يبدو أن قوة النص الشعري تكمن في بساطته أولًا، ومن ثم في خصوصيته ثانيًا، سواء من جهة تناوله لتلك العوالم الرقيقة حد الهشاشة، أو من حيث الاكتفاء بالعبارة البسيطة حد الإدهاش، وهو ما يجعله نصا شفيفًا ونديًا أكثر مما ينبغي، ويدخل إلى قلب القارئ بيسرٍ محتم ودون استئذان.
في مجموعته الشعرية الجديدة (كحل الرسولة)، الصادرة أخيرًا عن دار شلير (#قامشلي#- 2018)، يميل الشاعر الكردي السوري طه خليل إلى كتابةٍ في منتهى البساطة؛ “البساطة” بوصفها الدرب الأبرز للدخول إلى عوالم الذات، وما الحب سوى العنوان الرئيس لهذه الرحلة؛ “الحب أنْ تذهب إليها بعطرٍ/ وتعود بعطرين”.
“المفارقة” و”التدوير” سمتا قصيدة طه خليل، وتحديدًا تلك القصائد القصيرة منها، وكذلك القصيرة جدًا؛ حيث تكرار العبارة الأولى في نهاية القصيدة، يضفي نبرة موسيقية إلى أجوائها، كما في قصيدة (سنونو)، وفيها يقول الشاعر: “أقف مع السنونو.. على سلك رفيع/ سلك تنشرين عليه مواجعك في الليل/ تؤلمني مواجعك.. وأنا بين السنونو/ على السلك الرفيع”. ما نجده في القصيدة السابقة من تقابل جلي في استخدام مفردات معينة دون غيرها، يحيل القصيدة إلى أن تكون ذات نبرةٍ خاصة.
في قصائد أخرى، يعتمد الشاعر أسلوب “التكرار” ومن ثم “البتر” أو ما يسمى ببؤرة التوتر في النهاية، حيث تكاد الجمل أن تكون متشابهة تمامًا، فيما الجملة الأخيرة تأتي مختلفة ومغايرة، شكلًا ومضمونًا، كما في قصيدة (شعرة)، وفيها يقول الشاعر: “الشعرة التي التصقت بعنقي/ الشعرة التي بقيت منك/ الشعرة التي قصمت ظهري/ الشعرة التي تضيء علي/ كلما مررت بالنساء”.. الغنائية في هذه القصيدة، تجعلها أكثر تماسكًا، وهو ما ينسحب على معظم قصائد المجموعة.
القصيدة المشهدية
تذخر قصيدة طه خليل، المولود في مدينة القامشلي- سنة 1963، بشعرية الكاميرا، حيث العدسة تدور -دون توقف- لتلتقط المشاهد الأكثر بساطة وإدهاشًا، فضلًا عن أنها شديدة التكثيف والاختزال من الناحية اللغوية. “الرعاة”، “الصيادين”، “الحجل”، “الرسولة”، “الينابيع”، “الذهب الأخير”، “النمش”، “ضفيرتك الخضراء”، وغيرها.. مفردات حميمةٌ نجدها بين جنبات هذه المجموعة.
كما يبدو لافتًا، لدى الشاعر، العناية بشعرية المشهد، من خلال التقاطه لزاوية معينة، ومن ثم يتم تدويرها شعرًا، حيث الإلمام بالتفاصيل على أشدها، بينما يأخذ الجانب البصري/ التصويري الحيز الأكبر من روح النص وجمالياته. في قصيدة بعنوان (إلى س)، وهي تأتي في هذا الاتجاه، يقول الشاعر: “أمطارٌ كثيرة هطلت على المسطبة الحجرية../ حجران هناك.. يتحدثان من الوحشة../ يسألان بعضهما عن يد مسحتهما طويلًا../ حجران.. يتحدثان عنك بلغة الحرير../ حجران على الباب لانتْ قلوبهما/ من الشوق!”.
أجواء مفعمة بالحب
مجموعة (كحل الرسولة)، التي جاءتْ في مئةٍ وثمانية وعشرين صفحةً من القطع المتوسط، هي المجموعة السابعة في رصيد طه خليل الشعري؛ إذْ سبق له أنْ أصدر ست مجموعات شعرية، هي: “قبل فوات الأحزان” (دمشق- 1988)، ” ملك أعمى” (بيروت- 1994)، “ورود وقبلات سريعة” (سويسرا- 1999)، ” أينما ذهبت” (دمشق- 2004)، “قصيدة حلبجة” (السليمانية- 2004)، و”أثرها” (دمشق- 2006)، بالإضافة إلى روايته الوحيدة، التي صدرتْ باللغة الألمانية، وحملتْ عنوان “دفتر صديقي” (سويسرا- 1997).
قصائد هذه المجموعة تقود القارئ إلى أجواء مغايرة ومليئة بالحب؛ حيث اللغة شديدة الحميمية، وغاية في السلاسة والعذوبة والصفاء، فيما الصور الشعرية تشف رويدًا رويدًا، وتكاد أن تختفي، نظرًا إلى رقتها وبساطتها، إضافة إلى قربها من روح شعر “الهايكو” الياباني. يقول الشاعر:
” كانتْ تشبهني../ كانتْ تشبهني كثيرًا/ حتى إنني تحت التراب الآن./ تحت التراب ويكتب أحدنا عن الآخر”…[1]
الكتاب: كحل الرسولة (شعر)
المؤلف: طه خليل (سورية)
الناشر: دار شلير- قامشلي (2018)
الصفحات: 128 صفحة
القطع: المتوسط.
موقع-جيرون