نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (28) – أسلاف الكورد: الميديون
د. مهدي كاكه يي
أسطورة محاولة الملك الميدي (أستياگ) قتل حفيده (كورش)
في الحلقة السابقة، تم الحديث عن أن الملك الميدي (أستياگ) رأى في حلمه أن أن إبنته (ماندانا) قامت بِجلب مياه كثيرة ملأت بها المدينة وأغرقت كل آسيا وأن الكهنة الموغ فسروا الحلم وقالوا للملك بأن رجلاً سيخرج من صلبه ويقوم بالقضاء على حكمه وإمبراطوريته. لذلك قرر الملك الميدي التخلص من الرضيع (كورش) الذي ولدته إبنته (ماندانا)، فأمر قائد جيشه (هارپاك) بقتل الرضيع، إلا أان (هارپاك) لم يقتل الطفل بنفسه، بل سلّمه لأحد رعاة القصر الملكي ليقوم بقتله. الراعي لم يرغب بقتل الطفل، بل إحتفظ به وجعله إبناً له. في هذه الحلقة تتم مواصلة الحديث عن ترعرع الطفل (كورش) مع أفراد عائلة الراعي.
عندما علِمت (ماندانا) بأمر إختفاء إبنها، أقامت الدنيا، حيث تمّ البحث عن الطفل في كل أرجاء المدينة دون العثور عليه. على ضوء حِلم أبيه، إتهمت (ماندانا) أباها بقتل إبنها. رجعت (ماندانا) مع زوجها الى (أنشان) وأقسمت بأن لا تعود الى العاصمة الميدية مرة أخرى.
ترعرع الطفل في كنف الراعي وزوجته. كان طفلاً ذكياً، ذا بُنية قوية. بعد أن أصبح عمر الطفل عشرة سنوات، أخذ الراعي يصطحبه معه الى ردهات الخدم في القصر الملكي لكي يساعده في بعض أعمال القصر. لقد حذّره من الإقتراب من أبناء الأمراء والوزراء والقادة والذوات واللعب معهم لأنه من أبناء العامة ولذلك لا يجوز له الإختلاط معهم. أخذ الصبي ينظر من بعيد الى الصبيان الذين يشكلّون مجاميع للعراك والمصارعة والمبارزة بالسيوف الخشبية في باحات وحدائق القصر الملكي وهو يتحسر ويتألم لحرمانه من الإقتراب منهم واللعب معهم. عند غياب أبيه الراعي، كان يقترب منهم وينظر إليهم، وكان الأطفال يدعونه للعب معهم، تكملةً لعددهم، فيقوم باللعب معهم بِحذر. كان يبتعد عنهم عندما يشاهد والده قادماً من بعيد. بمرور الوقت أخذ يلعب معهم حتى بوجود أبيه، حيث أن الصبيان كانوا يطلبون منه ويلحّون عليه أن يلعب إبنه معهم. نظراً لِقوة الطفل ونباهته وشخصيته القيادية، كان يترأس مجموعته من الصبيان والتي كانت تتبارز وتتعارك مع المجاميع الأخرى من الصبيان، حيث تمّ إختياره رئيساً لمجموعته. بعد ذلك أصبح رئيساً لِكل المجاميع، حيث كان يقوم بتوزيعهم في اللعب والعراك والمصارعة وغيرها من الألعاب. كان الأطفال ينادونه (الملِك). نسي الطفل بأنه إبنُ راعٍ، فأخذ يوجّه الأوامر إليهم ويعاقب كل مَن لا يطيع أوامره وكان يُذكّرهم بأنه الملِك. في إحدى المرات قام بمعاقبة صبيٍ كان إبناً لأحد الأعوان الذي كان إسمه (أرتمبارس) بعد أن رفض هذا الصبي تنفيذ أمره، حيث قام بضربه بالسوط وآذاه. ذهب الصبي الى بيتهم باكياً وأخبر والده بما حدث له. أغضب هذا الأمر (أرتمبارس) فإصطحب إبنه معه الى الملك وأخبره بأن إبنه قد تعرض الى إهانة ومعاملة قاسية من أحد أبناء الرعاة وأظهر له آثار الضرب التي كانت بادية على ظهر وكتف إبنه.
قام الملك بإستدعاء الراعي وإبنه (ديسوس). دار الحوار التالي بين الملك والصبي:
الملك : من أين أتيت أنت بهذه الوقاحة وكيف تتجرأ وأنت إبن عبد، أن تعاقب بوحشية إبن من أبناء أسيادك؟
الصبي : سيدي لم أرتكب عملاً خاطئاً.
الملك : كيف ذلك وأنت ضربته بالسوط؟
الصبي : سيدي الملك لقد عيّنوني زعيماً وملكاً عليهم بسبب إعتقادهم بأنني الأصلح لهذا المنصب وكان الجميع يطيعون أوامري ماعدا هذا الصبي، حيث أنه تمرّد ولم يُنفّذ أمري فقمتُ بِمعاقبته، حيث أنه بصفتي ملِكهم فمن حقي معاقبة مَن يخرج عن أمري كما تفعل أنت سيدي. هذا كل ما حدث وإذا كنتُ أستحق العقاب لِفعلتي، فانا أقبل ذلك.
تعجب الملك من فصاحة الصبي فإبتسم وسأله : مَن ولّاك عليهم زعيماً وملِكاً؟
الصبي : هم سيدي الملك إنتخبوني زعيماً وملكاً عليهم
الملك : إذن أنت الملك تضرب وتعاقب كيفما تشاء
الصبي : ألا تفعل أنت ذلك مع مَن يخرج عن أوامرك سيدي الملك؟
الملك: هل يوجد في المملكة ملِكان؟
الصبي : نعم سيدي أنت ملك الكبار وأنا ملك الصغار
ضحك الملِك كثيراً لشجاعة الصبي وهو الملك الذي لا يتجرأ أحد الوقوف أمامه مرفوع الرأس. نظر الملك الى الصبي وتأمله فتذكر إبن إبنته (ماندانا) الذي إعتقد بأنه قتله، فندِم على ما فعل، حيث أنه بسببه خسر إبنته فلم يرَها منذ تلك الحادثة. عنذئذٍ شكّ بأن الطفل هو من نسل نبيل وليس إبناً للراعي. تمعّن الملك في ملامح الصبي جيداً، فلاحظ أن ملامح وجه الصبي ذات شبه كبير بِملامحه وملامح وجه إبنته (ماندانا)، ولذلك شكّ بأن الطفل قد يكون إبن (ماندانا) وأنه لم يتم قتله.
أصاب الملك القلق والإضطراب بسبب ذلك ولذلك أراد التأكد بصورة شخصية عن أصل الصبي من الراعي. أخبر الملك (أرتمبارس) بأنه سيُتابع الموضوع ويقرر بِما يُرضيه ويُرضي إبنه وصرفهما.
بعد مغادرة (أرتمبارس) وإبنه، دار الحوار التالي بين الملكِ والراعي:
الملك : هل أنّ هذا الصبي إبنك؟
الراعي : ( بإرتباك) نعم سيدي
الملك : (غاضباً) لا تكذب، أنا أحبك وأنت تخدمني بإخلاص منذ سنين طويلة، كما خدمني أبوك. لا تجعلني أغضب عليك وأنت تعرف ماذا أفعل حين أغضب. ثم أمر بإخراج الطفل من ديوانه.
الملك : الأن تكلّم بِصراحة عن قصة هذا الطفل
الراعي : سيدي إنه إبني من زوجتي (سباكو)
الملك : أنت لا تعترف ولا تقول الحقيقة. أشار الى حُرّاسه بأن يُجبِروه على الإعتراف. بدأ الحُرّاس بتعذيبه ولذلك إضطر أن يعترف ويطلب العفو من الملِك.
عندما عرف الملك بالقصة، أمر بإحضار قائد جيشه (هارپاك). نظر الراعي المسكين الى (هارپاك) الذي طأطأ رأسه وكان الذعر والإرتباك باديان عليه. أخبر الراعي الملك بأن (هارپاك) أعطاه الطفل ليقتله إلا أنه لم يستطع قتله لأنه كان طفلاً بريئاً ولذلك قام بإخفائه و ثمّ أخذ على عاتقه مُهمّة تربيته. غضِب الملك كثيراً من (هارپاك) ودار الحديث التالي بينهما:
هارپاك: سيدي عندما إستلمتُ الطفل، أخذتُ بِنظر الإعتبار تنفيذ أمرك و في نفس الوقت لم أرغب في قتل حفيدك الصغير، حيث فكرتُ بأنك قد تندم يوماً ما على قتله. كما أنني لم أستطع قتله بِنفسي بسبب كونه قريبي ولذلك طلبت ُ من هذا الراعي أن يقوم بِقتله بدلاً مني. أقسم بأنني ذكرتُ لك الحقيقة.
الملك : ما دامت النتيجة أصبحت بهذه الصورة السعيدة التي هي إرادة الآلهة التي قامت بِحماية الطفل، أعفي عنكما. ثمّ أخبر الراعي بأنه عمل شيئاً جيداً بالحفاظ على حياة حفيده وأمره بِكُتمان السرّ الى أن يعلنه بنفسه. فرِح الراعي كثيراً بهذا الأمر ووعد الملك الراعي بالقيام بِمُكافئته لقيامه بتربية الصبي تربية جيدة ثم أمر الملك بإنصراف (هارپاك) والراعي.
إحتضن الملك حفيده وأخبره بأنه حقاً أنه ملِك، حيث أنه إبن ملِك. أمر الملِك بإحضار الكهنة لإستشارتهم في الأمر. أخبروه بأن حلمه قد تحقق وأن الطفل قد أصبح ملِكاً حقيقياً، إلا أنه أصبح ملك الصبيان وأن الصبي سيكون له شأن عظيم وسيساعد أمه في إدارة مملكته من بعده ولا هناك شئ يدعو للقلق والخوف من الطفل. فرِح الملك (أستياگ) بِتفسير الكهنة وإستدعى إبنته (ماندانا) لرؤية إبنها الذي لم ترَه منذ إختطافه وأخبرها بأن أحد الخونة قد قام بِسرقة طفلها من القصر الملكي ورماه في العراء لِتأكله الذئاب وأن هذا الخائن هارب من وجه العدالة وأنه سيتم العثور عليه ومعاقبته وأن الراعي قد عثر على الطفل في العراء وقام بتربيته تربية حسنة وأنه كافأه على ذلك. بعد ذلك قام (أستياگ) بِذبح القرابين للآلهة التي يعود لها الفضل في ذلك وعمّت الإحتفالات والأفراح في البلاد لمدة ثلاث أيام إبتهاجاً بهذه المناسبة، حيث دعا الملك الوزراء وكبار المسسئولين الى وليمة كبيرة أقامها في ديوان قصره لهذه المناسبة. بعد الإنتهاء من الأكل والشرب، نهض الملك من مكانه، وهو ثمل لِحدٍ ما وسأل (هارپاك) فيما لو أنه شبِع فأجابه بالإيجاب وثم أخبره الملِك بأنه أكل لحم إبنه الذي كان في الثالثة عشر من عمره، فسقط (هارپاك) متهالكاً على كرسيه وأفرغ ما في معدته. أخبر الملك الحاضرين بأن هذا هو جزاء كل مَن يتهاون في عمله وطلب من (هارپاك) عدم إفشاء هذا السر.
بعد إنتهاء الإحتفالات، رجعت (ماندانا) مع إبنها الى (أنشان) خوفاً عليه من أية مكيدة أخرى. وعمت الإحتفالات والأفراح في منطقة (أنشان) أيضاً وتمّ نحر الذبائح. هكذا بدأ الطفل يترعرع في كنف والدَيه الى أن أصبح شاباً يافعاً.
[1]