حسين جمو
في العام 1813 كانت قرية دير الشُعّار عبارة عن استراحة نادرة على الطريق الطويل بين الشام- بغداد وحلب- بغداد. عرفت هذه القرية الصغيرة بمخفر حراسة في قرية تقع جنوب دير الشعّار وهي زورتا السريانية، وعرفت باسم الزور، وجمع الاسمان لاحقاً ب«دير- زور».
في العام المذكور، قصد مبعوث نابليون بونابرت منطقة الفرات والبادية، بما في ذلك الزور ونواحيها، مراراً خلال جولته السرية في فتح طريق للقوات الفرنسية غزو الهند براً عبر البادية وبمساعدة قبائلها، وفق ما رواه التاجر والرحالة فتح الله الصايغ الحلبي الذي رافق مبعوث نابليون في جولته الطويلة مع شيخ قبيلة الرولة دريعي الشعلان، أحد أقوى زعماء البادية في ذلك العصر.
لكن هزيمة نابليون في روسيا ثم أوروبا، عام 1815، أنهى هذا المخطط الذي لم يسلط عليه الضوء، أي فكرة غزو الهند وتدمير درة التجارة البريطانية قبل أن تصبح الهند مستعمرة بريطانية.
غالباً ما ترتبط نهضة العمران بظروف مدهشة لدرجة قد تكون ساخرة، مثل أن حوض الفرات فقد فرصة عظيمة في النمو المدني بهزيمة نابليون، لكن الواقع أن مثل هذه الظروف تكررت على دير الزور رغم أنها غالباً لا تدخل مثل هذه الحسابات في تاريخ العمران البشري. رغم ذلك، هناك لازمة تاريخية تلاحق هذه المنطقة، الفرات والخابور، وهي أنها حاضرة على الورق في خطط كبيرة مثيرة للدهشة مثل “حلم نابليون” ومحاور التجارة البريطانية، لكن أشياء أخرى أكثر تنافسية تدخلها في غياهب النسيان والإهمال.
سابقاً أطلق عليها اسم دير الرمان، بحسب ما ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي، ودمرها تيمورلنك خلال حملته الكاسحة للاستيلاء على شرق المتوسط. كانت محطة دير الزور الأكثر أماناً في مراحل الرحلة بين دمشق وبغداد طيلة القرن التاسع عشر. وقد تغلبت في المساحة والأهمية على الرحبة الأكثر شهرة في التاريخ عبر قلعتها الأيوبية الواقعة على طريق الحرير التاريخي التي بنيت على بعد ثلاثة أميال من الرحبة القديمة التي بناها مالك بن طوق. والفضل في تقدم دير الزور على جوارها يعود بدرجة أكبر إلى اختيارها من الإدارة العثمانية في تلك المنطقة مركزاً إدارياً كونها أقرب إلى حلب ودمشق وأقل عرضة لغارات القبائل البدوية.
على أن الفضل من وراء الستار يعود لبريطانيا على نحو كبير في استكشاف المناطق الداخلية المجهولة حتى للعثمانيين إلى حد ما في المشرق، وفي عدم اندثار دير الزور التي كانت حتى عام 1878 بليدة صغيرة يحرسها مخفر عثماني وفق شهادة لرحالة البريطانية الليدي آن بلنت، لكنها سرعان ما أصبحت أكبر مركز سكاني يقع على نهر الفرات من المنبع إلى أن يبلغ بغداد. وحين خطط البريطانيون لفتح خط تجاري بين البصرة والبحر الأبيض المتوسط وجدوا هذه الاستراحة الصغيرة على هذا المسار التجاري. وهذه هي الحكاية الأهم لمنطقة الفرات بالمجمل طيلة القرن التاسع عشر بأن أصبحت صلة وصل محتملة بين موانئ البحر المتوسط وميناء البصرة، فكانت على وشك أن تستعيد منطقة الفرات شيئاً من أيام عزها التجاري الغابر حين تلاقت فيها الدول والإمارات وتصارعت على حاضرتها الكبرى وهي الرحبة.
في مطلع القرن التاسع عشر، أدى تصاعد نفوذ محمد علي باشا وأسرته في مصر، إلى اهتمام بريطانيا بطريق الفرات كصلة وصل أساسية بين الهند وبريطانيا عبر الأراضي العثمانية. ومع احتلاله بلاد الشام عام 1831، دخلت دير الزور تحت سلطة إبراهيم باشا ابن محمد علي، وكانت سنجقاً واسعاً قليل السكان.
أصبحت بلدة #دير الزور# مركزاً تجارياً ينمو ويربط ما بين ميناء البصرة ومدن الشام البحرية. وأطلق الإنكليز على البلدة الجديدة الخالية تقريباً من السكان اسم دير العصافير قبل أن تحمل اسم دير الزور، وكادت أن تصبح عاصمة لتجارتها الهندية في الشرق الأوسط، إلى جانب الأنبار (الرمادي). وبناءً على الاهتمام البريطاني حولت السلطة العثمانية سنجق الزور إلى متصرفية مستقلة عن الولايات الكبيرة المجاور لها وهي بغداد والموصل وسوريا وحلب سنة 1864، وتم إلحاقها مرات عديدة بولاية حلب وإلغاء استقلاليتها الإدارية.
لو تأخر أو تعثر مشروع شق قناة السويس في مصر عدة أعوام، لكانت منطقة الفرات من البصرة إلى الرقة واحدة من أهم طرق المواصلات التجارية والعسكرية في الشرق الأوسط تحت رعاية بريطانيا، ولربما كان قدرها مختلفاً تماماً عن الوضع الذي آلت إليه والممتد في تأثيره حتى اليوم.
قام البريطانيون بين عامي 1830 و1840 بعدة محاولات مسْحية لنهر الفرات لتسيير بواخر نهرية من أعالي الفرات في سوريا وحتى خليج البصرة. كانت الأولى منها تهدف إلى «إجراء مقارنة بين الطريقين المصري والعراقي».
أنجز الملازم فرانسيس ردن جزني، مهمته في وادي الفرات بين 1830 – 1831. وأشار في تقريره للمسؤولين البريطانيين إلى أن هناك عقبات عديدة تعترض سبيل الملاحة التجارية في الفرات. ولكن الاعتبارات السياسية والاستراتيجية، وفي مقدمتها تنامي النفوذ الروسي وظهور خطر محمد علي باشا في مصر، جعلته يتحمس، هو وحكومته، لمشروع الملاحة النهرية في الفرات، مؤكداً على أن طريق الفرات لا يقل أهمية عن طريق مصر، مع شرح مزايا الطريق الأول، لأنه أقصر من طريق مصر، ويضمن لرعايا بريطانيا خط مواصلات مباشراً وسريعاً بين الهند وبريطانيا.
وبناء على ما سبق، تشكلت لجنة خاصة في مجلس العموم البريطاني، لمعرفة أفضل الطريقين: المصري أم الفراتي؟ فتوصلت اللجنة إلى قرار لصالح الملاحة التجارية في الفرات ودجلة.
لكن في التجارب العملية، انتهت المحاولة الأولى بالفشل حيث غرقت إحدى الباخرتين قبالة بلدة عانة، لأن الجزء الذي يعبر الأنبار لا يلبي شروط الملاحة للبواخر الكبيرة، أما الجزء الممتد من البوكمال وحتى مسكنة شرقي حلب كان ملائماً للمراكب التجارية. ولأن بداية مسار البضائع التجارية تبدأ من ميناء البصرة، فإن عدم صلاحية نهر الفرات في الأنبار ألحق ضرراً فادحاً بعموم منطقة دير الزور وأخرجتها من إمكانية أن تكون جزءاً من ترانزيت تجاري دولي.
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر خططاً بريطانية أكثر حداثة، وتمثلت في مد سكة حديد فراتية بين البحر المتوسط وخليج البصرة، كان الهدف منها حماية الخليج وطريق الهند من احتمال تقدم روسي يهدد المصالح البريطانية. وقد طرح أول مشروع في 1856 من قبل «رابطة تراقيا الشرقية في وادي الفرات»، إلا أن المشروع فشل لأنه كان يتطلب ضمانات مالية من الحكومتين العثمانية والبريطانية.
وبعد أعوام قليلة، بُعِث المشروع مرة أخرى في 1862 وكذلك 1871 عندما اقترحت لجنة خاصة في مجلس العموم البريطاني إنشاء سكة حديد فراتية لربط أحد موانئ البحر المتوسط بميناء البصرة، بكلفة تصل إلى عشرة ملايين جنيه إسترليني. لم تدعم الحكومة البريطانية المشروع لأن طريق قناة السويس كان قد افتتح ويعمل بكفاءة منذ 1869.
ومع أن مشاريع أخرى طرحت بعد ذلك إلا أن الحكومة البريطانية لم تأبه بها أيضاً وخاصة بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وتأمين المواصلات البريطانية عبر قناة السويس.
خرجت منطقة الفرات من الحسابات الدولية وحلت عليها ما يمكن تسميته ب«لعنة قناة السويس». كان مجرد البدء بتنفيذ مشروع سكة الحديد كفيلاً بوضع أسس لبلدات جديدة في المنطقة، فضلاً عن تنمية البلدات الصغيرة القائمة. ولا تحتاج هذه الفرضية إلى جدال كبير إذا نظرنا إلى تأثيرات مشروع سكة حديد «برلين – بغداد» على العمران البشري في شمال سوريا.
صحيحٌ أن النشاط التجاري البريطاني ارتفع كثيراً في العراق بعد افتتاح قناة السويس، إلا أن ذلك اقتصر على المنطقة الممتدة من الفرات الأوسط بالقرب من بغداد نزولاً إلى البصرة، بدون أي تأثيرات إيجابية ملموسة على الجزء «سيء الحظ» من الفرات الممتد من الأنبار إلى دير الزور.
خلال أكثر من نصف قرن، حتى الاحتلالين الفرنسي والبريطاني للأراضي العثمانية عام 1918، كانت منطقتا الفرات والخابور تشهدان نمواً سكانياً مطرداً جراء الانتقال السكاني وليس المواليد؛ في الشمال من الكرد وفي الجنوب من قبائل نجد وحائل، فظهرت تركيبة سكانية جديدة بدأت تأخذ طابعاً زراعياً متسارعاً من دون أن تتراجع حدة الصراعات التي بقيت قبلية لكن في نمط إنتاج زراعي، ومنها استقرت الكتل السكانية في أماكن شبه ثابتة، ودافعت بضراوة عن مرابعها.
على الرغم من ذلك، بقيت البلدات الجديدة مثل دير الزور والقامشلي والحسكة وسري كانيه/ رأس العين، بعيدة عن مظاهر الازدهار رغم نموها السكاني السريع، لأنها منطقة خارج خريطة التجارة، ومن المعروف أن الزراعة تحقق الاكتفاء والاستقرار لكن لا تجلب الازدهار، فضلاً عن أنّ التحول نحو الثقافة الحضرية – المدينية سار ببطء شديد في هذه الأصقاع. وما زاد من تهميش منطقة دير الزور أنها لم تنتج سياسات مستقلة عن المراكز الحضرية الكبرى الثلاث وهي دمشق وحلب وبغداد، فوجدت نفسها في عشرينيات القرن الماضي وقد ألحقت بالدولة السورية الحديثة تحت الانتداب الفرنسي من دون أن يكون لها خيار المناقشة أو حتى الرغبة في المناقشة سوى غارات عشائرية قامت بها قبيلة العقيدات بشكل أساسي (وهو ما سنفصله في حلقة ثانية). ومنذ ذلك الحين، فضّلت البورجوازية السورية في دمشق وحلب، في بواكير الدولة السورية، بقاء شرق الفرات، بما في ذلك دير الزور الواقعة على ضفة الشامية، بمجتمعاتها وأنماط إنتاجها الاقتصادية والثقافية، إقليماً زراعياً ثابتاً. وعلى هذا المنوال سارت الأنظمة العسكرية المتعاقبة حتى يومنا هذا.
وهناك جانب دفعت المجتمعات الزراعية في عموم سوريا ثمنه باهظاً ومن دون ضجة أو لفت للأنظار، وهو استراتيجية الرئيس حافظ الأسد في الاكتفاء الذاتي، إذ خطط لسياسة زراعية تفترض حصاراً أبدياً على سوريا، ووجهت الدولة بالتوسع في زراعات غير مربحة، مثل القمح ومحاصيل الحبوب والقطن بأسعار تحددها الدولة، واستنزفت هذه الزراعات القسم الأكبر من المياه الجوفية السطحية في حوض الفرات والجزيرة مقابل عائدات بسيطة للفلاحين. وفي مناطق الجزيرة، منعت الأجهزة الأمنية الزراعات الحراجية وخاصة أشجار الكروم. أضف إلى ذلك، الفشل المريع في تسويق المنتجات الزراعية إلى الخارج.
في النتيجة، لم تستطع مجتمعات الفرات والخابور مراكمة أرباح متتالية بسبب اختلال المواسم الزراعية واضطراب الأسعار والتكاليف من موسم إلى آخر، وبقيت محرومة من حصتها في التنمية على الرغم من أنها الأكثر مساهمة فيها على مستوى البلاد في الزراعة والنفط.
____________________
ملاحظات:
-استند هذا المقال في جزء كبير إلى كتاب «الأنبار من حروب المراعي إلى طريق الحرير» للمؤلف حسين جمو، وإلى كتاب «الدبلوماسيون البريطانيون في العراق» – صالح خضر محمد. وفي مسألة البداوة والانتقال الاجتماعي، من المفيد الاطلاع على الكتاب المهم لألبرت حوراني «تاريخ الشعوب العربية» و كتاب حنا بطاطو «العراق.. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية».
-ورد في كتاب «شذرات بغدادية» لمؤلفه الدكتور خالد السعدون، تفاصيل عن جهود قامت بها ثلاث شخصيات، لربط العراق والفرات بالبحر المتوسط في القرن التاسع عشر، هم كل من البريطاني السير وليام آندرو، ومهندس الري البريطاني وليان ويلكوكس، والقنصل الأميركي في بغداد. وكافح الثلاثة من أجل تنفيذ المشروع، بربط بغداد بدمشق أو حلب، ثم البحر المتوسط. للاطلاع على أبرز الأفكار حول ربط العراق بأوروبا عبر البحر المتوسط، ينظر: خالد السعدون – شذرات بغدادية – دار الحكمة، لندن، 2015 – ص 232، 251.[1]