#دياري صالح مجيد#
بعد ان بدأت تنمو حقيقة واقعة ومُسلمٌ بها على نطاق واسع في اوساط اكاديميي ومثقفي المكون الفيلي بأن غالبية المؤسسات والمنظمات ( ناهيك عن احزاب السلطة التي جاءت لتطفو على سطح المشهد السياسي بعد 9 / 4/ 2003 ) غير قادرة ولا تملك الرغبة في ايجاد حلول جذرية ناجعة لمشكلة الكورد الفيلية في العراق , وفي ظل عدم مصداقية وجدية الحكومة في التعاطي مع هذا الملف وبالذات من خلال تجاهل مجلس النواب مؤخراً لهذه القضية وبطريقة متعمدة , برزت رؤية مغايرة عن سياق توجيه تلك المنظمات ذات العلاقة باحزاب السلطة , تشير الى حجم التوجس الذي يلف عقول هذه الفئة في الوسط الفيلي من تلك الاحزاب ومن المنظمات التي اقامتها بالاساس لتتشتيت الكورد الفيلية , ليكون الاتجاه مُركزاً في الوقت الحالي نحو البحث عن كيفية توحيدهم تحت كيان واحد والبحث عن عناصر دعم خارجية قد لايزيد حجم دعهما عن مجرد التعريف والشجب لما يعانيه ابناء هذا المكون في الداخل العراقي , الذي لا يبدو فيه اي استعداد حكومي واضح للتعاطي مع هذا الملف برؤية علمية معبرة عن بعد انساني صادق في رد الاعتبار وفي رفع الغُبن , وهنا ربما يتسائل مُتسائلٌ ما , وما ذا يريد هؤلاء الفيلية وهم الان وكما يعرف الجميع يمدون ذراعا للكُرد فهم من ذات القومية وذراعا اخرى للشيعة وهم من ذات المذهب , وكلا طرفي العلاقة هم الحُكام الحقيقيون وذوو الكلمة العليا النافذة في رسم المشهد السياسي العراقي , فهل هناك افضل من ميزة العلاقة القومية والمذهبية مع طرفي القوة في العراق اليوم ؟ .
ربما لمن لا يعرف حقيقة المشكلة الفيلية في العراق , وهم بالمناسبة كُثر وربما اغلبية ساحقة ( وهذا ما اثبتته الايام , وهي بالمناسبة قضية تملك في احد اوجهها بعضاً من الشبه فيما يتعلق بمشكلة بعض الكورد في سوريا ممن تم مصادرة جنسياتهم السورية , ويجري الحديث اليوم في ظل ضغطهم على النظام السوري وما يتعرض له من هزات داخلية , عن اعادة الجنسية لهم واعتبارهم مواطنين سوريين ) , يكون مثل هذا التصور امراً معتادا ومنطقياً في سياق التحليل البراغماتي لشؤون السياسة العراقية اليوم , فمن المفترض طبعاً في ظل هذه الرؤية ان يحظى هذا المكون بمكانة اثيرة او على الاقل بمكانة لا بأس بها في ادارة شؤون الدولة وفي استرداد حقوقه وفي التمتع بامكانية ذكره في صفحات التاريخ العراقية طالما انه يُعد وبصدق نقطة التقاء مهمة في الجغرافية السياسية للكورد والشيعة معاً , وعند تلك النقطة يمكن ان تلتقي الرؤوس الكبيرة الراسمة لمستقبل الكورد والشيعة في العراق خاصة اذا ما كان هناك اي احتمال لنشوب خلاف (ربما دموي) بين الطرفين ( والعراق بلدٌ مفتوح على كل الاحتمالات ) , فاذا ما كان هذا التصور يُحلق في خيال البعض , فلا ينتظر منا ان نُصفق ونُصفر لهُ ليستمر في التحليق عالياً , لان الحقيقة على ارض الواقع اكثر اختلافاً واشد مرارةً , على الاقل وكدليل الى ما ذهبنا اليه , فقد تم استثناء كل اؤلئك الذين انضووا تحت لواء الاحزاب الكوردية والشيعية من ابناء هذا المكون من امكانية التمتع بمقعد برلماني ضمن المقاعد التعويضية ( باستثناء خطوة التيار الصدري ) , وهو ما يُعد بصدق عنصر دحض لفكرة الترف السياسي لابناء هذا المكون في الواقع العراقي الجديد , والذي لا يمكن ان يُفسر الا بانهُ شكلٌ من اشكال التجاهل المُتعمد لهذا المكون واستحقاقهِ في السياسة العراقية , ويشير كذلك الى الفشل الذريع في تثقيف الفرد العراقي عامة بقضية هذه المجموعة البشرية الواسعة عدداً وانتشاراً من المنظور الجغرافي , والتي لا ياتي ذكرها الا من خلال التعريف بها بكونها ذات اصول غير عراقية بفعل التشويه الذي مارسهُ النظام السابق بحق هذا المكون عندما غرس قسراً في اذهان العراقيين هذه الرؤية الغامضة والضبابية واللامنصفة وفقاً لحقائق التاريخ والجغرافية العراقية بشان ابناء هذا المكون , فكان فعل الاعلام المُستبد لذاك الزمان بقسوته وتراجيديا العنف التي يجيدها , قد خلفت اشكالاً واسعة من الدمار اشدُ من تلك التي خلفتها ذاكرة الحروب وربما اكثر قسوةٍ منها . وهو ما فشل قادة العراق الجُدد في ازاحة معالمهِ الشاخصة حتى يومنا في الثقافة العراقية التي غاب عن سمائها من يُخطط لاعادة احيائها برؤية انسانية متأنية قائمة على التفكيك الثقافي لكل ما انتجته الالة الاعلامية السابقة من زيف ومن معلومات خاطئة بحق من عارضها سياسياً واختلف معها ايديولوجياً , وهو فشل يُعبر عن ضعف الرؤية الثقافية لاغلب هؤلاء ممن لا يحترفون الثقافة بقدر ربما ما يهوونها او في احيانٍ كثيرة يتمسكون بنهاية قطارها المُتسارع الخطى , لانهم لم يفكروا يوماً بركوب هذا القطار وبالبحث عن مقعدٍ متميز في احدى مقصوراته الامامية , فالواقع السياسي لما بعد سقوط النظام السابق اجبر الكثير منهُم على الاهتمام بالثقافة , وهو ما افرز مشهداً ثقافياً مُربكاً ضاعت فيه امكانية التعاطي بشكل جاد مع القضايا ذات الصلة بالمكون الفيلي ومعضلتهِ التي لم تُحل الى اليوم فهو لا زال بعد مشكوكاً بعراقيته وغير مُعترف بهويته وممزقٌ في انتمائه الذي عادةً ما يكون عنصراً مهماً للضعف , يُستغل انتخابياً من ابناء القومية تارةً ومن دعاة المذهب تارةً اخرى . وكدليل اضافي الى ماذهبنا اليه نُشير الى ان المؤسسات الاكاديمية الواسعة الانتشار في العراق وبالذات في كردستان لم تُقم ومنذ الاطاحة بالنظام السابق اي مؤتمر علمي لمناقشة مشكلة الكورد الفيلية وما هية الدور الذي يمكن لابناء هذا المكون لعبه في السياسة والمجتمع العراقي !!! .
بعد ان ادرك البعض هذه الحقائق بدات الدعوة الى الاستنجاد بالخارج , اذا ما كان كل الداخل ومجمل الاقليم العربي وغير العربي اما يَصمٌ اذانه ولا يريد سماع عزفٍ مغاير لمعزوفة عتيقة عزفها البعض في سالف الزمان وحولها الى واحدة من مسلمات الحياة في العراق ومجمل المنطقة , او انه لا يعترف بحق ابناء الاقليات بالعيش في هذه الاوطان التي لا يُنظر لها الا على اساس انها اوطان الاغلبية ليس الا !!! . فكانت الدعوة الى الترجمة باللغات الاخرى , لما يُكتب في القضية الفيلية باللغة العربية , التي يجيد ابناء الفيلية عموماً استخدامها منذ ازمنة بعيدة والى الحد الذي وصل فيه وصف ( المؤرخ والجغرافي العربي الشهير ) المسعودي لهم في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر بانهم من ولد ربيعة وفقاً لحجم التداخل الكبير بينهم وبين ابناء العروبة . دون ان ينفي عنهم كونهم من الكورد حين قال في حق احدى القبائل الفيلية ما يلي وما قلنا في الأكراد , فالأشهر عند الناس ، والأصحّ في أنسابهم ، أنهم من ربيعة بن نزار . فأما نوع من الأكراد، وهم الشُّوهجان ( الشوهان ) ببلاد ما بين الكوفة والبصرة ، وهي أرض الدينوَر وهَمَدان ، فلا تناكر بينهم أنهم من ربيعة بن نزار بن مَعَد . فبالترجمة تلك يستطيع المرء ان يضمن نوعاً من التعاطف الدولي المهم ومن الدعم المؤسساتي المُمثل بمنظمة الامم المتحدة وكذلك المنظمات المدنية المختلفة ( وهو ما نجحت به واستثمرته بشكل كبير الاحزاب الكردية وغيرها ) , كي يضمن ابناء هذا المكون مستقبلاً عدم امكانية تهجيرهم الى ايران التي لم تعترف يوماً الا بكونهم عراقيين وتركتهم لثلاث عقود من الزمن مُهملين على الحدود لا يُسمح لاغلبهم بالدخول الى حياة المجتمع الايراني , في مقابل السماح لهم طبعاً بالتمتع برغيد العيش في خيم فاخرة بما تحويه من اسباب الراحة والسعادة عند الحدود مع العراق ( في مناطق كانت بالاساس نطاقات جغرافية مهمة للقتال في فترة الحرب العراقية – الايرانية ) الذي كان يُنظر له من قبل السلطات الايرانية على ان قيادته السابقة قد ارسلت عدداً كبيراً من هؤلاء ربما كجواسيس يعملون في قلب ايران لصالح هذا النظام في اشد الفترات توتراً بين الطرفين ( وهو ما ادى الى عدم سماح ايران لهم بالتغلغل الى داخل المدن المهمة على اعتبار انهم عراقيون وليسوا من اصول ايرانية ) , وكذلك وعبر الية الترجمة هذه يضمن ابناء هذا المكون الاصيل امكانية ضغط الخارج على اي حكومة مقبلة في عدم المساس بحقوق هذا الطيف الواسع في بناء القوميات العراقية .
ربما يتسائل مُتسائل ونحن معهُ ايضاً , لماذا يهمل (( قادة )) العرب السنة في العراق امكانية التعاطي الايجابي البناء مع مظلومية هذه الفئة ؟ وهي التي تعلم جيداً بحجم الظلم الذي وقع عليها انفاً ولاحقاً ؟ وربما تملك الكثير من المتعاطفين في اوساطها مع الفيلية ؟ وربما يتسائل البعض لماذا يغيب عن القائمة العراقية التي تَدعي الوطنية مثل هذا التوجه في ضم البعض من ابناء هذا المكون الى صفها ؟ طالما ترغب في تمتين اواصر الاخوة والوطنية داخل العراق . قد يقول البعض ان كُره الفيلية للبعث هو الذي يحولُ بينهم وبين القائمة العراقية التي تم تصويرها على انها الحاضنة الجديدة للبعث , اذ عادة ما تُتخذ هذه الرؤية المتزمتة كفزاعة من قبل الاخرين لاستمالة اكبر فئة ممكنة من الشعب العراقي نحو تيارات اخرى كَرِهت تجربة البعث ومقتت من يتحدث باسمها , لكن من يعمل في مجال السياسة يُدرك بانها تقوم على مبدأ لا عداوة أبدية ولا صداقة أزلية ( وهذا ما اثبتته كل الاحزاب الموجودة في السلطة عدا ابناء هذا المكون , فالبعث لديهم احزاب السلطة مُقسم الى فئات واصناف بحسب المُزاج السياسي والمصلحة الحزبية , لتبرير عملية التحاور معهم !!! ) . لذا على من يتخوف من الدعوة الى التواصل مع المؤسسات الغربية ويدعي الوطنية الحقة من كل الاطراف الفاعلة في السياسة العراقية بلا استثناء , النظر بعين الاهتمام الى مشكلة هذا المكون والعمل على التعاطي معها بما يضمن انصهار افراده في المجتمع العراقي عبر منحه كل الحقوق التي سُلبت منه , واعطاءه الضمانات بعدم التلاعب مجدداً بالفرد العراقي عبر تشويه صورهم او غيرهم من خلال الطعن في هويتهم وانتامئهم , خاصة وان الذي عَرفهم عن قرب , يُدرك بانهم كانوا ضمن صفوف القوات المسلحة العراقية التي اقتادها النظام السابق الى ساحات الحرب ضد ايران وبانهم كانوا من العناصر الفاعلة في ميدان التربية والتعليم , ومن العناصر المؤثرة في الاقتصاد وعموم الثقافة العراقية , لذا فان عراقية وعراقة هذا المكون الذي لا يؤمن بالطائفية السياسية , وامكانية الاستفادة من توجهاتهِ الوطنية الحقة التي لازالت مُغيبة عن المشهد السياسي العراقي , تُعرضُ وعبر هذه المقالة البسيطة امام اصحاب الشأن في العراق والعالم العربي , لنرى اذا ما كان هناك من الحكماء بينهم ( وهم كُثر ) من يستطيع استيعاب ما كُتب هنا , وهو أملٌ يَشِدنا ويربِطُنا بقوة بمستقبلٍ آتٍ مُغايرٍ لما عاشهُ كل العراق من مآسٍ دامية طوال السنوات الماضية من عمر التجربة الجديدة فيه .... فهل ستتحقق آمالُنا تلك يا ترى ؟
د. دياري صالح مجيد
كاتب واكاديمي عراقي
ملاحظة : يعتذر الكاتب للاخوة والاخوات القراء الكرام عن استخدامه التقسيم الطائفي للعراق , الا بحسب الضرورة التي اقتضاها المقال , وكان القصد منها بالاساس التصنيف للطبقة السياسية وليس للبعد المذهبي , لذا اقتضى التنويه .[1]