ازهر العبيدي
باحث وكاتب
يتشاءم الموصليون من ذكر القطار في احاديثهم، فقد ارتبطت سنة قدومه الى #الموصل# باحداث مؤلمة، بقيت في ذاكرتهم فترة طويلة، إذ قتل الملك غازي سنة وصول القطار الى الموصل، وقد كان محبوباً من الشعب، ومات شاب في مقتبل العمر في حادث غرق في بركة ماء قرب باب سنجار، عندما تجمع اهالي الموصل خارج المدينة لاستقبال القطار القادم من تل كوجك في ربيع عام 1936م.
إذ اراد هذا الشاب استعراض بطولته امام هذا الجمع الكبير، فدخل الى وسط بركة الماء حتى غاص واختفى في عمقها، ولم يستطع احد انقاذه.
وعندما وصل القطار كان صراخ صفارته يصم الاذان، بصوت مخيف ارعب عددا من العامة البسطاء، وكان العمال يفحصون السكة امام القطار بمطارق حديدية، ويتأكدون من ثبات العوارض الخشبية تحت السكك الحديد خلال سير القطار، وطغى الحادث الاليم وهو غرق الشاب على الفرحة بوصول القطار لأول مرة.
وفي سنة 1936م وضع الحجر الاساس في بيجي لانشاء خط سكة حديد بيجي- الموصل، وانجز العمل وافتتح الخط في 15 -07-1940، واصبح يربط بغداد بالموصل.
وكان الانكليز قد اوصلوا خط السكة الحديد الى بلدة الشرقاط عام 1918م في اثناء الحرب العالمية الاولى، خلال تقدمهم خلف الجيوش العثمانية المنسحبة نحو الشمال. ورفع هذا الخط الممتد من الشرقاط الى بيجي خلف الجيوش العثمانية المنسحبة نحو الشمال، ورفع هذا الخط الممتد من الشرقاط الى بيجي عام 1927م بموافقة الحكومة العراقية.
لقد كنا في ذلك الحين معتادين على تحمل وهج الحر وقز البرد، دون الحاجة الى استخدام اي من وسائل التدفئة او التبريد. فالملابس الثقيلة والخفيفة هي العوض، فضلا عن الاغطية في البرد، والمراوح المبتكرة والبسيطة في الحر.
بهذه البساطة التي تعودنا عليها، كنا نسافر ذهابا وايابا من الموصل الى بغداد بالقطار القديم الذي يعمل بالفحم الحجري والبخار.
عرفنا القطار في الاربعينات والخمسينات متكونا من القاطرة الانكليزية (المكينة) التي تسحب القطار ذات الصوت العالي المتناغم (جك – جك – جك)، وعربات الركاب (الفاركونات) من الدرجة الثالثة والثانية والاولى، تتكون عربات الدرجة الثالثة من عربة حديدية ذات شبابيك زجاجية متركة نحو الاعلى والاسفل. تغطيها شبابيك خشبية (بنجور) لمنع دخول اشعة الشمس، يفتح المسافرون هذه الشبابيك ويغلقونها طوعا وعند الحاجة.
مقاعد هذه العربات خشبية تتوزع يمينا ويسارا، وكانت على نوعين كبيرة وصغيرة، الكبيرة منها تتسع لنوم شخص واحد، وجلوس ثلاثة اشخاص، والصغيرة تتسع لجلوس شخصين فقط، او لنوم شخص واحد وهو بوضع الجلوس، وهناك رف خشبي طويل على جانبي العربة، يستعمل لوضع العفش والحقائب الحديدية والجلدية عليه، ويستخدم للنوم المريح ايضا من قبل المسافرين والاطفال.
لايوجد تبريد في العجلة صيفا، اما في الشتاء فتدفأ بوساطة البخار الحار عن طريق انبوب يمر من بداية العجلة حتى نهايتها يسمى (السديم)، وهذا البخار تولده قاطرة القطار ذاته في اثناء اشتغالها، توجد عتلات حمر على جدار العجلة داخل اطار زجاجي، مكتوب على الزجاجة (لغرض ايقاف القطار اكسر الزجاجة واسحب السلسلة – يغرم من يوقف القطار بدون سبب مبلغ خمسة دنانير).
اما عربات الدرجة الثانية فقد كانت مخصصة للموظفين والضباط والوجهاء، تتكون من غرف في كل منها سريران احدهما منخفض يستعمل للجلوس ايضا والثاني مرتفع، وكانت عربات الدرجة الاولى مشابة لعربات الدرجة الثانية، ولكنها اكثر منها رفاهية وراحة، وتخصص لكبار الموظفين والاثرياء، اما ما يخص التكييف فهي مثل الدرجة الثالثة، وتلحق بالقطار عربة حمل للعفش والحمولات الخفيفة والمتوسطة، وتسمى العربة الضابطة، مقسمة بوساطة قطوع حديدية الى حانوت وغرفة للمفتش وغرفة صغيرة لمأمور سير القطار او (مسؤول القطار).
كان القطار يتحرك من بغداد الى الموصل صاعدا، ومن الموصل الى بغداد نازلا، وفي وقت واحد هو الساعة الثامنة مساء يوميا حسب جدول مواعيد السير التي لا يسمح بتغييرها. وكان الحجز يتم بان يرسل كل مسافر ولده منذ العصر في حوالي الساعة الرابعة لحجز الكراسي الكبيرة اولا وفي العربات الامامية من القطار، وقبل من يحجزها الاخرون فهي اقل اهتزازا من العربات الخلفية. اما قطع التذاكر (البطائق) فيتم مساءً قبل حركة القطار بساعة واحدة، وهكذا كان الاطفال يعانون من الحر والعطش والارهاق في الصيف، ومن البرد في الشتاء عدة ساعات ولكنهم يتلذذون بجلوسهم في عربة القطار التي لا يشاهدونها اكثر من مرة في السنة او ربما في عدة سنوات.
قد لا يمتلئ القطار بالركاب إلا في ايام الاعياد، فلم تكن العطل كثيرة، ولم يكن الموظفون او الطلاب او العسكريون بالكثرة التي تجعل القطار مليئا. فاغلب هؤلاء يعملون قرب اهليهم دون حاجة للسفر والغربة. وعندما يكون هناك قطار نهاري مزدحم، يضطر عدد من الركاب الى الاستقرار فوق العربات في الهواء الطلق وسط الدخان المنبعث من القاطرة، والتراب المتطاير من سرعة القطار، كما يهرب عدد آخر الى سطح القطار تخلصا من دفع اجور السفر التي كانت ضئيلة.
بدأ المسافرون بالوصول الى المحطة بسيارات الاجرة او بالعربات التي تجرها الخيول على الاغلب، او بسيارات خاصة وهي قليلة في ذلك الحين، يحمل المسافرون معهم حوائجهم في حقائب (جنط) حديدية وجلدية بالحجام مختلفة، فضلا عن فرش نومهم من البطانيات والمخدات وعلى شكل رزم اسطوانية، او على شكل رزمة كبيرة اذا كانت كثيرة.
ويحملون كذلك متاعهم او طعام السفر، فضلا عن الهدايا (الصوغات) التي سيقدمونها الى اقاربهم او اصدقائهم او الشخصيات الرسمية التي سيزورونها في بغداد، وتتألف الصوغات من الحلويات كالبقلاوة والحجي باده والشكرلمة والحلقوم والسجق (- القاضي) والمعكرونية ومن السما والملبس. وهذه توضع داخل صفائح كبيرة من الزنك، او في علب اسطوانية خشبية باحجام مختلفة، وتتألف الهدايا كذلك من الاطعمة المعروفة في الموصل، مثل الكبب الكبيرة وعروق التنور والباسطرمة – الخ، كما قد تكون من النقل (الكرزات) مثل الفستق والجوز والبندق والبطم والحبة خضراء والكازو وفستق العبيد، ويختار الموصلي اجود انواع الكرزات واغلاها. وكذلك الزبيب الاحمر والاسود، وقلائد التين الواردة من سنجار، وتوضع هذه المواد داخل اوعية من الخوص (زنابيل) صغيرة وكبيرة، ويوضع فوقها غطاء من القماش تخاط حافاته بحافات الزنبيل لمنع سقوط المحتويات اثناء النقل.
وفي الصيف ياخذ المسافرون البطيخ الالقوشي داخل الزنابيل او الاكياس، وعكوس الشمزي (الرقي) الكبيرة التي يبلغ طول الواحدة منها حوالي متر وقطرها حوالي 30 سم، وكذلك الطرشي من البائع المعروف طه الملك داخل صفائح، فضلا عن العسل الجيد والزبد والجبن والقشطة (القشفي)، واللبن الخائر (الرائب) في فصل الربيع داخل اكياس من الخام الابيض في صفائح التنك.
وهكذا فان المسافر من الموصل يحمل معه اثقالا واحمالا من الهدايا اكثر من حاجياته الخاصة، وتتطلب منه جهودا كبيرة حين التنقل من مكان الى اخر، من ايصالها الى القطار، ثم انزالها في محطة بغداد عند الوصول، ثم تحميلها في السيارة او العربة وصولا الى المكان المقصود داخل المدينة، ويتمسك اهالي الموصل بهذه العادة الكريمة، مرهقين انفسهم وجيوبهم في اعداد هذه الهدايا.
تمتليء محطة القطار مبكرا بعدد كبير من المسافرين مع اقاربهم والمودعين لهمن وعدد كبير من الشبان الذي يتسكعون جيئة وذهابا للترويج عن النفس، وقبل الساعة الثامنة بخمس دقائق يدق ناظر المحطة الجرس الكبير معلنا عن قرب حركة القطار، فيودع المسافرون اولادهم واقاربهم واصدقاءهم الذين حضروا الى المحطة، مشيعيهم بالسلام: (ايليقيكم الخيغ) اي يلقاكم الخير – (تفوحون وترجعون بالسلامي) اي تذهبون وترجعون بالسلامة – سالمين وغانمين – الله معاكم – (الله يشافيكم وترجعون بخيغ وعوافي) دعوة للمرضى بالشفاء – (سلمونا على بيت ابو فلان وبيت ابو فلان) ايصاء بالسلام على اهل بغداد – (ان شاء الله تفوحون سالمين وترجعون غانمين) – سيمي بالكي علولاد) توصي الام كنتها او ابنتها بان تحافظ على الاطفال، اي انتبهي للاولاد – (لا تنسون شيء لما تنزلون) توصي الام المسافرين بالانتباه الى عفشهم عند النزول من القطار لكي لا ينسوا شيئاً.
وفي الساعة الثامنة تماما يصفر القطار عدة صفرات، ثم يتحرك بطيئاً – بطيئاً باشارة مصباح اخضر من مأمور السير، ويكون المسافرون كافة قد اخذوا اماكنهم، وهم يلوحون بايديهم لمودعيهم، ترتج عربات القطار الى الامام والخلف اثناء حركة القطار من جراء تمدد النوابض، ويمر القطار بمحلة وادي حجر اولا، ثم بمعسكر الغزلاني، ثم معمل السكر والمدبغة، ثم بقرية البو سيف، ونفق البو سيف (اللقم).
ومن الحكايات الطريفة التي يتداولها الاطفال عن اللقم، ان من يخرج رأسه من الشباك، فان رأسه يقطع او يخنق بالدخان المتصاعد من القاطرة، وتغلق الشبابيك قبل دخول النفق لمنع دخول الدخان الى داخل العربات.
بعد خروج القطار من النفق يقترب من ناحية حمام العليل (حمام علي)، ويباشر المفتش (التي تي) كما يسميه العامة (ومعنى تي تي مأخوذ من الانكليزية وهي Ticket – Collector اي جامع البطاقات ومختصرها T T) بفحص بطاقات الركاب قارضا اياها بقارضة صغيرة، ويغرم الركاب الذين سينزلون في حمام العليل، ذلك ان اغلبهم لا يقطعون تذكرة املا في النزول قبل صعود المفتش، وقد يغرم الاطفال الذين يكونون مع ذويهم ولم تقطع لهم تذكرة بحجة كونهم اطفالا.
يتمايل القطار في اثناء سيره يمينا ويسارا بسبب عدم توازن السكة، وتمدد النوابض وتقلصها، ويصعب على المسافرين شرب الماء دون ان ينسكب جزء منه على ملابسهمن ويصعب عليهم المشي داخل العربة ما لم يستندوا الى الكراسي او الرف الخشبي للقطار اثناء سيرهم.
يصل القطار الى حمام العليل فيترجل عدد كبير من الرجال والنساء والاطفال، حاملين على رؤوسهم الصور (البقج) واواني الحمام النحاسية، والفرش التي سينامون عليها هناك، بعد ان يكونوا قد استاجروا بيتا او عرزالة (عغزيلي).
وعرفت منذ ذلك الحين الاغنية الشعبية (صاح القطار قومي انزلي – كوي اوصلنا حمام علي) وهي تتغنى بالقطار والحمام وحين ممارسة العادات الشعبية في حمام علي.
وبعد ان كان القطار مزدحما صاخبا، يصبح خاليا بعض الشيء من الركاب ومن ثمة من الضجيج، وخاصة اذا كان القطار نهاريا، اذ ان ركاب محطة حمام العليل يشكلون الغالبية العظمى فيه، وبعد نزول الركاب يحتل كل مسافر من الباقين مقعدا خاصا به لا يشاركه فيه احد.
يصعد الى القطار من حمام العليل باعة الشاي، حاملين اواني الشاي والقواري مع البريمزات او الفحم، لبيع الشاي للمسافرين بسعر عشرة فلوس. وكم من حريق احدثه باعة الشاي في القطار ذهب ضحيته اناس ابرياء.
بعد حركة القطار يخرج المسافرون طعامهم (المتاع) من الصرة او الزمبيل، ويتكون الطعام من النواشف المؤلفة من عروق التنور او كبة الموصل او عرق الطاوة (الشفتة) والحم المقلي او المشوي.. الخ، ويقدم كل مسافر الطعام الى المسافر القريب منه، ولابد ان يشارك كل منهم زميله في الاكل وهي عادة محببة تعبر عن الكرم، وبعد تناول الطعام اللذيذ يشربون الشاي من البائع.
وفي الصيف تعلق شربات الماء خارج شباك القطار، مما يجعل ماءها بارد كماء الثلج بتأثير هواء الليل البارد، فيشربون منها بين حين وآخر.
وبعد مسيرة قليلة يصل القطار الى محطة الشورة، ومن بعدها القيارة ثم الجرناف وتلول الباج، وهي التلول التي كان اصحاب المواشي يدفعون فيها الضريبة (الباج) عن كل رأس من مواشيهم، ويسميها جمع من الناس خطأ ب (تلول البق).
وفي محطة بيجي (بعيجي) التي تقع في حوالي منتصف المسافة الى بغداد، يتوقف القطار النازل مدة طويلة نسبيا، قد تبلغ اكثر من ساعة منتظرا القطار الصاعد من بغداد ليتبادلا السكة، فالسكة الموجودة مفردة ولا تسمح إلا بحركة قطار واحد وتسمى الخط المنفرد. وفي محطة بيجي تباع الاطعمة والبارد والشاي، وينزل في هذه المحطة الباعة من القطار النازل ليركبوا القطار الصاعد عائدين، وبهذا فهم يبقون في منازلهم نهارا، ويعلمون ليلا في القطارات.
ومن المعتاد ان يركب في القطار بين المحطات عدد من الركاب، وهم في الاغلب من الاغراب سكان القرى، وقد لايجد معظمهم اماكن لجلوسهم او نومهم، فيضطرون الى الانزواء في احد اركان القطار على الارض والرفوف ملتفين بفرواتهم، او النوم بين المقاعد على الارض ايضا، وكذلك يفعل معظم الركاب فيفترشون الارض بالبطانيات وينامون حتى الصباح، او يرتقون الى الرف المخصص للعفش فينامون فوقه – ويركب في القطار بين المحطات ايضا الباعة ينادون على بضاعتهم مثل: - السكاير، والسندويج، والحب والكرزات، والحلويات والعلك، والبارد في الصيف داخل دلاء (سطول) الماء البارد المثلج.
وبعد وصول القطار الصاعد، يتحرك قطار الموصل بعد اطلاق عدة صفارات باتجاه تكريت وعند توقفه فيها يركب عدد من المسافرين الذين لايجدون على الاغلب مكانا لجلوسهم سوى الارض، وقد تنشب معارك حامية بين الركاب القدماء والركاب الجدد، تستعمل فيها الايدي و (اليشامغ) و(العكل) والشتائم، يتحشد فيها اهل الموصل ضد الاغراب، وبعد تكريت يعبر القطار جسر الثرثار نحو سامراء، ومن بعدها الى بلد، حيث يكون ضياء الصباح قد انبلج.
وبعد بلد يصل الى المشاهدة ثم الدجيل، ثم التاجي التي يكثر فيها دخان المداخن العالية لمعامل الطابوق، فضلا عن الصرائف والمياء الاسنة، واناس يعيشون وسط هذا الجو عيشة غير صحية.
وعند وصول القطار الى سامراء، يكون قد قطع ارضا قاحلة صحراء موحشة لا نبت فيها، تمتد من الشرقاط حتى سامراء، ويثير القطار صيفا الغبار الذي يدخل الى العربات ، مما يؤدي الى تغطية الركاب بالغبار من رأسهم حتى ارجلهم، وبعد سامراء تكثر اشجار النخيل التي تملأ المنطقة حتى بغداد، وهي تحمل عذوق التمر الاصفر، وبساتين الكروم والرمان.
وبعد وصول القطار الى محطة الكاظمية يكون قد وصل الى مشارف مدينة بغداد، اذ يدخل محطة قطار بغداد العالمية في الساعة الثامنة، بعد 12 ساعة من ترك مدينة الموصل، وفي المحطة يترجل الركاب مع احمالهم حيث يقف عدد كبير من الحمالين مع عرباتهم الخشبية.
متطلعين الى اشارة واحدة من الركاب لكي يحمل واحدهم العفش لقاء اجر خيالي، ولكن الراكب الشاطر لا يقتنع بسهولة بمبلغ الاجرة الذي يطلبه الحمال، وبعد مناقشات طويلة يتم تقليل السعر العالي الذي طلبه الحمال الى سعر معقول، وقد يتجنب جمع من الركاب هذا المأزق فيحمل اثقاله مهما كان حجمها ووزنها الى خارج المحطة.
وامام محطة القطار يقف عدد كبير من سواق السيارات مع عجلاتهم، فضلا عن الباصات الخشبية وعربات الخيل، وتجري مناقشات طويلة مع الركاب حتى يقتنعوا بالسعر المعقول.. فقد اعتاد هؤلاء السواق على طلب اسعار عالية، يريدون بها ان يعوضوا الوقت الذي صرفوه في الوقوف في انتظار وصول القطار، اذ انهم يقفون في هذا المكان منذ الصباح الباكر، وبعد ان يتفق المسافر مع السائق، مؤكدا عليه ان يوصله حتى باب بيت اقاربه او الفندق الذي يقصده، يتم تحميل اثقال المسافر في صندوق السيارة وفوقها، وتتجه السيارة بعد ذلك خلال شوارع المدينة الجميلة نحو دار اقارب المسافر.
ويتم استقبال المسافر من قبل اقاربه بالمصافحة والقبلات، قائلين له: (الحمد لله على السلامة – عاش من شافك – هاي وين انتو – شلونهم اهل الموصل – شلونا ابو فلان وام فلان – يمعود هاي انت ليش اتكلفت وجبت هالشي (يقصدون الهدايا) – هذا بيتك والله امبدالك ... الخ)، وكلما كانت الهدايا كبيرة كان الترحيب اكبر، وقد اعتاد الموصليون النزول في بيوت اقربائهم في الماضي، او في احد الفنادق في شارع الرشيد مثل فندق حسيب وفندق الرشيد الكبير، تلك التي يديرها اناس من المواصلة. اما الان فهم يؤمون فنادق الدرجة الاولى وفنادق شارع السعدون.
ويصل القطار الصاعد من بغداد الى الشورة مع الضياء الاول، ويستمر في سيره الى حمام العليل، ثم الى الموصل وسط مروج خضر في فصل الشتاء والربيع، وتتلألأ قطرات المطر عند سقوط اشعة الشمس عليها. ويدخل القطار الى نفق البو سيف فيظلم الجو بعد ان كان مضيئا، ثم يسير بمحاذاة نهر دجلة حتى دخوله مدينة الموصل، وهو يطلق صفارات متوالية ايذانا بالوصول، وتحذيرا للمارة والسيارات عند تقاطع السكة مع الشوارع.
وعند توقف القطار في المحطة يترجل الركاب حاملين امتعتهم مع ما اشتروه من بغداد هدية لاسرهم، مثل رمان كربلاء الخوشي داخل زنابيل محيطة، وعتوق التمر البرحي الذهبية داخل زنابيل ايضا. وكذلك برتقال ديالى الحلو المذاق والغزير الماء، والعنب بانواعه، ويستقبل المسافرون اولادهم الذين يكونون في انتظارهم منذ الصباح الباكر، فيحملون امتعتهم متجهين الى العربات التي تنتظرهم خارج المحطة، ويذهب عدد من المسافرين الى بيوتهم سيرا على الاقدام، ان كانت قريبة من المحطة في الباب الجديد او محلة العكيدات او الطوافي او باب البيض.[1]