شورش درويش
قبل قليل من انهيار #الدولة العثمانية# ، مثّلت طبيعة الهوية المنشودة للدولة؛ واحدة من المسائل المؤرِّقة للمثقّفين، والتحدّي الملازم للنخبة الحاكمة، لتتناوب الاقتراحات حول أيّ الروابط يمكنها أن تصيغ هوية عثمانية جامعة وتجنّب الدولة سقوطها المحتوم؛ فجرى تزكية الرابطة العثمانية حيناً، والإسلامية حيناً آخر، لتستقر النُخب الحاكمة أخيراً على تبنّي مفهوم “الرابطة الطورانية”؛ والتي ستتبنّى لاحقاً #سياسة التتريك# التي تعمّقت على نحوٍ واسع، إثر نكبات الدولة العثمانية في البلقان.
كانت الأجواء التي قامت عليها الرابطة الطورانية شديدة التطرّف ومأخوذة بالنظريات العرقية، فقد تبنّى روّادها أشكالاً متطرّفة من “العلموية المبتذلة”، كالداروينية الاجتماعية، وقياس جماجم البشر؛ بغية تمييز الأتراك الحقيقيين عن بقية البشر، وصولاً إلى إعادة أحياء الأساطير التركية واستعادة الأسماء التركية القديمة، والتكنّي بها بدل تلك العربية/الإسلامية، هذا فضلاً عن مدّ الطورانية بطاقة شاعريّة وإنشائية مهولة، لاسيما الثلاثيّ الأشهر: إبراهيم شناسي، ونامق كمال، وضياء كوك ألب، وقد عبّر هذا الأخير عن تصوّراته بالقول “إن بقاء الدولة رهين بقيام أمّة واحدة ألا وهي الأمّة التركية”.
وقد تحوّل هذا المزيج المريع من الهرطقات والابتذال والإنشاء؛ إلى نهجٍ رسميّ تعمّق على مرحلتين، الأولى زمن حكم الاتحاديين وما قاموا به من تتريك للجهاز البيروقراطي وإشاعة الثقافة واللغة التركيتين، ونسج الأساطير عن علوّ شأن الأمة التركية وأن الخلاص يكمُن في توحيد الأمّة تحت راية الأتراك، حتى غدا اسم العلم العثمانيّ العلم التركيّ، ولتُمَجِّد سير هولاكو، وجنكيزخان، وتيمورلنك؛ رغم أنهم مغول ولم يكونوا أتراكاً. بل إن التتريك المتسارع طاول المدارس الأهلية والحكومية حتى تمّ تدريس قواعد اللغة العربية باللغة التركية، كما إن التمييز العرقي طال ضبّاطاً لامعين تعرّضوا للإبعاد؛ كعزيز علي المصري، واستكمالاً للمرحلة الأولى؛ عملت الجمهورية تالياً على وضع “التركايتيّة” في متن الحياة القانونية والدستورية للدولة وفي خطابها الرسمي والتعليمي، حتى تنامت تلك التهويمات القومية/العرقية؛ لتنسحب على الأقوام غير التركيّة والجماعات العِرقية الصغيرة ولتبتلع هويّاتهم الفرعية، كما في حالة الّلاز، والتركمان، والشركس، والكرج.
ولعلّ أسوأ ما في التعالي والفوقيّة التي كرّستها سياسات التتريك؛ أنّها نفّرت عناصر الدولة مطلع القرن العشرين، وساهمت إلى ذلك في تفويت الفرص لاحقاً على استكمال مشاريع تحديث تركيا، إذ لم تبلغ تركيا مرحلة الرشد الاجتماعي والسياسيّ، لاسيما قبول التعددية الإثنية والثقافية على ما تدلّنا إليه مبادئ الدولة الحديثة حيث رابطة المواطنة أسمى من رابطة العِرق الواحد واللغة الواحدة.
والحال، أنه ثمة تاريخ مُتّصل من الأذى والقهر طال الجماعات التي قاومت سياسات التتريك، وثمة إلى ذلك حوافز مُنحت للذين تخلّوا عن هويّاتهم وثقافتهم، وبين هذا وذاك ظهرت داخل كل الجماعات التي تعرَّضت لسياسات التتريك، شخصيات انتهازية؛ سعت لتبديل هويّاتها الإثنية تحقيقاً لمصالحها، ولعل المثال الأنصع فيما خصّ كل من قاوم أو قَبِل بالتتريك في الشمال السوري المحتلّ لا تخطئه العين.
عاودت تركيا، منذ سيطرتها على جرابلس عام 2016، وما تبعها من احتلالات لبقية المناطق، الحديث عن حقها التاريخي في بعض الأراضي السوريّة، لاسيما عفرين التي خصّتها الدعاية التركية في أنها تتبع لأراضي الاتفاق الملّي التي لم تُفرِّط بها عقب توقيع هدنة مودورس 1918، وإمعاناً في التأكيد على المزاعم التاريخية سطّر “أكاديميون”، مسكونون بالخرائط البائدة والتاريخ المزوّر، تاريخاً خاصّاً عن عفرين يُركِّز على استيطان القبائل التركمانية فيها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وهو الأمر الذي سيبرّر كل الهندسة الديموغرافية اللاحقة في تلك المنطقة الكرديّة.
وسريعاً ربطت تركيا المدن السورية بالولايات التركية، وألزمت السكان باستخراج بطاقات شخصية جديدة، فضلاً عن تغيير أسماء القُرى والبلدات؛ خاصةً في عفرين، وافتتاح فروع لمؤسسة البريد التركية الحكومية (PTT). أمِلَ التركيز على المسار التعليمي الذي مثّل العضلة النامية التي تحتاجها أنقرة في سبيل إيجاد مجتمع يقبل التتريك على المدى البعيد، لذا فرض الأتراك تعلّم اللغة التركية بوصفها مادة أساسية، فضلاً عن تدريس المناهج التعليمية التي تعتمد المنظور التركي، والتركيز أيضاً على المدارس الشرعيّة التي جرت توأمتها مع مدارس “إمام خطيب”؛ التركية ذات المناهج العثمانية.
ويُمثّل رفع العلم التركي على الدوائر “الرسمية”، وكذا في النقاط والحواجز العسكرية، وعلى أكتاف مقاتلي الميليشيات المعارضة الموالية لتركيا، أبرز مظاهر عملية التتريك، بعبارة أخرى: جرى تتريك سلاح المليشيات على ما تكشفه أسماء الفصائل وتبعيتها ودرجة ولاءها وانصياعها لأوامر الاستخبارات التركية.
خلال الأيام القليلة الماضية؛ حذّرت “منظمة فرساي لتلاقي الثقافتين العربية والفرنسية” من مخاطر سياسة التتريك، فدعت الجامعة العربية واليونسكو للتنبّه لمخاطر هذه السياسة، ولتصفها بأنها “ممارسات احتلالية بكل معنى الكلمة”، وأن “تأكيد الهوية العربية في تلك المناطق بات ضرباً من الخيال”، في حين أغفل البيان الذي أصدرته المنظّمة دور التتريك الذي يرمي أيضاً إلى تذرير الهوية والوجود الكرديين.
ولئن كان التتريك، وفق ما تمّ اختباره على مدار ما ينوف عن المئة عام، يمثّل خطراً حالاً، وآخر محدقاً؛ بمستقبل سوريا ووحدة أراضيها، فإن تكثيف الجهود لوقف هذه السياسات بات يستلزم الدفاع عن الهوية العربية والكردية سواء بسواء، ولعل التذكير بفظاعات سياسة التتريك التي حلّت بلواء إسكندرون، أو شمالي قبرص؛ كفيلة لأن تُنذرنا بما ينتظر المناطق السوريّة المحتلة. والحال، إن فرص نجاح هذه السياسة مرتبط باستدامة احتلال وحيازة تركيا للمناطق الشمالية السورية، وأن التخلّص والتعافي من آثار سياسة التتريك يمرّ دائماً بجلاء القوات التركية.[1]