#عفرين# (جبل الأكراد) … وجهة نظر بيئية…
د. فرهاد نعسان*
جبل الأكراد منطقة جغرافية تقع أقصى شمال غرب سوريا، وأقصى الجنوب الغربي من كردستان الجغرافية الطبيعية، وهي تقع في قمة مثلث – رأسه ممر بيلان التاريخي، وضلعاه – جبال الأمانوس من الغرب وجبال طوروس من الشمال، وقاعدته مفتوحة على الداخل السوري.
منطقة عفرين (جبل الأكراد) كانت النقطة الأخيرة من طريق الحرير -القادم من أقصى الشرق الصيني- والممر لكل الهجرات والحملات والغزوات القادمة من الشرق ومن الجنوب من بلاد الشام.
كانت هذه المنطقة على غير العادة تعج بالقلاع والحصون كونها تقع ضمن مناطق الثغور الشامية، والقلاع تدمر في الحروب ويعاد بناؤها من جديد.
حديثنا عن ثلاثة أمور متعلقة بمنطقة جبل الكُرد وجوارها:
1- الجانب الطبيعي البيئي.
2- الجانب السكاني.
3- الجانب المائي.
المنطقة كانت غنية بالغابات والمياه والأنهار، حيث أن كتب التاريخ تقول:
التجمعات السكنية كانت محصورة في محيط جبل الأكراد، بدليل أن القرى في محيط جبل الأكراد قد حافظت على أسمائها التاريخية منذ ألف سنة إلى يومنا هذا، مثل: سهل الجومة – جبال الليلون – كفر صفرة – تل سلور – شيح الدير- شيح الحديد- ماشحللا – تل ونهر عفرين – إعزاز – جارة – قيبار -كفر نابو – باسوطة، وغيرها الكثير من أسماء القرى، وكلها تقع في محيط الجبل – دون أن نصادف اسماً لتجمع سكاني في متن الجبل وداخله، ونستنتج من هذا أن جبل الأكراد كان منطقة غابية كثيفة وحشية، لم تصلح للاستيطان مباشرة، إلا بصعوبة، فهي كانت تعج بمختلف الحيوانات الضارية، وعلى رأسها الأسود التي كانت تهاجم البشر أحياناً حين تجوع أو لأسباب أخرى، حيث نجد في عهد الخليفة الأموي – الوليد بن عبد الملك – أن الناس كانوا يشتكون من أن الطريق إلى أنطاكية من المصيصة – تقطعها السباع والأسود، فكان أن أرسل الخليفة 4000 آلاف جاموس وجاموسة – فنفع الله بها.
ويصف أحد الشعراء من أيام دولة بني حمدان، وهو أحمد بن محمد العقيلي الأمير، في قصيدة طويلة طردية من 196 بيتاً، وصف فيها رحلة صيد له من حلب ونواحيها إلى سهل الجومة في منطقة عفرين، أقتبس منها بعض الأبيات:
يوم سرور كان في أرض حلب – – – طربت فيه طرباً على طرب
وقلت أين البازيار جعفر؟ – – – قيل بباب الدار، قلت يحضر
حتى ترى اللفة في التدوير – – – – – – – قائمة كعنق الطنبور
سقيا لعجار وما ولاها- – – – – – – طاب ثراها وشفى هواها
عليه أن حل بأرض الجومة – —– فهي عليه أرض مشؤومة
قالوا لنا: قد نزلوا بماشحلا – – – قلت لهم: حل بهم منا البلا
كم قد قتلت وسبيت الأرمنا —— والروم، لكن ليس للروم فنا
كما قلت قصيدة طويلة، ترد فيها أسماء بعض القرى (عجار –أرض الجومة – ماشحلا)، وذكر الأرمن والروم من سكان المنطقة، وذكر آلة الطنبور، ويذكر الشاعر كذلك أسماء الحيوانات التي صادفها في رحلة الصيد من حلب الى منطقة الجومة عفرين ) – والحيوانات هي كالتالي :
(القبج – الدراج – السكبج –الباشق-الصقور – الشاهين – الفهد – الباز –الكراكي – الغطراف-الحبارى-النمس-الحجل-النعام – الظباء-الغزال-الاسد)، غالبية هذه الأجناس من الحيوان مختفية ومنقرضة اليوم، وللدلالة أكثر، العديد من القرى في عفرين تحمل أسماء الحيوانات التي كانت منتشرة ولا نراها اليوم، مثل قرية حفتارو (الضبع)، قرى الجقليات (إبن آوى)، كلي بلنك (وادي النمور) في منطقة شيروا.
وقد قامت الرحالة البريطانية آن بلانيت- 1878م- بوصف الهجمة الأولى على هذا التنوع من الكائنات والحيوانات في رحلتها عبر المنطقة والبادية السورية، حيث تصف الأسد الفراتي النادر، الذي كان جزءاً أساسياً من أعلى الهرم الغذائي في البادية السورية، واصفةً هذه الأسود، بأنها من زمرة الأسود البابلية الخالية من اللبدة، وأنها من زمرة الأسود النادرة في العالم. إذ في ذلك الزمان – عام 1878- – خصصت الحكومة التركية مكافأة مقدارها ثلاثة جنيهات لكل جلد أسد ، يتم إحضاره، وبالفعل كانت هذه المكافأة، دافعاً لكل قبائل البادية باصطياد هذه الأسود النادرة، بأشكال وحشية، طمعا بالمكافأة، وهكذا تم إبادة فصيلة الأسود السورية النادرة بالكامل.
ومع استمرار الحكومات التركية المتعاقبة في تشجيع سياسة القضاء على البيئة بقطع مياه أنهار عفرين والنهر الأسود ونهر قويق، ومن ثم تجفيف بحيرة العمق بالكامل، وقبل هذا كان قد تم البدء بالقضاء على المساحات الغابية بقطع الأشجار الحراجية المتنوعة في جبل الكرد تحت حجج مختلفة، واستكمال إحراق ما تبقى من مساحات غابية اليوم بعد احتلال عفرين، الأمر الذي أدى إلى كارثة بيئية، تتعمق اليوم أكثر وأكثر، بالتصحر ونقص مصادر المياه، إن كان بالهطولات المطرية أو قطع مياه الأنهار بإنشاء السدود ونقص المياه السطحية الجارية وانخفاض سوية المياه الجوفية المخزنة، وتركيا عبر وكلائها تتابع اليوم نفس السياسة، بالإجهاز على ما تبقى من المساحات الغابية وحرقها بالكامل، وقطع أشجار الزيتون، بحجج مختلفة وبنوايا إجرامية ظاهرة وواضحة، لقطع ارتباط السكان الكُرد بأرضهم ومصادر رزقهم، ولإجبارهم على الرحيل.
ووفقاً لإحدى الإحصاءات الموثوقة، إن عدد الأشجار التي تعرضت للحرق والاقتلاع في ظل الاحتلال التركي تقدر بأكثر من 8 آلاف شجرة زيتون في مختلف أرجاء مقاطعة عفرين، والرقم مرشح للزيادة، بعد نهب واسع لمحصول الزيت والزيتون من الأهالي، وبآليات مختلفة للنهب والسرقة المباشرة والغير مباشرة، إضافة لإحراق أكثر من 5000 هيكتار من الأراضي الحراجية المزروعة بالأشجار الغابية النادرة.
فيما يخص الجانب البشري – الإنساني، كون المنطقة، منطقة ثغور وغزوات وممر إجباري للهجرات، نجد الكثير من الشعوب والأقوام قد تعايشت معاً في هذه البقعة الصغيرة، الأكراد والعرب والتركمان والسريان والأرمن والبيزنطيين والفرس، المسيحيين والمسلمين واليهود والإيزديين، إذ أن المناخ ووفرة المياه والغابات جعلت من المنطقة جنة من جنان الأرض، وكانت قرى المنطقة وقلاعها من مصايف الملوك والخلفاء والأمراء، من أمراء الدولة الحمدانية والخليفة هارون الرشيد، والملك الكردي الأيوبي الظاهر غازي في قلعة الراوندان على نهر عفرين، قلعة جنبلاط في إعزاز وتوجد قلعة أخرى تحمل نفس الاسم في الجانب التركي من الحدود، وهم من أجداد عائلة جنبلاط الدرزية المعروفة في لبنان.
للأسف اليوم، لم يبق سوى أطلال للقلاع على ذرى كل جبل، وكل مرتفع من مرتفعات جبل الكُرد، وهي عبارة عن أطلال (كلوشكة) تدل على آثار أمجاد غابرة.
لدي إحصائيتان مثيرتان للاهتمام، أقدمهما دون المسارعة إلى الاستنتاجات، يذكر المؤرخ الروسي لوتسكي في كتابه «تاريخ الأقطار العربية»، في نهاية القرن الثامن عشر، بسبب الحروب المتكررة والفتن الإقطاعية والجفاف تدهورت الزراعة وأوضاع الفلاحين إلى أدنى حد في إيالة حلب، ولم يبق فيها سوى /400/ قرية من أصل /3200/ قرية كانت موجودة منذ القرن السادس عشر. والاحصائية الثانية، ذكرها أيضاً الكاتب والمؤرخ الروسي مينورسكي في كتابه الثمين بعنوان «الاكراد» وجود أكثر من /1000/ قرية كردية في ريف حلب عام 1915م.
وفي الحديث عن جبل الكُرد، وهي منطقة كردية خالصة، غالبية القرى تحمل أسماء كردية خالصة، وبعضها تدل على أسماء الأشخاص الذين ارتبط بناء القرية بهم وبأسمائهم، مثل قرى (حسن، خليل، ملا خليل، حج خليل، حسن ديرا، كيل إيبو، علي جار) وغيرها، وكذلك بأسماء العشائر الكردية التي انحدرت منها أصول السكان، مثل (شيتكان، ميركان، خرزان، سينكان، ممالان)، فالتركيبة السكانية في المنطقة بقيت ثابتة بأغلبية كردية مطلقة وساحقة، إلا أننا وفي هذه الأيام نشهد سياسة ممنهجة محمومة تنتهجها الدولة التركية المحتلة الغاصبة لمنطقة جبل الكُرد، وذلك بمحاولة إفراغ المنطقة من السكان المحليين الأصليين عن طريق سياسات القتل والاختطاف والابتزاز وقطع سبل العيش وموارد الرزق وإسكان عناصر غريبة عن المنطقة بالكامل، بجريمة واضحة المعالم لتغيير وجه المنطقة الديموغرافي والتلاعب بالتركيبة السكانية.
الدولة التركية الحديثة وبسياستها الممنهجة، ما هي إلا استمرار لتلك السياسة بأشكال أكثر وحشية، من قطع الأشجار ومحو الغابات وإبادة الغطاء النباتي، وصولاً إلى الهدف الغير معلن بتصحير المنطقة وتفريغها من السكان الأصليين.
المحور الثالث -عن المياه في منطقة عفرين التي كانت غنية جداً بمختلف أنواع مصادر المياه التي عداً عن كونها مصدراً ومنهلاً للشرب، امتلكت خواصاً علاجية عجيبة وغريبة، ومنها ما تحدث عنها بالتفصيل المؤرخ الحلبي إبن العديم في القرن الثاني عشر ميلادي.
1- مياه منطقة الحمام الكبريتية، كانت تمتلك خواصاً علاجية لمعالجة الكثير من الأمراض الجلدية والباطنية، حيث جفت مياهها منذ عدة سنوات فقط.
2- نبع شيح الحديد والعقرب، ويذكر ابن العديم في الخواص العجيبة لمياه هذا النبع ضد لسعات العقارب،
حيث أن قرية شيح الحديد (قرية شية) لا يوجد بها عقارب أصلاً، وأن الرجل من أهل شيح إذا غسل ثوبه في مائها ثم خرج إلى موضع آخر، فوضع على ثوبه ماء وعصر، فشربه من لدغته عقرب، بريء من وقته، وإن قطر منه على عقرب ماتت، في الحالة الراهنة هذه النبعة موجودة إلى يومنا هذا، ويذكر الثقاة من أهل القرية أنه كان هناك حجر كبير عليه رسم العقرب على مخرج النبع، ضاعت آثاره منذ عدة سنوات فقط.
3- بئر الكلب وكان من عجائب الدنيا، وقيل قديماً، عجائب الدنيا في حلب ثلاث : قلعة حلب، وجب الكلب، ونهر الذهب، أما جب الكلب فهو جب في قرية كانت تعرف بجب الكلب وتقع قرب قرية قبتان الجبل، على حدود منطقة شيروا – عفرين، اليوم هي خربة، في زمن ابن العديم، كان الذي يعضه الكلب ( المصاب بداء الكلب) يأتي إلى هذا البئر فيغتسل، فيبرأ، وقد بطل الآن مفعولها أي مفعولها العلاجي.
بحيرة العمق التي كانت تقع أمام فتحة ممر بيلان التاريخي، والتي كانت تصب فيها أنهار عفرين والنهر الأسود ونهر يغرا الذي ينبع من قرية تل سلور، ومن بحيرة العمق يخرج نهر ليرفد نهر العاصي.
تركيا جففت بحيرة العمق بين أعوام 1940 -1970.
تركيا قطعت نهر قويق عن مدينة حلب.
تركيا قطعت نهر عفرين.
تركيا قطعت النهر الأسود.
تركيا سببت كوارث بيئية كبيرة بتخفيض مستوى مياه أنهار الفرات ودجلة، عبر بناء عدد كبير من السدود على مسار وروافد هذه الأنهار التاريخية العظيمة، التي كانت جزءاً أساسياً من كل الكتب السماوية (التوراة والإنجيل والقرآن) تشبيها لها بأنهار الجنة.
وأخيراً أختم معكم، البادية السورية اليوم صحراء قاحلة، وهي كانت جنة غناء من أيام حضارة تدمر وزنوبيا،
والصحراء تزحف رويداً رويداً إلى حدود المدن والحضر.
ذكر المؤرخ – العظيمي، قبل حوالي ألف عام (315 هجري) أن نهر دجلة والفرات قد تجمدتا، حتى مشت عليها الدواب، واليوم نجد نهر دجلة ونتيجة سياسة الدولة التركية في تخفيض منسوب المياه، حتى مشت (عبرها) البشر والدواب.
المراجع والمصادر:
1- تاريخ حلب – العظيمي الحلبي – القرن الثاني عشر ميلادي.
2- بغية الطلب في تاريخ حلب – ابن العديم – القرن الثاني عشر ميلادي.
3-د محمد عبدو – عفرين.[1]