#شه مال عادل سليم#
كتبت مقالة في ذكرى سقوط الصنم بعنوان دعوة للتأمل في جرائم حزب البعث في العراق وقلت فيها بأن حزب البعث الفاشي لم يترك شاردة او واردة تخص العراقيين الا ولوثها بافكاره العنصرية المقيتة وبعد نشر المقال امطرت عليّ ومن كل الجهات صواريخ وكاتيوشات التهديد والسب والشتائم والكلمات التي لاتليق الا باقزام الحفر و بروبوتات ملثمين وضفادع وعقارب (القائد )المعدوم , وهنا لااريد ان ادخل في تفاصيل تلك الرسائل والتهديدات التي كتبت في الحفر والملاجئ المظلمة ولاتحمل في طياتها غير الاوهام والخرافات , و لكن ما هزني ,ومن الاعماق مقالة الفنان والمبدع العراقي الكبير جعفر حسن بعنوان ( أغاني ومغنون نشاز ) والذي تطرق فيها الى اشباه الفنانين والى العمل لمنع انتشار موجة الاغاني الهابطة التي تروج لثقافة القتل والتعذيب والثأر والخ ....بعد ان انتشرت و منذ الثمانينات اغاني و اسماء مغنيين من (اصدقاء الريس وابنه المشلول) .....!!
ولايسعني هنا الا ان اضم صوتي الى المبدع جعفر حسن الذي ركز في مقاله القيم حين قال : ( بعد ان عانينا ولفترة غير قليلة ولازلنا من اغاني الخيارة والبطيخة والباذنجانة والرمانة والبرتقالة والعقربة والافاعي وكل الحيوانات الضارة والمفترسة ظهرت لنا موجة جديدة من الاغاني الانتقامية السادية من المرأة والحبيبة ولو تفحصنا جيدا لوجدناها دون المستوى الفني المطلوب شعرأ ولحنا وصوتا ناهيك عن انها تروج لثقافة العنف والتمرد ..
انها مأساة حقيقية وانحطاط ثقافي بكل المقاييس الشعرية والموسيقية والغنائية المتعارف عليها , ومن المؤسف حقا انتشار هذه الموجة من الاغاني الهابطة المهينة للمرأة والمجتمع ( والكل ساكت ويتفرج ) بل ان تلك الاغاني تذاع ليل نهار على لسان واصوات أشباه المغنين النشاز الذين يملأون الشاشات والاسماع ويسيئون للغناء والموسيقى العراقية التي تعبر عن القيم الحضارية الانسانية النبيلة وتحمل في طياتها احاسيس وامنيات شعب عريق وعواطف صادقة وغزل صافي نقي للمحبين .....)
قبل ان ادخل في صلب الموضوع لابد ان اقول بأني تعرفت على الفنان جعفر حسن وانا في سن التاسعة من عمري ...نعم اتذكر جيدا عندما التقيت به ولاول مرة وبفرقته الرائعة في مدينتي اربيل وتحديدا في ( هولي كه ل قاعة الشعب ) ثم في مصيف شقلاوة وهو يغني للمرأة وللفلاح وللعامل وللشبيبة وللاطفال , وبفترة زمنية قصيرة حفظنا كل تلك الاغاني الرائعة ولحد الان رغم مرور اكثر من34 عاما ....
منذ تلك الحفلات والمهرجانات الشعبية نتذكر الكلمات والالحان و نرددها في الاحتفالات هنا وهناك منها (عمي يابو جاكوج و للمرأة غنوتنه والها محبتنه و اطفال كل العالم ياحلوين اطفال شيلي الثايرة وفلسطين) ....و غيرها من الاغاني التي كانت تحمل في طياتها مفاهيم اممية , انسانية صادقة ورائعة تفتح الافاق الرحبة امام كل من يسمعها لانها كانت تنبع من الروح العراقية المتوهجة بتنوعها ، ونابعة من التراث الثقافي والفني الانساني الرفيع ,ولا ننسى ايضا الاشعار والكلمات الجميلة التي كانت تهدى من قبل كبار شعرائنا ومنها الجواهري الكبير , للمرأة العراقية التي هي رمز من رموز الحب والتضحية والفداء والنضال نعم المرأة العراقية المضحية التي قدمت ولاتزال تقدم الحب والحنان وتناضل من اجل الحرية رغم زمن القحط وخلط الاوراق وسقوط القيم والاخلاق ... ........
فماذا حدث في العراق ولماذا ؟
بعد سيطرة البعثيين كليا على العراق , ادركوا دور الاعلام الخطير في اخضاع الجماهيروخنق صوتها وذالك بتنويم مغناطيسي مبرمج ومنهجي للتحكم بها والسيطرة المطلقة عليها , لذا وفي الخطوة الاولى قاموا باحتكار الاعلام بحيث وبفترة قياسية تحوّل الاعلام العراقي الى اعلام حزبي شمولي مخابراتي .... وجعلوا من الاذاعة والتلفزيون بوقا هائلاً لترويج سياستهم الدموية و بث سمومهم وعبر قنواتها المتنوعة للوي الحقائق وتزويرها وتحريفها , وقد لعبت وزارة الاعلام والثقافة والتي كانت تدار من قبل كبار ازلام النظام ومخابراته وباملاءات فوقية وتحديدا من القصر المشؤوم بمستشاريه ، للترويج لسياسة الحزب الواحد ولألغاء الاخر بحج واهية ....,
بمعنى اخر ان الاعلام العراقي كان وسيلة اجرامية خطيرة لخدمة النظام السابق وعبّر عن طموحاته الشريرة ومصالحه المستبدة و البعيدة كل البعد عن الحيادية الثقافية و الفنية والشفافية والموضوعية الانسانية , بمعنى اخر ان الاعلام والعمل الصحفي بكل مؤسساته كانا تحت سيطرة المخابرات العراقية لذالك نرى بأن النظام البائد قرر النظم و القوانين التي صمم و اراد ان يكون العمل وفقها ولخدمته الحزبية الضيّقة ولمصلحته ، لذلك كان الطابع الشمولي هو الطاغي و المسيطر المستبد على الاعلام وعمل الصحفيين والفنانين بشكل واضح ...
ان ما حدث في العراق من استثناء , هو ان النظام السابق ومع اغتصابه للسلطة عمد ايضا الى سرقات ونهب وفرهود وانفالات وفي مقدمتها انفل زمن الابداع والالهام والكلمات الحرة وسلب الفكر الإنساني من الروح العراقية الاصيلة داخل المواطن العراقي .... الممتزج بالتراث الثقافي والفني الغني والمتمدّن هذا الانسان العراقي الجميل الذي كان يحمل في طياته بذور الحب والحنان والامنيات القزحية الغنية بالالوان والزخارف و من عالم الشناشيل ...
ولم يترك للمبدع العراقي الملتزم بقضية شعبه ووطنه غير خيارين احلاهما( زقوم) فاما ان يلتحق بركب السلطة ويفقد ذاته ويقتل ابداعه ويدفنه في داخله ليتحول الى انسان فارغ من الاحساس والمشاعر والضمير او يهرب الى المجهول للحفاظ على ابداعه وحريته ومورثه الثقافي .... ومن بقى من المبدعين في العراق قتل في ظروف غامضة وبطريقة همجية بعثية على سبيل المثال الشاعر الكبير (محمود البريكان) (1) الذي قتل بطريقة وحشية ، في منزله وعلى سريره طعنا بسكاكين ، و قد نسبت الحادثة في حينها الى لصوص حسب ما نشر في جرائد النظام البائد انذاك ...!! في حين كلنا نعرف بأن الشاعر الحقيقي لا يملك غير قلمه واوراقه البيضاء كصفحات قلبه الكبير والجميل جمال روحه الطاهره ....نعم قتل البريكان لانه كان يرى في الشعر والكلمات والاوراق ما لايراه الاخرون ......... واقصد بالتحديد اشباه الشعراء ....
وهنا يطرح السؤال نفسه وبالحاح لماذا افرغ النظام البعثي المجتمع العراقي من مبدعيه ومثقفيه مع اغتصابه للحكم ؟ لماذا خنق و انهى حتى الاصوات التي كانت ساكنة ومنزوية لمبدعي ومثقفي العراق ؟ لماذا منع النظام البعثي اغاني المبدعين العراقيين الكبار امثال فؤاد سالم و كوكب حمزة وجعفر حسن واخرين في نهاية السبعينات ؟ لماذا منعت قصائد الجواهري الكبير وبلند الحيدري ومظفر النواب والبياتي واخرين من كبار شعراء العراق ، واحرقت دواوينهم في محرقة ( الثورة )؟ لماذا هرب المئات من الشعراء والفنانين العراقيين الكبار والكتاب والروائيين والنقاد من جحيم النظام البعثي وشبح قادسياته المشؤومة واستقروا في المنفى ..... ؟
لماذا حاربت السلطة وبكل جبروتها هؤلاء المبدعين وافكارهم الحرة ؟ واسئلة كثيرة ...كثيرة وكثيرة اخرى تلاحقنا كظلّنا ... والجواب وبكل بساطة ، لان النظام كان يعي دور المثقف و الفنان الملتزم الملتزم بتراث شعبه ووطنه ورسالته في تحفيز وتشجيع الفرد العراقي للتفكير في التمرد والعصيان وقول الحق ضد الصنم الذي جثم على صدره وقطع انفاسه وسرق اماله واحلامه و قتل كل شيء جميل فيه ....
لا ....لا استغرب ابدا عندما اسمع اليوم من اشباه المغنين او بالأحرى من المداحين وهم يقفون على اطلال الصنم ويغنون (يومّه كرصتني العقربة ومكارات وحيالات ولاهي عسل ولاجكليت بوسه منها ياريت ....! ) والخ من ما يسمى بالاغنية العراقية الشبابية !! ولا استغرب ابدا من ما يكتب من قبل اشباه الشعراء عن قطع اللسان والقتل والثأر والانتقام والخ ، لانها وبكل بساطة امتداد لنتاجات اشباه الشعراء او بالاحرى مداحي الغزوات والانفالات والقادسية الخائبة التي لم نسمع منهم غير مدح الطاغية و كلمات هابطة على سبيل المثال (هذا القائد قائدنا يا نور العين منا وبينا ومن عدنا صدام حسين ) و الخ من اغاني وكليشات حشرت في دواوين (بعرورية) على اوزان (شعرية ) للذين لقبوا زورا (بشعراء العراق ) حيث كان هناك شعراء القادسية , وشعراء ام المعارك , وشعراء القوة الجوية , وشعراء التصنيع العسكري , وشعراء وفنانيي دائرة التوجيه السياسي , وشعراء الحرس الجمهوري وشاعرة الطاغية اقبال والخ من جيش جرار وصفوا الطاغية في دواوينهم بالمغوار والمنقذ و بظل الخالق على الارض والخ من القاب ليست له و لا تنطبق عليه اطلاقا ...
حين كانت تلحن كلماتهم من قبل ضباط في دائرة التوجيه السياسي وفرق المسرح العسكري لتصبح لاحقا اغاني الموسم المهداة من شعب لاحول له ولاقوة الى (بطل التحرير وباني مجد الامة امير القلوب في عيد ميلاده المشؤوم )... نعم ان هذه الاغاني (الجديدة القديمة ) ما هي الا افرازات للفكر الشمولي البعثي المقيت وهي من مخلفات ذلك الفكر وثقافة العنف والتمرد والارهاب الذي سلط على رقاب الشعب وشوه كل القيم والاخلاق في وطننا الجميل وماهي الاّ امتداد لاغاني القادسية ...
نعم هكذا كان حال الجيل الذي عاش زمن الحروب ... والانفالات ...حيث انشغل بسماع البيانات والمراسيم والاناشيد والمارشات لحروب خاسرة و للكوارث الانسانية التي عاشها الفرد العراقي في ظل ابشع نظام عرفته المنطقة برمتها , كل شيء في العراق كان حسب شروط ومقاسات (المنصور بالله والقائد الاوحد ) و انعكست هذه الفرمانات تدريجيا على تخريب ذوق الفرد العراقي وحسه وسلب كل شيء جميل فيه على سبيل المثال , الابداع والامل والحب والايمان بالمستقبل ....
نعم ان هذا الجيل الذي عرف بجيل الحروب والبسطال العسكري والوشاية حتى على اقرب الاقربين بعيد كل البعد عن ممارسة الحرية الفكرية والروحية والابداع حتى بعد سقوط الصنم .......بمعنى اخر ان هذه النتاجات الهابطة ومن جميع النواحي كلمات الحان اصوات اداء كليبات ناتجة عن ثقافة سوقية ضحلة لا تعرف غير القساوة التهديد والعنف ونابعة من تلك الافكار التي غسلت ادمغة اجيال بها خلال عقود من الزمن و تحديدا مع اغتصاب صدام للسلطة وتربعه على عرش الحكم في نهاية السبعينات ... فماذا ننتظر من الذين اتخذوا من الفن بوقا للتعظيم والتمجيد و تفخيم الطاغية وحروبه الخاسرة ماذا ننتظر من الذين غازلوا الدم والدخان والغزوات ؟ غير البؤس ...نعم البؤس الحقيقي .....
يتبع
(1) محمود البريكان (1931-2002) شاعر عراقي كبير، ولكنه لم يعرف في العراق كما عُرف أبناء جيله من الشعراء، وظل على صعيد الوطن العربي مجهولا أو شبه مجهول، وذلك بسبب انغلاقه على محيطه المحدود وقلة ما نشره من شعره وتباعد أوقات نشره ، حيث لم ينشر خلال (54) عاما من عمره الأدبي سوى(85) قصيدة، نشرت على فترات متباعدة. وقد صنف النقاد البريكان بانه من رواد الشعر الحديث في العراق ... قتل البريكان عام 2002 وهو في بيته في حادث مايزال يلفه الكثير من الغموض والشكوك .[1]