المشهد العمراني لريف شمالي سوريا في المرحلة العثمانية
د. آزاد أحمد علي
مجلة الحوار- العدد /77/- 2021م
من الصعب وضع تصور دقيق لحالة العمران الريفي خلال الحقب التاريخية السابقة، وذلك لسببين رئيسين، الأول عدم اهتمام المؤرخين بالريف، سواء أخبارها أو أوصافها، والثاني هشاشة العمران الريفي وضعفه أمام الكوارث البيئية والاجتماعية، وبالتالي تعرضه للاندثار، حتى بات لدينا ما يمكن توصيفه بالفجوات العمرانية، وذلك في مراحل تاريخية كاملة، إذ نصادف فيها انقطاع شديد في العمران الريفي، وربما كانت المرحلة العثمانية، أحد تلك الحقب التي إن لم تشهد انقطاعا في العمران الريفي فإنها لم تكن مرحلة ازدهارها. فالمرحلة العثمانية كانت مرحلة إهمال وإدارة الظهر لكل مناطق سوريا والعراق، فقد أصاب الإهمال كل من المدن والأرياف. لدرجة أنه تم إهمال حتى بغداد عاصمة الخلافة العباسية الأولى، والقاهرة العاصمة الرمزية الثانية للخلافة، بعد أن تم نقل مقر الخلافة الإسلامية الى إستانبول، بعد أن تم تنحية آخر خليفة عباسي، وهو المتوكل على الله الثالث، سنة 1517، بعد أن غزا السلطان سليم الأول مصر.
فبخصوص صعوبة التأريخ لحياة الريف يبين المؤرخ عماد عبد السلام الذي أشار الى صعوبة التأريخ لكل ما هو متعلق بالريف على الرغم من أهميته، على العكس من المدن: “في الوقت الذي عني فيه المؤرخون بتسجيل مختلف الشؤون السياسية والحضارية في المدن، فإنهم سكتوا إلا نادرا عن ما كان يجري خارج هذه المدن، لذلك لم يعنوا بتسجيل حوادث التاريخ في الريف الزراعي، وفي البراري والمراعي، إلا حينما يضطرون لمتابعة حملة قادها هذا الأمير أو ذاك الوالي ل (تأديب) عشيرة امتنعت عن دفع ما فرض عليها من ضرائب، أو (تمردت) بسبب ظلم ما تعرضت له، وهكذا بات من العسير على المؤرخ أن يتعرف اليوم على تاريخ ما هو خارج عن أسوار المدينة، من قرى كثيرة، وقبائل منتشرة، وأمراء ريفيين، وزعامات محلية، على الرغم من أهمية كل هذه القوى والكيانات في توجيه الاقتصادية، والاجتماعية، للمدينة نفسها، فالريف كان هو الذي يزود المدينة بنتاجاته الاقتصادية، وبحسب ما كان يصلها منه كانت تعيش حياتها ازدهارا أو اضمحلالا، والقبائل هي التي كانت تحمي طرق التجارة وهي التي تقطعها أيضا، وبحسب هذا أو ذاك تزدهر التجارة ويتعامل بها من التجار والحرفيين أو تخبوا فتقل الموارد المالية التي تدخل المدينة بسبب ذلك النشاط. والريف الزراعي المستقر هو الذي كان يرفد المدينة بالوافدين لطلب الرزق أو لطلب العلم على حد سواء، ومن ثم فإنه يمثل المورد الأساس التي بها تجدد المدينة دماءها، وتتنوع العناصر التي تدخل في تركيبها الاجتماعي.” (عبد السلام، 2013، ص 267)
كما أهملت دمشق الشام عاصمة الخلافة الأموية قبلها، ولذلك تعرض كل من العمران الريفي والحضري لتراجع كبير، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والإدارية وتراجع شرطي الانتاج والتسويق، ومن ثم الأمان في المجتمعات الريفية، هذه المجتمعات التي عانت من فرض الضرائب وجور السلطات العثمانية. لذلك باتت الحياة البدوية هي المفضلة لقطاع من القرويين، وليس للبدو فقط. ما أثر كل ذلك سلبا على تنامي الحياة العمرانية وتطورها، ومازلنا بحاجة لدراسة العلاقة الجدلية بين نمطي حياة الاستقرار والترحال ضمن المشهد العمراني في عموم منطقتنا. على الرغم من ذلك التراجع للحياة القروية ظلت بعض الاستثناءات المميزة قائمة، خاصة قرب الهضاب الجبلية، سواء في شمالي سوريا أم غربها، فقد ظلت العديد من القرى عامرة ومنتجة، وهذا ما يستنتج من العديد من المشاهدات، كم أنها مدونة في السجلات الرسمية. ولعل من أقدم وأهم تلك المشاهدات هو ما أورده في المرحلة العثمانية المبكرة، الرحالة الهولندي ليونهارت راوولف: “سافرنا من حلب الى البيره في 13 آب 1574م … وبعد أن سلكنا طريقا وعرا في اليوم الأول من رحلتنا، واجتزنا الصحارى وأماكن عديدة خالية من السكان، وصلنا عند المساء إلى قرية صغيرة توقفنا عندها ونصبنا خيامنا هناك وقد وضعنا أمتعتنا على شكل دائرة من حولنا، ولم نضع معها دوابنا كما جرت العادة عند وجود قافلة كبيرة كيما نرد عنا هجمات الأعراب ليلا.” (راوولف، 2008، ص111). وبعد أن اجتاز مناطق شرق حلب الخالية من السكان عهدئذ وصل الى مدينة بيره جك على نهر الفرات شمال جرابلس الحالية: “المدينة ليست كبيرة ولا محصنة، لكن يمكن الدفاع عنها جيدا بالقلعة التي تستقر على صخرة عالية، تقع على حافة النهر ولا يمكن الاستيلاء عليها بيسر. ويحيط بالمدينة ريف جميل جدا، فائق الخصب وذلك لآن هذا الجانب من النهر يتألف بصفة رئيسية من أرض سهلية، وكان القوم قد أتموا دراسة القمح حين وصولنا الى هناك، وأخذوا يضعونه في عربات تجرها الثيران. وقد تناثرت هنا وهناك قرى حسنة المنظر.” (راوولف، 2008، ص114)
وثمة آراء معاكسة وردت في سياق مشاهدات أخرى متأخرة نسبيا، لم ترى سوى ما هو متواضع في عمران شمالي سوريا، كما ورد عند الرحالة الفرنسي تافريينه، الذي سافر خلال القرن السابع عشر الميلادي. وكغيره من الأوربيين كان منحازا ومتحاملا على عمران المنطقة، فيصف القرى والبلدان بأنها (حقيرة)، ويبدو أنه ثمة أرضية موضوعية لهذا الوصف بسبب اندثار القرى العامرة شرق مدينة حلب: “إنك بعد أن تبتعد فرسخين (5 كم) أو ثلاثة فراسخ من حلب تدخل البادية فلا يقع نظرك على غير الخيم المنصوبة بدلا من المساكن المشيدة.” (تافريينه، 1944، ص17).
وفي رحلته الثالثة إلى الهند ومروره بحلب عام (1643م) وصف إحدى المحطات في الطريق: “وهو كهف يلجأ إليه غالبا البدو أو رعاة البقر الذين يعيشون عيشة الأعراب، إما في كهوف أو أكواخ حقيرة.” (تافرنييه، 1944، ص41)
كما أبدى في رحلته الضجر من العمارة السكنية في مدينة أورفا: “وأسوار المدينة مبنية من الحجارة وكذلك الشرفات والأبراج، أما البيوت ضمن المدينة فصغيرة الحجم حقيرة البناء، مهدمة”.
وتابع وصفه للعمران الريفي خارج أورفا: “غادرنا أورفا فحللنا بعد ست ساعات في قرية حقيرة فيها خان خرب، وفسقية ذات ماء نمير وهذا ما يرتاح إليه المرء في تلك القرية.” (تافرنييه ،1944، ص 49)
فمن المعتقد أن تدهورا وتراجعا قد حدث للعمران الريفي منذ مطلع العهد العثماني، باستثناء بعض التجمعات السكنية على الطرق وكذلك بعض الخانات التي تخدم المسافرين والقوافل. وعلى الرغم من هذا التراجع الموضوعي لا يمكن الاعتماد كليا على أوصاف الرحالة، والركون الى أمزجتهم وآرائهم التي قد لا تكون موضوعية ودقيقة بالضرورة، ولكن استعراض تلك الآراء، يساهم في رسم الصورة العامة للمحيط الريفي الذي ظل ومازال غير واضح في تفاصيله بالنسبة للدارسين.
ويبدو أن العمران الريفي تركز في المناطق الشمالية من الجزيرة الفراتية، تلك التي كانت قريبة من الهضاب الجبلية، وخاصة في المناطق التي تتوفر فيها مياه الينابيع والآبار السطحية. ويمكن الافتراض بأن العمران الريفي في تلك المناطق لم ينقطع، وذلك لجملة من العوامل، أبرزها توفر المياه واستمرار الفلاحة وتربية المواشي، أي وجود مجتمعات فلاحية متجذرة، فضلا عن ارتباط مجموعة من القرى مع مركز إداري في مركز مدينة قريبة. فقد استمرت القرى عامرة بدرجات متباينة من مرحلة الى أخرى، وخاصة على طول مسار الطريق الواصل بين حلب – ماردين – نصيبين – الموصل، إذ وفر لنا هذا الطريق معلومات متكررة لوصف الرحالة للعديد من القرى والمدن، والتي مازالت أغلبها قائمة حتى يومنا هذا، وسنوليها اهتماما خاصا، نظرا لأنها قرى تاريخية قائمة منذ أمد بعيد.
“من قرى منطقة درباسية”
فعند المسير بين مدينتي نصيبين والموصل ضمن المنطقة السهلية، ذكر تافرينييه قرية واحدة دون ذكر اسمها: “وقد مكثنا في هذه المدينة ثلاثة أيام بلياليها، لنتزود بالطعام الذي يكفينا حتى الموصل التي تبعد مسيرة خمسة أيام عن نصيبين لان المنطقة بين هاتين المدينتين مقفرة خالية من السكان، ولا يوجد الماء إلا في موطنين… سرنا عشر ساعات، ثم نزلنا قرية حقيرة لم نجد فيها ما نأكل.” (تافرينيه، 1944، ص 58).
أما في القرن الثامن عشر فقد وصف الرحالة الفرنسي أوليفية عمران مناطق شمال الجزيرة الفراتية، إثر مروره بكل من أورفا وماردين ونصيبين، مؤكدا أيضا على قلة عدد القرى، كاشفا عن بساطة أبنيتها إن وجدت، مدققا في تفاصيل عمارة مدينة نصيبين: “وهي ليست سوى قرية مزرية لا يكاد سكانها يبلغون ألف نسمة، معظمهم تقريبا من الأكراد والعرب، كما أن فيهم بعض الأرمن واليعاقبة الذين يعتاشون على مرور القوافل. والقرية هذه المشيدة على مقربة من النهر في موقع المدينة القديمة. أزقتها ضيقة جدا وغير متناسقة إطلاقا كما أنها ليست مبلطة البتة، والبيوت واطئة، وغير مريحة، وليست مشيدة بشكل جيد، تشتمل على فناء غير مبلط ولا مسيج، الحيطان من طين، والسقوف من قش، يضعون فوقها طبقة من طين يخلطونه بتبن اتقاء المطر.” (أوليفية، 1988، ص 31)
فمن الملاحظ بصدد نصيبين أنها تراجعت من مدينة تاريخية مهمة إلى قرية شيدت على أنقاضها، وكاستمرارية لها. وبصدد القرى فقد أشار أوليفيه إلى وجودها باقتضاب بين نصيبين والموصل، يسكنها الأكراد والعرب مع كثرة وجود قطعان أغنام الرحل. (أولييفيه، 1988، ص 39)
لكننا نجد أن أوصاف جميس بكنغهام لأطراف هذا الطريق العابر لشمالي سوريا أكثر دقة، مؤكدا وجود عدد كبير من القرى العامرة في مرحلة لاحقة، في اليوم الأول من تموز عام 1816م غادر نصيبين متوجهاً إلى الموصل عبر سهل سنجار، أي عبر نفس الطريق الواصلة بين حلب نصيبين – الموصل، فلفت نظره في البدء كثرة القرى في المنطقة: “كان طريقنا في السهل يتجه شرقي الجنوب الشرقي. فإلى يسارنا أو الشمال كانت ترتفع من التلال التي امتدت من مدينة دارا شرقاً وتقع في هذه السلسلة جملة من القرى لم نعرف أسماءها. أما إلى يميننا أو الجنوب فكان جبل سنجار الشاهق.” (بكنغهام، 1968. ص6)
لقد استمرت العديد من القرى في البقاء لعهود طويلة في مناطق شمالي سوريا، لكننا لسنا بصدد إحصائها أو ذكرها جميعا، وإنما سنختار عدة نماذج منها، للدراسة وللمقارنة بين خصائصها، من النواحي: المعمارية، مواد البناء وطرق الإنشاء، نمط الحياة السائد. وسنعتمد منهجا جغرافيا في دراسة نماذج من قرى شمالي سوريا، نبدأ فيه من أقصى الشرق، من ضفاف نهر دجلة وصولا إلى قرية جبرين الملاصقة لمدينة حلب في الغرب. وسنتطرق لبعض هذه القرى في أعداد المجلة القادمة
(مستل من كتاب سيصدر قريبا بعنوان: القرى الطينية في شمالي سوريا)
××××
المصادر والمراجع التي وردت في النص:
1- عماد عبد السلام العطار – الموصل في العهد العثماني – النجف 1975
2- رحلة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف. ترجمة: د. سليم أحمد خالد. بيروت – 2008
3- تافرنينه، العراق في القرن السابع عشر كما رآه الرحالة الفرنسي تافرنينه. ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد، بغداد – 1944
4- أوليفييه، رحلة أوليفييه الى العراق (1794- 1796)، ترجمة: يوسف حجي. بغداد – 1988
5- جيمس بكنغهام. رحلتي إلى العراق. ترجمة سليم طه التكريتي، الجزء الأول بغداد 1968.
[1]