوردستانية يوماً ما أو أيد حق شعب كوردستان في تأسيس دولة له في وطنه الذي يعيش فيه منذ بدء الخليقة أسوةً بأنفسهم، بينما مواطنون من دول غربية ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن الشعب الكوردستاني؟ الكورد شعب نفوسه أكثر من خمسين مليون نسمة و يعانون من الإضطهاد و الحرمان بنسبة لا تقل عن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني و يفتقرون الى حكومة معترفة بها، بينما تبلغ نفوس الفلسطينيين عدة ملايين و لهم حكومتين و أضاعوا دولتهم عندما رفضوا قرار التقسيم و لم يؤسسوا دولتهم بعد التقسيم و قدم العرب مئات الآلاف من القتلى و أهدروا أموالاً طائلة و دخلوا في حروب خاسرة، بدلاً من الإعتراف بإسرائيل و بناء دولهم و الترفيه عن شعوبهم. عندما إستعمل النظام البعثي العراقي الأسلحة الكيمياوية ضد سكان مدينة حلبجة، كانت قمة المؤتمر الإسلامي منعقدة في الكويت، حيث لم تُشر أو تستنكر هذه الجريمة البشعة سواء في مناقشاتها أو في بيانها الختامي. الحكومات الإسلامية صمتت، بل أيدت ضمنياً هذه الإبادة الجماعية التي تمت بأسلحة كيمياوية محرمة دولياً، على الرغم من أن غالبية الشعب الكوردي هم مسلمون.
أهم الأسباب التي ساهمت في تبني الفكر الماركسي– اللينيني من قِبل مؤسسي حزب العمال الكوردستاني يمكن أن تكون تأثر مؤسسي الحزب باليسار التركي و الوقوع تحت تأثير الفكر الشيوعي الذي أخذ ينتشر بشكل كبير بين سكان العالم المُسمى بالعالم الثالث آنذاك. كما أنّ مؤسسي الحزب علّقوا آمالاً كبيرة على تلقي الدعم والعون من دول حلف وارشو (الشيوعية) و التي هي سبب آخر لتأسيس حزب ماركسي-لينيني. ساهمت التجارب المريرة للشعب الكوردي مع العالم الغربي، الذي قام بتقسيم كوردستان و تشتيت شعبها بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى و إختفاء الإمبراطورية العثمانية، في تبني الفكر الشيوعي. إنتماء تركيا الى الحلف الأطلسي و قلة معرفة و خبرة مؤسسي الحزب كانت عوامل أخرى لرفع الشعار الماركسي، بالإضافة الى جاذبية الفكر الشيوعي في تحقيق العدالة الإجتماعية و القضاء على الفوارق الطبقية و الفقر.
من الأخطاء الإستراتيجية الخطيرة التي وقعت فيها قيادة حزب العمال الكوردستاني هي تحالفها مع الحكومة البعثية في سوريا و جعل دمشق مركزاً لقيادته. التحالف مع حكومة شمولية دكتاتورية عنصرية تحتل جزء من كوردستان كان بمثابة إنتحار و النتائج الكارثية لهذا التحالف بالنسبة الى الحركة التحررية الكوردستانية في الإقليم الشمالي من كوردستان بشكل خاص، كانت متوقعة بل حتمية. النظام البعثي يُطلق إسم (الجمهورية العربية السورية) على سورية، حيث يعتبر كافة المواطنين (السوريين) من كورد و سريان و أرمن و غيرهم عرباً و يطلقون على كل فرد منهم (مواطن عربي سوري) و يتم تسجيلهم في المستندات الرسمية السورية في حقل المواطنة على أنهم عرب سوريون، بغض النظر عن قومياتهم. كما أن الحكومة السورية تُحرم حوالي نصف مليون مواطن كوردي من حقوق المواطنة بالإضافة الى تهجيرها للمواطنين الكورد من قراهم و قصباتهم و تعريب مناطقهم في إقليم غرب كوردستان عن طريق توطين العرب فيها، مكونة (الحزام العربي) الذي يعزل الكورد في هذا الإقليم عن الكورد في إقليمَي الشمال و الجنوب الكوردستانيَين. في عام 1963 شارك الجيش البعثي السوري مع الجيش العراقي في محاربة الثوار الكوردستانيين في إقليم جنوب كوردستان بعد أن إستولى البعثيون على الحكم في العراق في إنقلابهم العسكري في 8 شباط عام 1963. لم تستخلص قيادة حزب العمال الكوردستاني الدروس و العِبر من كل هذه الوقائع و من واقع الفكر العنصري لحزب البعث و وضع مصير حركته و قيادته تحت رحمة النظام البعثي السوري. كما نعرف أن نتيجته كانت تسليم زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان و قياديين آخرين الى السلطات التركية و إستيلاء حكام دمشق على أموال الحزب التي قد تبلغ مئات الملايين من الدولارات التي كان المواطنون الكورد قد تبرعوا بها للحزب من قوتهم اليومي أملاً في الخلاص من الإحتلال التركي و التمتع بحريتهم.
إعتماد الكورد على الدول المحتلة لكوردستان في نضالهم من أجل تحقيق أهدافهم يدل على الغباء السياسي للقيادات الكوردية و الإهتمام بالنتائج الآنية لمثل هذا التعاون، دون التفكير بالنتائج الكارثية التى تتمخض عن (المساعدات) المقدمة من الدول المحتلة لكوردستان. إن (المساعدات) التكتيكية التي تقدمها الدول المحتلة لكوردستان للحركات و الأحزاب الكوردستانية هي عبارة عن إستغلال تلك الدول للكورد للضغط على الحكومات التي في خلاف معها، لأن تحرر الكورد في أي جزء من كوردستان سيكون إنتصاراً للشعب الكوردستاني بأكمله و يكون حافزاً للكورد في الأجزاء الأخرى من كوردستان لتشديد النضال لتحقيق أهدافهم الوطنية و القومية. هذا يعني بأن الدول المحتلة لكوردستان تقْدم على إفناء نفسها و إنهيار حكوماتها فيما لو يواصلون (دعم) الحركات الكوردستانية حتى النهاية، حيث تحقيق أهداف الشعب الكوردستاني. قد تبرر القيادات السياسية الكوردستانية حصولها على المساعدات من الدول المحتلة لكوردستان كتكتيك مرحلي. ينبغي أن نعرف بأن كفة حكومات الدول المحتلة لكوردستان هي الراجحة دائماً في مثل هذه الإتفاقيات مع الكورد، حيث أنها تتبع هذا التكتيك مع الكورد و تستغل الحركات الكوردستانية لتحقيق أهدافها في المنطقة. إن هذه الحكومات تتفوق على القيادات الكوردستانية في كونها تحكم دولاً عضوة في الأمم المتحدة و لها علاقاتها الإقليمية و الدولية و تتحكم بموارد مالية ضخمة قياساً بتلك التي يملكها الكورد و لها خبرات سياسية ودبلوماسية و جيوشاً كبيرة و أسلحة ضخمة و أجهزة إستخبارات مدربة و نشطة بالإضافة الى العامل الجيوسياسي لكوردستان المحصورة بين الدول التي تحتلها.
من هنا يتضح لنا بأن نتائج تلقي الثورات و التنظيمات السياسية الكوردستانية ل(مساعدات) من أي دولة محتلة لكوردستان هي الفشل الحتمي لتلك الثورات و التنظيمات. إن المسئولية الوطنية تستوجب الإمتناع عن القيام بأي ثورة أو إنتفاضة تعتمد على (مساعدات) الدول المحتلة لكوردستان و من العبث التضحية بأرواح الكوردستانيين و تدمير كوردستان من أجل إنتفاضة أو ثورة فاشلة تقود الى الهزائم و الإنتكاسات و المآسي و الويلات. إن هذه الحقيقة تُحتم على شعب كوردستان اليقظة و عدم الإنخداع بوعود القيادات الكوردستانية التي تعتمد على (دعم) الدول المحتلة لكوردستان و أن لا يسمح بإستغلال مشاعره الوطنية و القومية و أن يمتنع عن دعم أي تنظيم سياسي كوردستاني أو ثورة كوردستانية تعتمد على المساعدات المسمومة للدول المحتلة لكوردستان و التي نتيجتها معروفة منذ البداية، حيث الإنهيار و الهزيمة و المآسي. تجارب الماضي القريب و البعيد في كافة أرجاء كوردستان تؤكد هذه الحقيقة، على سبيل المثال لا الحصر، إنهيار ثورة الجنوب الكوردستاني في عام 1975 التي كان نظام شاه إيران يقدم (الدعم و المساعدة) لها و إختطاف الزعيم الكوردي عبدالله أوجلان الذي كان النظام البعثي السوري (يدعمه).
من الأخطاء الفادحة للقيادات الكوردستانية أنهم يتنصلون دائماً من مسئولية فشلهم في تحقيق طموحات الشعب الكوردستاني و يقومون بتحميل العوامل الخارجية لكل هزيمة يُمنون بها. إن هذه القيادات تلقي دائماً بمسئولية فشل ثوراتهم على عاتق القوى الخارجية و تتنصل من تحمّل مسؤلية الهزائم التي تتكبدها الحركات و الإنتفاضات الكوردستانية. إنهم يتجنبون النقد الذاتي و تشخيص الأخطاء الذاتية و تصحيحها لأخذ الدروس و العِبر منها. هذا أمر غريب، حيث أنه كما نعلم فأن المصالح وحدها تتحكم بالعلاقات و تحدد مسارها بين الشعوب و الدول و أن كل شعب يعمل من أجل تحقيق مصالحه. هذا يعني بأن كل شعب معنيٍ بنفسه و يتحمل مسئولية القيام بإتباع كل الوسائل المتوفرة للوصول الى أهدافه التي تتم من خلال خطط و برامج تتأثر بالظروف الذاتية و الموضوعية و تغلب عليها منافسات و صراعات مختلفة و معقدة تحتاج الى الدهاء و الذكاء و العمل المضني بثبات للنجاح في تحقيق أهداف و طموحات ذلك الشعب. إذن على شعب كوردستان الإعتماد على قواه الذاتية و وضع إستراتيجية ناجحة لتحقيق أهدافه في الحرية و الإستقلال. إنّ القيادات الكوردستانية لا يحق لها إلا أن تلوم نفسها عند فشلها في تحقيق أهداف الثورات الكوردستانية و الكوارث و المآسي التي تنتج منها، حيث أن الجهات الأجنبية تعمل من جانبها على الوصول لأهدافها التي قد تلتقي أو تتنافر مع الأهداف الكوردستانية و التي تعتمد على الظروف الذاتية للكورد و تلك الجهات و الظروف الموضوعية و توازنات القوى و المصالح الإقليمية و الدولية. عندما يختار شعب ما النضال التحرري، عليه أن يضمن متطلبات و شروط نجاحه قبل الشروع به، و إلا سيكون مجازفة إنتحارية غير مسئولة و التي تقود الى إزهاق الأرواح و تدمير كوردستان. يجب أن يتم التخطيط للنضال الكوردستاني بحيث يحقق أهدافه بأقل الخسائر الممكنة و خلال أقصر فترة زمنية ممكنة. يجب الإبتعاد عن القيام بثورات و إنتفاضات إرتجالية و إعتباطية و كردود أفعال آنية.
هنا أود التطرق الى إدعاءات بعض القيادات الكوردستانية بأن الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال كان يعتزم حل القضية الكوردية سلمياً و الإعتراف بحقوق الشعب الكوردي. كان أوزال سياسياً يعيش على الأوهام و الخيال، حيث كان يطمح أن يضم ولاية شهرزور (الموصل) الغنية بالنفط الى (تركيا) و تبني النظام الفيدرالي لهذ الضم، لتصبح (تركيا) يابان الشرق الأوسط و دولة إقليمية عظمى لها نفوذاً و دوراً كبيراً في الشرق الأوسط و آسيا الوسطى و القفقاس. كان يأمل أن يؤدي مثل هذه الفيدرالية الى منع قيام دولة كوردستانية في جنوب كوردستان و حل القضية الكوردية في شمال كوردستان. في سنة 1991، أثناء أزمة الإحتلال العراقي للكويت، كان أوزال يريد أن يحتل إقليم جنوب كوردستان، إلا أن رئيس وزرائه، بيلديريم آقيولوت و رئيس أركان الجيش التركي، نجيب طورومتاي، لم يشاطرانه الرأي، حيث أن رئيس الوزراء التركي رفض الفكرة بإعتبارها مغامرة قد تؤدي الى زعزعة الأمن القومي التركي، بينما رئيس أركان جيشه لم يؤيد فكرة أوزال لأسباب لوجستية. كان أوزال يريد تقسيم العراق الى ثلاث دول: عربية و كوردية و تركمانية، حيث خطط لتأسيس دولة فيدرالية مع الكورد تشمل كلاً من تركيا و إقليم شمال و جنوب كوردستان. كان أوزال يستعمل مصطلح الشعوب العراقية في أحاديثه ( راجع كتاب: تركيا في الزمن المتحول – قلق الهوية و صراع الخيارات، للمؤلف محمد نور الدين، طبع عام 1997، الطبعة الأولى، رياض الريس للكتب و النشر، لندن – بيروت).
من الأخطاء الأخرى لحزب العمال الكوردستاني هو إتباعه للكفاح المسلح المبني على حرب العصابات في كوردستان، كما هو الحال مع الحركات الكوردستانية الأخرى التي إختارت هذا الأسلوب التقليدي المتخلف في النضال التحرري. إن العالم تغيّر إلا أنّ أساليب نضال الكورد لم تتغيّر، حيث يجعلون من كوردستان ساحة للحروب و الدمار و كأنً لسان حالهم يقول للمحتلين: هيّا تعالوا الى كوردستان و إهدموها و أبيدوا أهلها و شردوهم من ديارهم! المشكلة تكمن في أن الكثيرين من القيادات الكوردستانية لا يعرفون النتائج الكارثية لمثل هذا الكفاح المسلح على البُنية التحتية لكوردستان و بيئتها و على الحالة الإقتصادية و الإجتماعية و النفسية و غيرها للمجتمع الكوردستاني و التي تستمر آثارها الوخيمة لأجيال عديدة. من ناحية أخرى، فأن إختيار كوردستان كساحة للحرب مع المحتلين، حيث يُعرّض كوردستان و مواطنيها للدمار، في الوقت الذي ينعم الناس بحياة آمنة في المدن و القرى التركية و العراقية و الإيرانية و لا تتعرض البُنية التحتية للدولة التركية و العراقية و الإيرانية للدمار المباشر. لو كان الكفاح المسلح أمراً لا بد منه، كان يجب نقل الحرب الى مدن و مناطق الدول المحتلة لكوردستان. يذكر التأريخ بأنّ الكورد يلجأون الى الجبال كلما ثاروا و حتى أنّ هناك مقولة كوردية تقول ليس للكورد أصدقاء سوى جبال كوردستان. قد يعود لجوء الكورد الى الجبال و الإحتماء فيها خلال كفاحهم المسلح الى عوامل تأريخية و نفسية و إفتقار الكورد لخبرات و معلومات في حرب المدن، حيث منذ العصور القديمة كان الكورد يحتمون بجبالهم كلما واجهوا أعداء أقوياء لا يصمدون في محاربتهم و بذلك مع مرور الزمن أصبحت هذه الظاهرة حالة نفسية كلما يجدون أنفسهم في خطر يجدون في جبالهم الشاهقة ملجأً آمناً لهم و منطقة مستحكمة لنضالهم دون العمل على مواكبة تطوّر أساليب الكفاح و إبتكار وسائل متطورة و متقدمة تلائم كفاحهم تبعاً للظروف الذاتية و الموضوعية بالإضافة الى العوامل الإقليمية و الدولية.
إتبع حزب العمال الكوردستاني النموذج الشيوعي، خاصة النموذج الإستاليني في عبادة الفرد و رفع شعار الحزب القائد و وضع نظام حزبي داخلي دكتاتوري صارم. الكفاح الكوردي يقرر مصير الأمة الكوردية، لذلك ينبغي أن لا يُترك إتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالأمة الكوردية لأي زعيم كوردي مهما كانت مواهبه و عبقريته و إخلاصه لقضية شعب كوردستان، أو لحزب ما لوحده و أن لا يتم إختزال شعب كوردستان و جعله ممثّلاً بشخص واحد أو حزب واحد. القائد الكوردي هو إنسان كغيره من البشر، يُصيب و يخطأ، قد يكون شخصاً مريضاً نفسياً أو خائناً أو تاجراً سياسياً أو تنهار معنوياته و ينحرف عن أهداف الشعب الكوردستاني. كما أن تقرير مصير حزب كبير مثل حزب العمال الكوردستاني من قِبل شخص واحد هو أمر خطير و يبعث على القلق الكبير. لذلك يجب عدم السماح لشخص أوحد بتقرير مصير الشعب الكوردستاني في أي جزء من أجزاء كوردستان. لو كان الأمر متعلقاً بالحياة الشخصية لذلك القائد، فأنه حر لتقرير مصيره و حياته بنفسه، إلا أن القضية تتعلق بمصير أمة مؤلفة من حوالي خمسين مليون نسمة، فلذلك يجب منع حدوث مثل هذا الأمر مطلقاً، حيث أن شعب كوردستان ليس بفئران تجارب يتم إجراء الدراسات عليها في المختبرات و أن يمتنع أن يكون ضحية، يفقد أرواح مواطنيه و أموالهم و تتعرض كوردستان للخراب و الدمار بسبب قياداته السياسية الفاشلة. إن الشعب الكوردستاني لا يستطيع أن يضحي بدمائه و أمواله الى ما لا نهاية.
بالنسبة للزعيم الكوردي، أوجلان، فأنه كان الشخص الأوحد في الحزب الذي كان يتخذ القرارات المتعلقة بحزب العمال قبل أسره. إلا أنه لا يزال يلعب دوره من السجن في تقرير مصير السلم و الحرب بين الحزب و الحكومة التركية و لا يزال يقود حزب العمال الكوردستاني من سجنه. إن الزعيم أوجلان أسير لدى السلطات التركية و لا يتمتع بحريته، لذلك فأنه من الخطأ أن يستمر في قيادة الحزب و إتخاذ القرارات المصيرية. نعم يمكن أن يبقى أوجلان كزعيم رمزي للحزب و يكون موضع تقدير و إحترام لقيادته النضال الكوردستاني في الشمال، رغم الأخطاء الكبيرة التي قام بها خلال هذا النضال و التي هي موضوع حديثنا في هذه المقالة. نحن نعيش اليوم في عصر العولمة الذي أنهى عصر الزعيم الأوحد و الحزب القائد و الأيديولوجيات الضيقة الأفق. لذلك فأن الحزب بحاجة الى عقد كونفرانس إستثنائي لتحليل الظروف الذاتية للحزب و دراسة التغيّرات الإقليمية و العالمية، ليقوم بتغيير منهاج الحزب و تحديد وسائل النضال على ضوء هذه الدراسات و التحليلات. يحتاج حزب العمال الكوردستاني الى قيادة جماعية مطعّمة بالشباب من الجيل الحاضر، تقود الحزب على ضوء الظروف الذاتية للحزب و لشعب كوردستان و التطورات الإقليمية و الدولية المؤثرة على القضية الكوردية.
لضمان نجاح حزب أو منظمة أو حركة ما و ضمان صحة مسيرتها، ينبغي توفر بيئة تتوفر فيها حرية النقد و حق إبداء الرأي من قِبل أعضاء ذلك الحزب أو المنظمة أو الحركة للمساهمة الجماعية في تطوير الحزب و وضع برنامج عمل متكامل و متقدم يضمن الوصول الى الأهداف المحددة. بدون حرية أعضاء الحزب و مساهمات أعضائه لتكامل و إغناء النضال و تطوير و تثقيف الأعضاء أنفسهم، لا يمكن تحقيق الأهداف المرسومة لأن العضو الحزبي المُكبّل الذي يضطر أن يردد كالببغاء أقوال رئيسه، كما هو الحال في الأحزاب الشمولية و الدكتاتورية، سيكون غير قادر أن يُحرر غيره في الوقت الذي هو نفسه مسلوب الحرية و الإرادة و سيكون غير مؤهل أن يُبدع و يتطور و يتقدم. حزب العمال الكوردستاني، كحزب ماركسي – لينيني وضع نظاماً إنضباطياً صارماً لأعضائه على غرار الأحزاب (الشيوعية) و الذي هو شبيه بالنظام العسكري الذي يجب أن يطيع المرؤوسين أوامر رؤسائه، سواء كانت تلك الأوامر صائبة أو خاطئة. مثال على هذه الطاعة العمياء لأعضاء الحزب هو أن الحزب رفع شعار تحرير كوردستان و بناء دولة قومية، بينما في الآونة الأخيرة تخلى أوجلان من سجنه عن فكرة الدولة القومية و رفع شعار الكونفدرالية الديمقراطية و يرفض فكرة بناء دولة كوردستان، بل بدأ يُبرّئ كمال أتاتورك من كل جرائمه بحق الشعب الكوردي و مع ذلك فأن الحزب يتبع أفكاره و الكُتاب الأعضاء في الحزب بدأوا يرددون هذه الفكرة و يدافعون عنها، بينما حتى الأمس القريب كانوا يدافعون عن فكرة الدولة القومية. طيب، ما هي الأسباب التي تستوجب رفع شعار الكونفدرالية بدلاً من الدولة القومية؟ يجب التحدث عن المتغيرات و التطورات التي حصلت و التي تستوجب تبنّي الشعار الجديد و تقديم دراسة مستفيضة تتسم بالموضوعية و العلمية للبرهنة على صحة و صواب الشعار الجديد و خطأ الشعار القديم.
حزب العمال الكوردستاني من أكبر الأحزب الكوردستانية في الشمال الكوردستاني و له جماهير غفيرة و رفع راية الكفاح المسلح. نعود و نقول بأن الحزب، كما كان حال الأحزاب الشيوعية، تبنى شعار الحزب القائد و تفرد بالكفاح المسلح، دون أن يسمح للأحزاب الكوردستانية الأخرى المشاركة في هذا النضال. إن النضال الكوردستاني بحاجة لمساهمات كل حزب، بل كل مواطن كوردستاني. كما أن النضال حق مشروع لكل مواطن و تنظيم و غير مقتصرعلى تنظيم معيّن. صحيح أن حزب العمال الكوردستاني كان أكثر نشاطاً و تنظيماً و عملاً من غيره من الأحزاب، إلا أن هذا لا يعني التمتع بحق إحتكار الساحة الكوردستانية.
في هذه الحلقة تطرقتُ فقط الى الأخطاء التي حدثت في مسيرة حزب العمال الكوردستاني و سأتناول في الحلقات القادمة عن خيارات النضال الكوردستاني و الأساليب الصائبة لهذا النضال بالإضافة الى مسائل أخرى تتعلق بهذه الدراسة.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]