(تركيا) ...الى أين؟ (36) (القسم الأخير) - مستقبل الكيان التركي
د. مهدي كاكه يي
قبل الحديث عن مستقبل الكيان التركي الذي نحن بصدده و الذي هو إستخلاص لنتائج و تحليلات هذه الدراسة، أود التذكير بأهم المواضيع التي تناولتها هذه الدراسة. في البداية تم الحديث عن أصل الأتراك و موطنهم و هجرتهم من منطقة (توران) الواقعة قرب الصين، الى منطقة الشرق الأوسط قبل حوالي 900 عام و مراحل تأسيس الدولة العثمانية و بعض الحروب التي خاضتها و معاملة العثمانيين للشعوب الرازحة تحت إحتلالهم و إنهيار هذه الدولة. كما أنها تضمنتْ إبادة الأرمن من قِبل الإمبراطورية العثمانية و أزمة الهوية و الإنتماء التي يعاني منها الأتراك و عن حياة كمال أتاتورك و حكمه و حروبه و إستغلاله للشعب الكوردي في حروبه و في تأسيس تركيا الحالية. تطرقت المقالات بالتفصيل الى الأمن القومي التركي و عوامل القوة التي ترتكز عليها الدولة التركية. تم كذلك التركيز على مكامن ضعف هذه الدولة و تحديد العوامل المُسببة لضعف الدولة التركية من عوامل تأريخية و إقليمية و دولية و عوامل داخلية، كضعف الإقتصاد والتأخر في مجال البحث العلمي و العيش في الماضي، في أحلام الإمبراطورية العثمانية و التربية العنصرية المبرمجة للأتراك و أزمة الديمقراطية و حقوق الإنسان في تركيا و النزاع بين العلمانيين و الإسلاميين و الإضطهاد الذي تتعرض له الشعوب و القوميات غير التركية مثل الشركس و اليونانيين و الأرمن و الشعب الكوردي و كذلك العلويين و الشيعة و أصحاب الأديان الأخرى و الطوائف الإسلامية غير السُنّية. درستْ هذه السلسلة من المقالات أيضاً دور الكورد في تأسيس تركيا الكمالية و المكافأة التي تلقاها الشعب الكوردي لدوره الحاسم في تأسيس الجمهورية التركية الأتاتوركية و أسباب الثورات الكوردستانية ضد الحكومات التركية و الإنتفاضات و الثورات الكوردستانية في عام 1919 و 1920 و 1925 و ثورة آگري التي إندلعت في عام 1926. هذه الدراسة قامت أيضاً بتناول موضوع إعادة الوعي القومي الكوردي نتيجة ظهور حزب العمال الكوردستاني و نضاله المسلح، و الأخطاء الإستراتيجية التي وقع فيها هذا الحزب و بروز ظروف إيجابية للقضية الكوردستانية بسبب التطورات العالمية و الإقليمية و الداخلية و خوض الكوردستانيين الشماليين لنضال طويل و تقديمهم تضحيات جسيمة دون تحقيق أهداف شعب كوردستان. الحلقات الأخيرة هي حول حاجة الكوردستانيين الى إستراتيجيات تنظيمية و تثقيفية كبرى، كتوحيد اللغة الكوردية و تعليم الكورد لغتهم الأم و تعريف الشعب الكوردي و العالم بالتاريخ الكوردي العريق، حيث أن كوردستان هي مهد السلالات البشرية الأولى و كذلك مهد البشرية الثانية، حيث رست سفينة نوح على أعالي جبل جودي (گوتي) عند حدوث الطوفان الذي يُحدثنا التأريخ عنه. كما تُركز عدة مقالات من هذه السلسلة على تطوير الإقتصاد الكوردستاني و القيام بالإستثمارات و تأسيس صندوق مالي لتمويل كافة النشاطات و الفعاليات الجارية في كوردستان في مختلف المجالات و تطوير الحياة الإجتماعية و الثقافية للكوردستانيين القاطنين في كوردستان و في مدن الدول المحتلة لكوردستان و للجاليات الكوردستانية في البلدان الغربية و تكوين و تنظيم لوبي كوردستاني فعال من الجاليات الكوردستانية. إحدى المقالات الأخيرة قيّمت الكفاح المسلح الكوردستاني و مدى جدواه و تتناول الحلقات الأخيرة ضرورة إيجاد مرجعية سياسية كوردستانية و إختيار برلمان كوردستاني و تأسيس مجلسٍ للأمن الوطني الكوردستاني و رفع شعار إستقلال كوردستان و ترسيخ الديمقراطية و تطبيق مبدأ المواطنة في كوردستان و تأسيس جيش كوردستاني موحّد و أخيراً إختيار وسائل سلمية حضارية للنضال الكوردستاني التي تتطلبه الظروف العالمية و الإقليمية المستجدة و التطور الحاصل في نمط النضال التحرري و بروز مفاهيم و أفكار و قيم متطورة للإنسان المعاصر.
تواجه تركيا الكثير من المشاكل التي تهدد وجودها ككيان سياسي في المنطقة. إنّ بعضاً من هذه المشاكل لها جذور تأريخية تعاني منها تركيا منذ أن نزح الأتراك من بادية الصين الى منطقة الشرق الأوسط، حيث إستوطنوا و إستقروا فيها و من ثم أقاموا الإمبراطورية العثمانية على أوطانٍ تعود لشعوب عاشوا فيها منذ فجر التأريخ. كما أن القسم الآخر من هذه المشاكل هي عبارة عن مشاكل تتعلق بأزمة الهوية و الإنتماء و إنتشار الفكر العنصري بين الأتراك و التأخر الإقتصادي و العلمي و العداء التركي مع جيرانها و شعوب دول المنطقة و قضية عدم الإعتراف بحقوق الشعوب و القوميات و الأديان و الطوائف العائشة ضمن الكيان التركي و تقييد حريات المواطنين الأتراك و عدم إحترام حقوق الإنسان و العيش في أحلام الإمبراطورية العثمانية و بروز بيئة ملائمة لنمو الفكر الإسلاموي وتعشعش المنظمات الإسلامية الإرهابية و إزدهارها في تركيا.
أزمة الهوية و الإنتماء
إن الأتراك يجدون أنفسهم غرباء في المنطقة و يعيشون على أراضٍ تأريخية تعود للكورد و الأرمن و اليونانيين و البلغاريين و يفتقدون الى جذور تأريخية و ثقافية و حضارية تربطهم بالأرض التي يعيشون عليها و تشدّهم الى الشعوب الساكنة في المنطقة. لهذا السبب و لأسباب ثقافية و دينية و مذهبية و سياسية و إقتصادية، فأنهم يجدون أنفسهم وحيدين محاطين من كل الجهات بالأعداء، من قِبل الشعوب الكوردستانية و اليونانية و البلغارية و الأرمنية و العربية و الفارسية. هذه الأسباب تجعل الأتراك قلقين، يشعرون بشكل دائم بأن وجودهم مهدد في المنطقة ككيان سياسي و هذا ما يدفعهم الى التلويح بالقوة و تهديد الغير و الإستيلاء على أراضي الآخرين و العمل على تقييد الحريات و الحد من الممارسات الديمقراطية في البلاد كوسيلة لضمان الأمان و الإطمئنان النفسي على إستمرارية الوجود و مواصلة البقاء.
من جهة ثانية، تجد تركيا نفسها تفتقد الى الإنتماء، حيث أنها تائهة لا تعرف هل أنها دولة أوروبية أو تركية أو إسلامية أو شرق- أوسطية أو تنتمي الى الدول المطلة على البحر الأسود! هذه مشكلة حقيقية تؤرق الأتراك و تهدد الكيان التركي في المنطقة، لغربتهم عنها و لضياعهم بين إنتماءات عديدة، لا تتوفر فيهم شروط الإندماج في إحداها و كسب هوية محددة و إنتماء معيّن ينقذهم من الضياع و المستقبل المجهول.
العداء التأريخي و الحضاري و الديني و التباين الثقافي بين الأتراك و الأوروبيين بالإضافة الى العامل الإقتصادي، من العوامل المهمة التي تقف حجر عثرة أمام تركيا في طريقها الى الإتحاد الأوروبي، حيث أن الأتراك قد إحتلوا العديد من البلدان الأوروبية في عهد الدولة العثمانية. الإختلاف الديني بين (تركيا) المسلمة و أوروبا المسيحية عقبة كبيرة أخرى أمام حصول تركيا على عضوية الإتحاد الأوروبي، حيث أن الكمالية التي أصبحت شعاراً ونهجاً للحكم التركي، فشلت في خلق مجتمع علماني في تركيا. يقتصر الفكر الكمالي في الوقت الحاضر على مدينة أنقرة و بعض المدن الأخرى، بينما لا زال القرويون و الريفيون محتفظين بثقافتهم الإسلامية و خير دليل على ذلك هو تسلّم الإسلاميين الحكم في تركيا بأغلبية ساحقة من الأصوات في الإنتخابات البرلمانية التي تم إجراؤها في السنين الأخيرة.
بحكم الموقع الجغرافي لتركيا و كون غالبية شعبها مسلمون و الثقافة الإسلامية و الشرقية للشعب التركي، فأن تركيا تجد نفسها جزء من منطقة الشرق الأوسط و المجتمعات الإسلامية، حيث أنها عضوة في منظمة المؤتمر الإسلامي. عوامل عديدة تعرقل تكامل تركيا مع محيطها في المنطقة. من أسباب ضعف الوشائج التركية مع بلدان المنطقة هو إنقطاع التواصل التركي مع شعوب الشرق الأوسط منذ تأسيس تركيا الحديثة، حيث إتجهت نحو الغرب بإنتهاجها نظاماً علمانياً غربياً و محاولتها القضاء على الثقافة و العادات و التقاليد الإسلامية و العمل على تبنّي الثقافات الأوروبية و التي نتجت عنها ضعف العلاقات الثقافية و السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية بينها و بين دول المنطقة و المجتمعات الإسلامية. كما أن عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، ربطتها سياسياً و عسكرياً بالعالم الغربي. العداء التأريخي بين الأتراك و شعوب المنطقة، و خاصة العرب و الكورد و الفرس هو عامل آخر يلعب دوره في التنافر بين الأتراك و هذه الشعوب، حيث تعرضت هذه الشعوب للإستعمار التركي خلال حكم العثمانيين و عانت هذه الشعوب من مظالم و بطش و تنكيل و تجويع و حروب لا نهاية لها على أيدي الأتراك.
العنصرية
يتم تلقين الطفل التركي، منذ صغره في المدارس بالأفكار العنصرية و يعلّموه ترديد عبارة (يكون سعيداً مَن يكون تركياً!!). هذا الفكرالعنصري الذي يتشبع به الإنسان التركي، يجعله لا يعترف بحق الآخر غير التركي في الوجود. من نتائج هذه الآفة الشوفينية هي إنكار الأتراك لحقوق الشعوب والقوميات الأخرى في تقرير مصيرها، بل ينكرون وجودها و يعتبرون هذه الشعوب و القوميات ما هي الا أتراكاً، كما هو الحال مع الكورد في الشمال الكوردستاني الذين يطلقون عليهم إسم أتراك الجبال. هذه العقلية العنصرية أكسبت الشخصية التركية العنف و العدوان و رفع شعار إخضاع الشعوب و القوميات الأخرى بكل الوسائل و منها إستخدام العنف و القوة.
العلمانيون و الإسلاميون
إن الإسلام السياسي لا يؤمن بالديمقراطية و تداول السلطة لأنه يحمل فكراً شمولياً، و دخوله معترك السياسة و التظاهر بقبول النظام الديمقراطي ما هو إلا وسيلة للإنقضاض على الحكم و من ثم فرض أفكاره البدائية على الشعوب التي يحكمها. بعد تسلّم حزب العدالة و التنمية الإسلامي الحكم و إستمراره في السلطة لسنين عديدة، بدأ الحزب يحاول تطبيق القوانين الإسلامية في تركيا، مثل إرتداء النساء للحجاب و تشجيع الناس على الإمتناع عن تناول المشروبات الكحولية و غيرها، حيث أن الفكر الإسلامي السياسي يستغل المبادئ الديمقراطية لإستلام الحكم و ينتهز الفرص المناسبة لفرض نفسه على المجتمع. الصراع بين الإسلاميين و العلمانيين، سيؤثر سلباً على الحياة السياسية و الإقتصادية و يُؤدي الى حالة من الفوضى و عدم الإستقرار و بالتالي يقود الى إضطراب الحياة السياسية و التأخر في التنمية الإقتصادية و الإجتماعية و يُضعف مقومات الأمن القومي التركي.
الديمقراطية و حقوق الإنسان
إن إنتشار المبادئ الديمقراطية و مبادئ حقوق الإنسان و حرية التعبير و الفكر و الصحافة، يُشكّل تهديداً جدّياً لإستمرار الكيان السياسي التركي، حيث أن نمو وعي الشعب الكوردي و القوميات الأخرى و كذلك الطوائف الدينية غير المسلمة مثل العلويين و الإيزيديين و غيرهم، و الطوائف الإسلامية غير السُنّية، مثل الشيعة الذين تبلغ نفوسهم في تركيا أكثر من ثلاث ملايين نسمة، و عيش هؤلاء في ظل حكم ديمقراطي حر، سيقود الى المطالبة بالتمتع بحريتهم و حقوقهم و بالتالي إستقلال شمال كوردستان و فقدان الأتراك السُنّة لمقاليد الحكم، الذي يتربعون عليه منذ الحكم العثماني الى الآن.
من جهة أخرى فأن القيادات السياسية التركية عاجزة عن الوقوف بوجه إنتشار المبادئ الديمقراطية و مبادئ حقوق الإنسان و حقوق الشعوب و القوميات و الأقليات الإثنية و الدينية و المذهبية في عصرنا الحاضر، عصر العولمة.
التغييرات العالمية و الإنجازات العلمية جعلت من كوكبنا مجرد قرية صغيرة يتواصل و يتفاعل سكانها مع البعض. هذا الواقع المستجد يعطي زخماً كبيراً لمنظمات المجتمع المدني و المنظمات الإنسانية و الدينية المدافعة عن حقوق الشعوب و كرامة الإنسان و عملَ و يعمل على تقوية نفوذ و دور الرأي العام العالمي و المحلي في التأثير على القرارت العالمية المتعلقة بحقوق الشعوب و القوميات و الطوائف الدينية و المذهبية و الأفراد، و تحسين الظروف السيئة اتي تعيش فيها. كما أنّ هذه التطورات العالمية منحت دوراً محورياً للإعلام و الصحافة للتأثير على الأحداث و كشف الواقع السئ الذي تعيش في ظله الشعوب و القوميات و الأقليات المضطهدة و واجب الدفاع عن حقوقها. هذه الثورة الإنسانية تعمل أيضاً على تسهيل إيصال صوت الشعوب و الأفراد المضطهدة و المستعبدة الى العالم لإنصافها و تحريرها من الإستعباد و إنقاذها من الظلم و الإضطهار و القهر.
العولمة و ثورة المعلومات و الإتصالات أزالت الحدود الدولية و جعلت شعوب الأرض في تواصل مستمر و دائم مع بعضها. هذه الثورة أثرت و تؤثر بشكل سلبي على الكيان السياسي التركي بطريقتين؛ الأولى: أنها تفضح الجرائم التي ترتكبها الحكومة التركية بحق شعب كوردستان و العلويين و الأقليات الدينية و القومية في تركيا و تكشف الإضطهاد و خرق حقوق الإنسان الذي يتعرضون لهما. الطريقة الثانية هي من خلال توعية الشعوب و الأفراد التي تقوم بها هذه الثورة المعلوماتية و الإتصالاتية من إنترنت و فضائيات و موبايل و التجمعات الإقتصادية و السياسية و حرية و سرعة إنتقال الرأسمال و الأفراد و زيادة التواصل و التلاقح بين الأفراد و الشعوب و الجمعيات و الثقافات و تشابك المصالح و تلاقيها. هذه الثورة الإنسانية الكبرى لا تدع النظام التركي أن ينفرد بالشعب الكوردي في الشمال و العلويين و غيرهم، و أن يخنق صوتهم بعيداً عن أنظار العالم. من جهة أخرى فأن العولمة تُزيد من الوعي القومي لهؤلاء المضطهدين و الذي يدفعهم الى زيادة وتيرة نضالهم لتحقيق أهدافهم في الحرية و التمتع بحقوقهم. كما أنّ العولمة و ثورة الإتصالات و المعلومات ستؤثر بشكل إيجابي على الإنسان التركي و تُغيّر عقليته العنصرية و غطرسته.
التخلف الإقتصادي و العلمي
بسبب العداء التركي المتزايد للرأسمال الأجنبي في تركيا و بسبب المشكلة السورية و إندلاع الإحتجاجات الأخيرة المناهضة للحكومة التركية التي حصلت في مدن تركية عديدة، و خاصةً في إسطنبول، فأن الكثير من المستثمرين قد تركوا تركيا و أنهم لا يودون المخاطرة بإستثمار رؤوس أموالهم في تركيا بسبب الظروف غير المستقرة فيها.
للأسباب الآنفة الذكر، لقد فقد مؤشر بورصة إسطنبول ثلث قيمته و إنخفضت قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية، حيث فقدت 20 ٪ من قيمتها مقابل الدولار و إرتفعت عائدات السندات إلى 10% و فشل البنك المركزي التركي في وقف هذا الإنخفاض الناتج عن إخراج المليارات من الدولارات من البلاد، بالرغم من صرفه أكثر من 15% من الإحتياطي الصافي له. الإنكماش الحاصل في نمو الإقتصاد التركي، يفنّد إدعاء الحكومة التركية بأن الإقتصاد التركي قد تفادى الكساد الإقتصادي. يذكر السيد (ميرت يلدز)، كبير الإقتصاديين في بنك (برقان) تركيا بأن الإقتصاد التركي يواجه أزمة كبيرة و سينمو بشكل بطئ يُشبه الركود الإقتصادي لسنين عديدة. في عام 2011 إزداد العجز في الحساب الجاري في البلاد الى مستوى قياسي الذي كان مقداره 78,4 مليار دولار أي 10% من إجمالي الناتج القومي التركي و إنخفض النمو الإقتصادي من 8,8% الى 2,2%. يتوقع البنك الدولي أن يصل التضخم في تركيا إلى 6.1 في المائة في عام 2013. كانت الأزمة الإقتصادية العالمية تؤثر بشكلٍ سلبي أكثر على الإقتصاد التركي، إلا أن التطورات السياسية التي حصلت في العراق و بلدان شمال أفريقيا ساعدت الإقتصاد التركي على الصمود، حيث أن هذه البلدان أصبحت سوقاً رائجة للمنتوجات و الشركات التركية، لا سيما في جنوب كوردستان و العراق، حيث عقدت الحكومة التركية إتفاقيات مجحفة مع حكومة جنوب كوردستان، من خلال الضغط السياسي و العسكري، و تقوم بشراء البترول و الغاز الكوردستاني بأسعار رخيصة جداً قياساً لأسعار النفط و الغاز في الأسواق العالمية.
إن تقدم البحث العلمي في أي بلد هو من أهم الشروط المحددة لتقدم ذلك البلد و تطوره و أنه من أهم مستلزمات و متطلبات تطور البلدان و رفاهية شعوبها، غير أنّ (تركيا) لا تزال تفتقد الى الإيفاء بهذا الشرط الأساس لتستطيع مواكبة الدول المتقدمة، حيث أن تركيا هي من الدول المتخلفة في هذا المجال و تفصلها عن الدول الصناعية المتطورة مسافات طويلة. على سبيل المثال، هناك 70 عالماً لكل عشرة آلاف شخص في الدول الغربية، بينما يقابله سبعة علماء فقط في تركيا. في الدول المتقدمة، يتم تخصيص نسبة تتراوح بين 1 و 3% من الدخل القومي للأبحاث، بينما تبلغ هذه النسبة في (تركيا) 2 في الألف (0.002). يُشكل البحث العلمي في مجال القطاع الصناعي في الدول الغربية 70% من البحوث، بينما لا تتجاوز هذه النسبة 10% في تركيا.
الإصطفاف الطائفي في المنطقة
إنقسمت سكان دول منطقة الشرق الأوسط الكبير الى فريقَين طائفييَن عدوَين، الفريق السُنّي بقيادة كل من السعودية و تركيا و الفريق الشيعي بقيادة إيران. بالرغم من الإتفاق المؤقت الذي تم إبرامه بين إيران و الدول الغربية حول الحد من البرنامج النووي الإيراني، فأنه من المتوقع أن تفشل هذه الإتفاقية لأسباب عديدة، و من أهمها معارضة إسرائيل لها لتخوفها من إستغلال إيران لهذه الإتفاقية و التمكن من أن تصبح دولة نووية، كما أن السعودية، بأموالها الضخمة تحاول بكل قوة إفشال الإتفاقية المذكورة و بلغ بها الذعر و الهلع لدرجةٍ تفكر بشراء سلاح نووي من باكستان. كما أن الطموحات الإيرانية في صنع أسلحة نووية و خلق توازن في القوة مع إسرائيل، لا يمكن أن تتوقف، بل سيستمر الإيرانيون بشكل سري في تطوير برنامجهم النووي لأغراض عسكرية. هذا التخندق الطائفي و إمكانية إندلاع حروب مذهبية مدمرة في المنطقة، سيؤثر على تركيا و على مستقبل وجودها ككيان سياسي، بالإضافة الى إضطرارها تخصيص مبالغ طائلة لتطوير قوتها العسكرية و التي بدورها تؤثر سلباً على إقتصادها المتدهور.
تركيا و المصالح الغربية و الإسرائيلية
بدأت تظهر معالِم تعارض المصالح التركية مع المصالح الغربية في المنطقة، و خاصة الأمريكية و مع مصالح إسرائيل في مسائل عديدة. بالنسبة للمشكلة السورية، تريد تركيا إزالة الحكم العلوي في سوريا و إستلام الحكم فيها من قِبل جماعة إخوان المسلمين الرديفة لحزب العدالة و التنمية التركي. لهذا الغرض بدأت حكومة أردوغان بمساعدة التنظيمات الإسلاموية الإرهابية في سوريا لإيجاد نفوذ لها في توجيه مسارات التغيير في سوريا و في محاولة منها لمنع السكان الكوردستانيين من التمتع بحقوقهم في الحرية و الإستقلال في غرب كوردستان، بينما الدول الغربية و إسرائيل لا تريد مجئ حكم إسلامي متشدد في سوريا و إنتشار الفوضى في بلد يجاور إسرائيل. الخلاف التركي – الغربي في مسألة إزاحة الرئيس المصري السابق مرسي عن الحكم من قِبل الجيش المصري و كذلك في مسألة الإتفاق المؤقت بين الدول الغربية و إيران حول البرنامج النووي الإيراني، بالإضافة الى علاقات تركيا مع كل من جنوب كوردستان و الحكومة العراقية. من المتوقع أن تتعمق هذه التقاطعات في المصالح مع تطور الأحداث في المنطقة.
نمو الإحتجاجات الشعبية
توجّهْ حزب العدالة و التنمية الحاكم في تركيا نحو تطبيق الشريعة الإسلامية بالتدريج و تدهور الإقتصاد التركي، حيث البطالة، و خاصة في صفوف الشباب و فشل السياسة الخارجية التركية فيما تخص العلاقات التركية مع دول الجوار و دول المنطقة و تخلف عقلية الحكام الأتراك عن مواكبة التطورات العالمية و الإقليمية، قد تؤدي الى إندلاع إحتجاجات و تظاهرات شعبية كبيرة تُطيح بحكومة أوردغان و تنتشر الفوضى و تندلع حرب أهلية بين الأتراك و الكورد و بين العلويين و الأتراك السُنّة و التي قد تقود الى إنهيار الكيان السياسي التركي و إستقلال شمال كوردستان و ظهور دولة علوية و دولة سُنية تركية. في هذه الحالة قد تتدخل كل من بلغاريا و أرمينيا و اليونان لإستعادة أراضيها التي تحتلها تركيا.
تعاظم الدور الكوردستاني في المنطقة
إن الكوردستانيين بعد أن كان يتم إستغلالهم من قِبل محتلي كوردستان في ظل الحرب الباردة، برزوا كقوة مؤثرة في المنطقة بعد إنتهاء الحرب الباردة و ظهور إقليم جنوب كوردستان و أخيراً تأسيس الإدارة الذاتية في غرب كوردستان. إن تطور القضية الكوردستانية و تعاظم دورها سيؤديان بكل تأكيد الى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بشكل منصف، تحترم إرادة شعوب المنطقة و تتجاوب مع تطلعات شعوب المنطقة في الحرية و الإستقلال. في هذه الحالة، فأن شمال كوردستان سيستقل و بذلك يؤثر في الصميم على تركيا ككيان سياسي في المنطقة، حيث تُقدّر نفوس سكان إقليم شمال كوردستان بحوالي 25 مليون نسمة أي بنسبة 36% من المجموع الكلي لسكان تركيا البالغة حوالي 70 مليون نسمة و هذا العدد الكبير لكوردستانيي الشمال سيُغيّر المعادلات و التوازنات في القوة في المنطقة. في هذه الحالة أيضاً قد تتدخل دول جوار تركيا لتحرير أراضيها من الإحتلال التركي.
علاقات تركيا مع دول الجوار
بالنسبة الى الشعوب المسيحية الجارة لتركيا مثل الشعب اليوناني و البلغاري و الأرمني، فأنّ العداء التأريخي و الحضاري و الديني و التباين الثقافي بين الأتراك و هذه الشعوب من العوامل المهمة التي أدت إلى إستفحال حالة العداء المزمن بين الشعوب المذكورة و الأتراك. إنّ الأتراك قد إحتلوا العديد من البلدان الأوروبية في عهد الدولة العثمانية، و وصلت القوات التركية الى أسوار مدينة فيينا. كما قام العثمانيون بقتل الكثير من الأوربيين و إختطفوا عشرات الآلاف من الأطفال الأوروبيين و قاموا بعزلهم و تربيتهم و ترسيخ الأفكار الإسلامية في عقولهم و من ثم تشكيل الجيش الإنكشاري منهم و إستعمالهم وقوداً لحروب العثمانيين لإحتلال الدول الأخرى و إستعباد شعوبها. كما أن التأريخ يُحدثنا عن الإبادة المروعة التي تعرض لها الأرمن من قِبل العثمانيين، حيث تمت إبادة أكثر من مليون أرمني.
العثمانيون إحتلوا العراق و سوريا و السعودية و غيرها و تم إستعباد شعوب هذه الدول، بالإضافة الى الخلاف الطائفي للأتراك مع شيعة هذه الدول. أما العلاقة السيئة لتركيا مع إيران، فأنها ناتجة عن أسباب تأريخية و مذهبية، حيث خاضت الدولتان العثمانية و الصفوية حروباً كثيرة ضد بعضهما البعض. كما يعود الخلاف بين هاتين الدولتين الى المنافسة بينهما على النفوذ و المصالح الإقتصادية في المنطقة.
العلويون
تبلغ نفوس العلويين (الكورد و الأتراك) في تركيا حوالي 20 مليون نسمة أي نسبتهم هي حوالي 30% من المجموع الكلي لسكان تركيا. لو نقوم بتحديد نفوس العلويين الأتراك فقط إستناداً الى نسبة نفوس الكورد في تركيا، فأن نفوسهم تبلغ حوالي 13 مليون علوي تركي. يُعاني العلويون من التفرقة المذهبية و الإضطهاد في تركيا و لا يتمتعون بحقوقهم الدينية و المدنية. لذلك فأن العلويين الأتراك المضطهدين هم حلفاء طبيعيين للكوردستانيين و يمكنهم التحالف مع البعض للنضال معاً في تحقيق أهدافهم.
كما أن هناك أقليات دينية و مذهبية و قومية في تركيا. أعداد الشيعة في تركيا تصل الى حوالي ثلاثة ملايين نسمة. إستناداً الى هذه الأرقام و مع أخذ نفوس القوميات الأخرى غير المذكورة هنا بنظر الإعتبار المقدرة بحوالي 3 ملايين نسمة، نتوصل الى أن نفوس الأتراك السُنة الذين يحكمون تركيا تبلغ حوالي 26 مليون نسمة أي حوالي 37% من المجموع الكلي لسكان تركيا و بذلك فأن نفوس الأتراك السُنة هي أقل بكثير من نفوس الكورد و العلويين معاً الذين يبلغ تعدادهم حوالي 38 مليون نسمة أي أكثر من 54% من المجموع الكلي للسكان. كما أنّ هناك دراسات تشير الى أن نفوس الكورد في إقليم شمال كوردستان و تركيا ستصبح أكثر من نفوس الأتراك بحلول عام 2020.
القوى الإسلامية الإرهابية
تُمثّل تركيا بيئة خصبة لنمو و ترعرع تنظيم القاعدة و الحركات الإسلامية المتطرفة الأخرى. إن شعبية حزب العدالة و التنمية الإسلامي خير دليل على قوة العامل الديني للمجتمع التركي و ضعف الفكر الليبرالي و العلماني فيه. لهذه الأسباب فأن تركيا هي مرشحة لتكون قاعدة كبيرة للمتطرفين الإسلاميين و أن يُشكلوا خطراً كبيراً على الأمن في تركيا و في المنطقة من خلال عمليات عسكرية و تفجيرات تقود الى زعزعة الكيان السياسي التركي.
العيش في أحلام الإمبراطورية العثمانية
إنّ الأنظمة التربوية التركية و المؤسسات الثقافية و الإعلامية فيها، خلقت أجيالاً تركية خيالية، تم تخديرها بأمجاد الأتراك و تأسيسهم للإمبراطورية العثمانية و حُكمهم لكثير من الشعوب و الدول في كل من قارة آسيا و أوروبا خلال تلك الحقبة الزمنية. هذه العملية التربوية خلقت عقليات تتوهم بأنّ الزمن قد توقف منذ الحكم العثماني و أنّ الأتراك لا يزالون قادرين على التحكّم بمصائر الشعوب و القوميات، كما كانوا يفعلونها خلال الحكم العثماني. هذه التربية رسخت في عقل المواطن التركي التفكير بعقلية زمن الإمبراطورية العثمانية. كما أن هذه التربية خلقت، بشكل عام، شخصية تركية متغطرسة، تؤمن بتفوقها على الشعوب الأخرى و بكونها أحسن و أرقى من هذه الشعوب. من نتائج هذه التربية أيضاً هي إعتقاد الأتراك بأنّ الشعوب و القوميات غير التركية هي أدنى مستواً منهم و ما على هؤلاء إلا أن يكونوا تابعين لهم، كما صرح بذلك بعض القادة الأتراك بكل صراحة. من جهة أخرى، فأنّ هذه التربية الإستعلائية تُسبب الإحباط و اليأس عند المواطن التركي، حينما يتأكد من أنّ الواقع يُفنّد ما غُرس في عقليته، حين يكتشف بأن تركيا هي بلد شرقي فقير و متأخر، تتحكم فيه الدول الكبرى و أنّ الكثير من الشعوب الأخرى لها مستواً معاشياً أعلى بكثير من ذلك الذي لدى الشعب التركي.
من خلال دراسة المخاطر التي تواجهها تركيا و التي تم تحديدها في هذا المقال، يمكن الإستنتاج بأن تركيا، ككيان سياسي، تتجه نحو التفكك و أن شمال كوردستان في طريقه نحو الإستقلال و أن القضية الكوردستانية و العلوية و زيادة وعي الشباب التركي ستكون عوامل حاسمة في التسبب في إنهيار الدولة التركية. كما لا يمكن الإستهانة بدور العوامل الأخرى المذكورة في هذا المقال في إضعاف الكيان التركي و بالتالي إنهياره.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]