الحوار الكردي العربي… هل يكفي ذلك؟
الدكتور أحمد الدرزي
ما تحتاجُه النخبُ في منطقة غرب آسيا هو مجموعة من الحوارات المُنتجة، وبمستوياتٍ متعددة، تبدأ من الحوارات الداخلية لكل طرفٍ من الأطراف، لا ينفصلُ عن الحوارات البينية والحوارات العامة، وغايتُها المساعدة على إعادة صياغة الأسئلة الوجودية بعد أكثر من مائة عام من الصراعات الدموية، وكيفية تعزيز وعي الانتقال من نظام الغلبة إلى نظام المواطنة على مستوى كل دولةٍ وكل شعبٍ، للانتقال نحو نظامٍ إقليمي جامعٍ متكاملٍ، يتيحُ لكلِّ شعوبه حريةَ الحركة والعمل، بما يتيحُ تحقيق تنميةٍ معرفيةٍ واقتصاديةٍ أخلاقيتين، تخففان من غلواء الهويات، وتحوُّلِها إلى هوياتٍ طبيعةٍ لا تقومُ برسم السياسات، بل عنصر إغناءٍ ونماءٍ.
أبرزت الاضطراباتُ والحربُ السورية بمستوياتها الثلاث، محلياً وإقليمياً ودولياً، حجمَ الكارثة التي تعرضتْ لها المنطقة، والأثمانَ الباهظة التي دفعتها شعوبُها، نتيجة إخراجها قسرياً عن السياق التاريخي العام الذي حكمها على مدى أكثر من خمسة آلاف عام.
بقيت المنطقة الممتدة من الهضبة الإيرانية إلى جنوب المتوسط عبوراً بهضبة الأناضول إلى وادي النيل، محوراً لحركة التاريخ على مدى أكثر من خمسة آلاف عام، وبدأت البشرية باستكشاف خطواتها الأولى نحو تنظيم بناء الدولة الأولى، إنطلاقاً من الجنوب العراقي قبل 3200 عام قبل الميلاد، لتمتد إلى كافة المناطق المحيطة بها في بلاد الشام والأناضول وإيران، لتلتقي مع الدولة المركزية القوية في وادي النيل، التي أنتجت تجربتها الخاصة في الحكم والمعرفة.
تداولت مجموعة من الإمبراطوريات السيطرة على المناطق الممتدة بين الهضبة الإيرانية وجنوب البحر الأبيض المتوسط ووادي النيل، وتحولت مناطق الحضارة الأولى من وادي الرافدين الممتد من الخليج إلى جنوب شرق تركيا الحالية وصولاً إلى سهل أضنة ثم إلى منطقة العريش جنوب غزة، إلى ساحة صراع الإمبراطوريات التي توارثت المراكمة الحضارية للإنتاج المعرفي والثقافي ببعديه المدني الاقتصادي والعسكري، ما جعل من هذه المنطقة بؤرة تلاقي الإمبراطوريات ونتاجها الحضاري، وجعل منها بيضة القبان في صعود الدول أو انحدارها وانهيارها، ما دفع بالانزياحات السكانية للدخول بسيرورة لا تهدأ بتحولاتها العنيفة أحيانا، والتدريجية أكثر الأحيان، ما تسبب بتمازجٍ لشعوب المنطقة وتحول هوياتها على مدى تاريخ المنطقة.
اتسمتْ كلُّ الدول والإمبراطوريات التي تعاقبتْ على هذه المنطقة بعدم معرفتها لمفهوم الدولة الحديثة، بل سيطرت عليها قانون شرعية المُتغلب، الذي فرض على شعوب المنطقة نظاماً سياسياً واحداً يغيب عنه فكرة الوطن والمواطنة، ويحضر فيه مفهوم الراعي والرعية، والدين هو القاسم المشترك بين الشعوب المختلفة كهوية جامعة فيما بينها، تبعاً لقوة القائد المُتغلب الذي يفرض مصلحة إيمانه الديني على رعية مناطق سيطرته، ما يجعل هذه الدول بلا حدود ثابتة ولا روابط سوى روابط الدين بالدرجة الأولى التي تصُب عند الحاكم عبر المؤسسة الدينية المرتبطة به، وفِي أكثر الأحيان تكون هذه الرابطة الدينية الولائية أقوى من الروابط القومية، خاصةً إذا ما تداخلت مع الروابط القبلية.
هذا النمط من الدول الإمبراطورية دفع لتشكيل أُطرٍ متحولةٍ لتداخل شعوب المنطقة، خاصةً العرب والكرد والفرس والترك، بالإضافة إلى بقية الهويات التي كانت ومازالت أكثر من أن تحصى، وجعل من الإستحالة أن يتمَّ وضعُ حدودٍ فاصلةٍ فيما بينها، حتى في المناطق المركزية لتواجدها التي لم تكن صافية لأيٍّ منها، وهذا بدوره دفع لإمكانية تحول الهويات من نمط إلى آخر، كما حصل للبيزنطيين، الذين تحولوا للإسلام بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، كما تحولوا للغة التركية خلال هذين القرنين كلغةٍ وحيدةٍ متداولةٍ، وقد أكدت الدراساتُ الحديثةُ لعلم الخرائط الجينية »جينومولوجيا» بأن الترك الحقيقيين لا يشكلون أكثر من نسبة تتراوح بين 14 % و 21 % من سكان تركيا الحالية تبعاً لكل منطقة من مناطقها، أما غالبية الأتراك الحاليين فإنهم يعودون بخرائطهم الجينية إلى سكان الدولة البيزنطية التي حكمت الأناضول وشمال سوريا الحالية قرابة 1000 عام، وهذا الأمرُ ينطبقُ على كلِّ الشعوب، حيث تعودُ أصولُ بعض الكرد إلى منشأ عربي، وكذلك الأمر فإن الكثير من الكرد قد تحولوا إلى عربٍ وفرسٍ وتركٍ تبعاً لكل منطقةٍ من المناطق وقوتها التي تتيحُ تحول الهويات عبر الاندماج فيها.
وفِي أحيانٍ أُخرى يحصلُ الانزياحُ السكاني بدون تحول للهوية الأساسية خاصةً في المناطق الريفية، التي تتيح شيئاً من العزلة بسبب طبيعة الاقتصاد الزراعي المحدود والرعي، ما ينتج نوعاً من الاكتفاء الذاتي الذي لا يتيح التعاطي مع الهويات الأُخرى، وبالتالي يسمح لها بالحفاظ على هويتها الأساسية.
على العكس من السيرورة التاريخية لهذه المنطقة، كان هناك سيرورة مختلفة لتشكل الدول في العالم الغربي، حيث لعب نظام التوريث للابن الأكبر فقط في المحافظة على استمرار الملُكيات الكبيرة، على العكس من مناطقنا التي كانت تخوض صراعات الأخوة الورثة لأبيهم، وهذا النظامُ الغربي دفع باتجاه تشكيل الدولة الأمة بعد معاهدة ويستفاليا 1648، التي تستند إلى أرض محددةٍ ثابتةٍ، تشكلُ قاسماً مشتركاً للعيش عليها والإنتماءِ إليها باعتبارها وطناً لهم، فتحولت العلاقة مع هذه الأرض إلى هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ، يتم التفاعلُ بين سكانها تحت سقفها ولأجلها بالدفاع عنها، وتحولت العلاقة في هذه الدول من إطار الراعي والرعية إلى إطار المواطنة.
انتهى قانون الغلبة كإطار سياسي في الدول الحديثة على مستوى الداخل، ولكنه لم ينتهِ بمفاعيله بين نفس هذه الدول، فاندفعت للصراع الدموي الشديد فيما بينها على الأرض الأوروبية، وانتقل إلى خارجها في إطار الصراع على ثروات الشعوب الأُخرى، ما تسبب بالافتراق بين سياسات الداخل التي تقوم على أسس المواطنة والحرية، وبين سياسات الخارج التي تقومُ على السيطرة والقتل في سبيل الثروة، وبتناقضٍ رهيبٍ غير قابلٍ للتفسير.
حصلَ الصدامُ الأولُ بين نمطي الدولة الحديثةِ ودولة الغلبة مع وصول نابليون بونابرت إلى مصر واحتلالها عام 1798، وتلاحقتْ المواجهات التي استمرتْ إلى مطلع القرن العشرين، وكان من الواضح أنَّ الدولَ الحديثة بشكلها الإمبراطوري الجديد لها اليدُ العليا، فهي كانتْ تخوضُ الحروبَ فيما بينها للسيطرة على هذه المنطقة، ما دفعها بالنهاية ومع بدء الحرب العالمية الأولى للخوض في مشروع تجزئتها على أسس هوياتٍ قوميةٍ بديلةٍ، لمنع تشكل فعلٍ إمبراطوري جديدٍ في أخطر منطقة جيوسياسيةٍ في العالم، فكان لابدَّ من تحويل الهويات القومية الطبيعية إلى النمط الأيديولوجي العُصابي المفارق لتاريخ المنطقة، وإنشاء هياكلَ دولٍ حديثةٍ ذاتِ طابعٍ قومي، في منطقةٍ غير قابلةٍ للتقسيم بحكم تاريخها التفاعلي المشترك، ما تسببَ في تشكيل دولٍ حديثةٍ مزيفةٍ بمؤسساتها السياسية والتشريعية، بينما هي قائمة على مبدأ الغلبة في محتواها الداخلي واستمرار العلاقة السياسية الداخلية وفقاً لمبدأ الراعي والرعية.
على الرغم من تجزيء المنطقة، فإن الغربَ بدوله المتعاقبة بالسيطرة على مساراتِ التاريخ العالمي، إبتداءً من فرنسا وبريطانيا وانتهاءً بالولايات المتحدة، لم تتوقفْ عن التدخل في السياسات البينية للدول التي أسستْها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل أدخلتْها في مأزقٍ مستمرٍ بعد زرع كيانٍ غريبٍ عن تاريخ المنطقة في فلسطين كعصا غليظة فوق رؤوس الجميع، بالإضافة إلى ضبط الصراعات البينية لدوله بما يخدمُ رؤيتها الجيوسياسية على المستوى العالمي من خلال استمرار سيطرتها على مركز العالم القديم.
كان لإدخال العامل القومي كأيدوليجيا للدول المُؤسَّسة حديثاً، دوراً كبيراً في عدم استقرار مجتمعاتٍ هذه المنطقة حتى على المستوى القومي الواحد، فقد شهدنا صراعاً عربياً عربياً وكردياً كردياً وتركياً تركياً وإيرانياً إيرانياً، وترافق ذلك مع تدخلٍ غربي واسعٍ مبنيٍّ على فهم عميقٍ وواسعٍ لتاريخ المنطقة وما أنتجتْه من هوياتٍ ثقافيةٍ متنوعةٍ، ما تسببَ في حروبٍ لم تتوقفْ بين دول المشرق في غرب آسيا، بالإضافة للحروب الأهلية داخل العراق وسوريا ولبنان وتركيا بشكلٍ أساسي، وهي قابلة للحصول في بقية الدول في حال استطاع النظام العالمي المسيطر والمهيمن من تحقيق ذلك.
تعرضتْ منطقة غرب آسيا في العقود الأربعة الماضية، لسلسلةٍ من الحروب البينية المدمرة، فكان أنْ خاضتْ إيرانُ والعراق أطول الحروب المدمرة، بعد أن تهيأ للرئيس العراقي صدام حسين، وبناءً على معلوماتٍ وإغراءاتٍ غربية، دفعتْ به لتغيير تقديراته العسكرية، والاندفاع لخوض حربٍ ارتدت سلباً على العراق وإيران، وعلى كل شعوب المنطقة، بالإضافة للحرب التي خاضها مع العراقيين الكرد، الذين يبحثون عن بناء دولة لهم، أسوةً ببقية الدول القومية التي تمَّ تأسيسُها، ولَم تكن تركيا بعيدة الصراع الداخلي، وهي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن ترسم حدودها بالنار، بشراكة تركية كردية في معركة التحرير، تحت قيادة مصطفى كمال، وإسقاط مشروع تمزيقها على يد بريطانيا وإيطاليا واليونان وفرنسا، وعلى الرغم ومن الشراكة التركية الكردية في حرب التحرير هذه، فإن ذلك لم يدفع لبناء تصورٍ إيجابي متجاوزٍ لمسألة الأيديولوجيا القومية، بل تمَّ الارتكاسُ إلى الخلف، وسيطرة المشروع القومي التركي العنصري على مسارات تركيا الحديثة، ما أحدث ردة فعلٍ طبيعيةٍ لدى الكرد، والبحث عن إطار قومي أيديولوجي جامعٍ، في مواجهة المشروع القومي التركي، ما تسبب بصراع دموي بدأ عام 1925، مع اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران، ضد سياسات التتريك التي اتبعها مصطفى كمال، واندلعتْ من جديدٍ بعد انطلاق حزب العمال الكردستاني بخمسة سنوات، واستمرت لأربعة عشر عاماً.
ولَم يكن العراق وسوريا بعيدين عن الصراعات الداخلية، التي لا تغيبُ عنها عوامل الغلبة الداخلية، والتدخل الغربي الواسع والعميق، والاستيقاظ المدمر للهويات القومية والدينية والقبلية والعشائرية، ما دفع إلى مزيدٍ من الاستقطابات الداخلية، والمزيد من الدماء والفقر للجميع.
تدفعُ الحروب البينية والداخلية المستمرة لدول وشعوب هذه المنطقة، لطرح مجموعةٍ من الأسئلة على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وأولُها هل يمكن إجراء حوار عربي كردي، بمعزلٍ عن حوار أشمل يضم إليه الترك والإيرانيون؟ أم أن السياقَ التاريخي والجغرافي والاجتماعي للمنطقة، لا يتيحُ عزل القضايا المتداخلة عن بعضها البعض، وتفرض سيرورتها على الجميع؟
السؤال الثاني الذي يفرضُ نفسَه: هل يمكن للجميع إيقافَ دورات العنف والدمار في المنطقة، من خلال استمرار المحافظة على نفس البنى السياسية المؤسسة على نظام الغلبة، أم أن الأمر يحتاج للتفكير من خارج إطار الهويات الأيديولوجية بأشكالها المختلفة؟
السؤال الثالث: هل يستطيعُ الجميعُ التحولَ نحو بنىً سياسيةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ، باستمرار مشاريع الهيمنة الغربية، التي تتحمل المسؤولية الأكبر بتسريع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتحطيم المنطقة، وهي مازالت مستمرةً بسياساتها التدميرية، خاصةً في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، حصار إيران، والتحكم بالسياسات التركية، أم أن الأمر يتطلبُ العملَ على إزالة الفعالية الغربية، بالتوازي مع التغيير الداخلي الضروري لتحقيق الاستقرار والتنمية على مستوى كل بلد من البلدان؟
السؤال الرابع: ويتعلقُ بطبيعة بقاء إسرائيل في المنطقة، ودورِها الوظيفي والعقائدي ضمن المشروع الغربي، وهي أُوجدت بشكل قسري من خارج السياق التاريخي الطبيعي للمنطقة، وهي صاحبة المصلحة الأساس باستمرار دورات العنف في محيطها، وتثبيت دورها الإداري بين الهويات المتناحرة، بما يجعلُها ضرورةً للجميع، فكيف يمكن التأسيس لحوار عميق إيجابي باستمرار وجودها كمؤثر فاعل؟
ما تحتاجُه النخبُ في منطقة غرب آسيا هو مجموعة من الحوارات المُنتجة، وبمستوياتٍ متعددة، تبدأ من الحوارات الداخلية لكل طرفٍ من الأطراف، لا ينفصلُ عن الحوارات البينية والحوارات العامة، وغايتُها المساعدة على إعادة صياغة الأسئلة الوجودية بعد أكثر من مائة عام من الصراعات الدموية، وكيفية تعزيز وعي الانتقال من نظام الغلبة إلى نظام المواطنة على مستوى كل دولةٍ وكل شعبٍ، للانتقال نحو نظامٍ إقليمي جامعٍ متكاملٍ، يتيحُ لكلِّ شعوبه حريةَ الحركة والعمل، بما يتيحُ تحقيق تنميةٍ معرفيةٍ واقتصاديةٍ أخلاقيتين، تخففان من غلواء الهويات، وتحوُّلِها إلى هوياتٍ طبيعةٍ لا تقومُ برسم السياسات، بل عنصر إغناءٍ ونماءٍ.[1]