زﮪدي الداوودي
منذ فترة غير قصيرة بدأت تباشير حملة منظمة ضد الكورد تلوح في الأفق، أشبه برياح السموم القاتلة، حاملة معها حقدا أصيلا تارة وسذاجة بدائية تارة أخرى. لا أريد أن أذكر الجهات والأسماء التي تقف وراء هذه اللعنة المسلطة على شعب، أراد له القدر التشتت والتمزق والتشرذم بين دول ورثت الاستبداد والتسلط من العصور المظلمة، ذلك لأنني لا أريد أن أخلط الأوراق وأحرق الأخضر بسعر اليابس وأسحب عتابي على الجميع لا على التعيين. ومن عجائب الأمور أن نافخي أبواق الحملة المسعورة يبحثون دوما عن الأسباب المبررة لفعلتهم التي هم أدرى بشناعتها من غيرهم. ولا يكتفون بهذا فحسب، بل يتكئون على خونة كورد، تمرغت أيديهم بدماء بني جلدتهم، نشأوا على الخيانة وباعوا حقهم بثمن بخس. إنهم يفتعلون بذلك استراتيجا وتاكتيكا جديدين لاسترداد هيمنتهم وسلطتهم البائدتين.
وإذ يصورون الخطر الكوردي بعبعا قاتلا، يتوسع مثل البعبع الشيوعي الأحمر أيام زمان أو يشبهونه بالخطر الصهيوني الذي يبتلع الأرض العربية، تدرك مدى تفاهة وبلاهة منطقهم الأجوف المبني على فلسفة العصبية القبلية المتأصلة في عروقهم. تلك الفلسفة التي تشبع بها صنم الانتصارات الوهمية في حروبه المأساوية حتى النخاع.
وتتخذ اتهاماتهم ألوانا شتى، فتارة يجري اتهام الكورد بالانفصال، بيد أن بعضهم ينبري إلى القول بأنهم لا يحتاجون إلى الانفصال، ذلك أنهم مسيطرون على العراق كله، ناهيك عن الاستيلاء على محافظتي ديالى والموصل. إنهم بذلك لا يصبون لعناتهم على الحكومة الطائفية الضعيفة القابعة في المنطقة الخضراء فحسب، بل يرسلون رحمتهم إلى (الشهيد) القائد البطل الذي كان يلجم التطاول الكوردي على قداسة استقلال العراق ووحدته ويلقنهم دروسا قاسية في الخضوع والانحناء أمام العاصفة.
ويبادر قسم آخر للإفصاح عن أمنية كامنة في أعماق النفس الأمارة بالسوء، ولغاية في نفس يعقوب، فيعلن بأن الميليشيات الكوردية المسماة ب(البيشمه ركه) ستحل إن آجلا أو عاجلا ويتنبأ بأنه حال اشتداد ساعد الحكومة المركزية وتقوية جيشها، سيجري الزحف إلى ما يسمى بكوردستان لإبادة البيشمه ركه وقلع القيادة الكوردية من جذورها. تماما كما فعلت الحكومات المتعاقبة التي تساقطت مثل أوراق الخريف. حلم قديم لا يزال يعشعش في خيال مريض، لم يثمر سوى عن الدمار والبؤس والتخلف فخراب الدولة بكاملها. والمصيبة هي أن ذلك كله لم يتحول إلى درس يستفيدون منه في حياتهم الراهنة.
ومن عجائب القدر أن يتولى الذين كانوا لا يعترفون بوجود التركمان في العراق أصلا، مهمة الدفاع عن حقوق هذه القومية التي شطبت هويتها من سجلات النفوس كي تتحول بقدرة قادر إلى القومية العربية والتي مازالت لم تصحح بعد. كل ذلك من أجل التأكيد على عروبة كركوك العروس التي اغتصبت مرارا وتكرارا على أيدي أزلام قائد الانتصارات الوهمية. يا لها من وقاحة مخجلة لا يندى لها جبين أصحابها ولا يدركها بعض ممن يسمون أنفسهم قادة التركمان. أهو عداء متأصل ضد الكورد؟ أم ضد التآخي العربي الكوردي التركماني؟ ذلك التآخي الذي اختلط فيه الدم وامتزج في بوتقة المصاهرة والقرابة المبنية على الحب: أب كوردي وأم تركمانية ونسيب عربي وأبن عم بزوجة أرمنية وصديق آثوري الخ. تلك هي صورة كركوك الحقيقية التي لا يفهمها سوى أهل كركوك الكادحين والتي لا تريد أن تفهمها الارستقراطية الكركوكية ذات الدم العثماني النقي الذي لم ولن تختلط بالدم التركماني البسيط الكادح، ناهيك عن الدم العربي أو الكوردي. أي حرب أهلية هي، تلك التي يراد إشعالها داخل مثل هذه العائلة المحكمة؟
وفي خضم كل هذه البلوى، يتباكى البعض من تلك الأصوات على عراقية كركوك وكأن الفدرالية الكوردستانية ليست عراقية. لا يمكن تفسير ذلك إلا بأنها روح التخلف التي زرعها النظام الاستبدادي على مدى أربعة عقود من الزمن في نفس الشعب الذي كان يعاني التخلف أصلا. وإلى جانب ذلك يرتفع نعيق أحد الاقطاعيين، ممن كانوا يقيمون الولائم المصحوبة بحفلات الغجر لحاشية صدام من الفرسان والجحوش، مهددا بأنه سوف لا يتوانى عن استعمال القوة للحفاظ على عروبة كركوك. يا للمهزلة التي لم يصرح بها حتى سيدهم الصنم. أليس من الأفضل لمثل هذا الانسان أن يذهب إلى فلسطين ويدافع عن عروبة القدس؟
إن محافظة كركوك أدرى بمشاكلها من غيرها. أعيدوا إليها أولا الأجزاء المقتطعة عنها عنوة وثبتوا حدودها التي شوهها القائد الضرورة، ثم أجروا فيها الانتخابات الديمقراطية الصحيحة على ضوء السجلات الرسمية القديمة والجديدة وليس على ضوء المحاصصة المقيتة أو تحت تأثير الأصابع الخارجية المشبوهة.
إن الكورد لا يطالبون سوى بتطبيق دستور الفدرالية الذي تم الاتفاق عليه، إذ أن صدام حسين حين اضطر للاعتراف بالحكم الذاتي للكورد، حرم مناطق كردية كثيرة من التمتع بحقوقها المشروعة واقتطعها من الأرض الأم، الأمر الذي أدى، من حيث نريد أو لا نريد، إلى تعريب تلك المناطق وحرمانها من التمتع بحقوقها القومية كما هو معروف. ولذلك فإن ما يسمى بالتوسع الكوردي من قبل البعض، سواء تعمدا أو جهلا، ليس سوى إجحاف بحق هذا الشعب الذي عانى الأمرين على يد الحكومات المتعاقبة التي مرت على العراق منذ تأسيسه. والتركمان يطالبون بحقوقهم القومية أيضا. ولكل طرف الحق في التحرك ضمن الدستور العراقي الفدرالي، بيد أن الديمقراطية وروحية التفاهم والتآخي هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الحقوق القومية سواء للكورد أم التركمان أم اليزيديين أم المندائيين أم المسيحيين. إن شطب أي طيف من هذه الأطياف من الموزائيك العراقي سيؤدي إلى شق الوحدة الوطنية فتمزيق البلد، حيث لا تبقى أي قدسية للحدود التي هي مصطنعة أصلا. ومثال الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتشيكولوفاكيا وغيرها لا تزال ماثلة للعيان.[1]