#صباح كنجي#
#هوشنك بروكا# شاعر وناقد جريء غير مجامل يكتسبُ مع الأيام المزيد من القراء والمتابعين لبحوثهِ ودراساتهِ ومقالاتهِ التي يصبها في قالب أدبي/ فكري فيهِ الكثير من السخرية اللاذعة والممتعة في ذات الوقت..
تابعته منذُ منتصف التسعينات حينما استنجدَ بي صديق قريبٌ لهُ طالباً مساعدتي في إرسال ديوانه الشعري باللغة الكردية من دمشق بعد أتمام طبعه دون ترخيص ومواجهته لصعوبات أمنية تمنع شحنه لا يعرف كيف يذللها أو يتجاوزها...
كنت حينها أساعد العاملين في مكتب دمشق في شحن أعداد الثقافة الجديدة وبقية مطبوعات الحزب الشيوعي بما في ريكاي كوردستان غير المرخصة أيضاً بينما كانت الطريق والثقافة الجديدة مرخصتين..
أخذتُ نسخ الديوان وأعددتها في صناديق للشحن.. وتوجهت الى بناية البريد المركزي بالقرب من جسر فيكتوريا...بعد ان أنجزت نصف الإجراءات الروتينية تقدم نحوي الموظف الأمني مستفسراً:
شو هالكتاب؟!!
أجبته ببرود مفتعل:
ديوان شعر باللغة التركية..
وين مطبوع؟..
لا أدري.. قد يكون في المانيا.. لأن الشاعر صديقي مقيم هناك وأرسل هذه النسخ لأوزعها له على الأصدقاء.. وتابعتُ معللاً .. للأسف لا وقت لي ..سوف أعيدها له.. وأضفت للتأكيد على ارجاعها.. شاعر بطران نحن في الشام من يقرأ التركية؟!!...
أخذ نسخة للتدقيق بعد أن أوقف إجراءات الشحن.. وعاد بعد ربع ساعة ليقول..
هذا ديوان شعر بالكْرْدي... فعقبت فوراً بلا تردد..
كردي.. تركي.. لا يفرق.. ليس لدي وقت سأعيدهُ له...
وبعد تقديم نسختين هدية مع عدد من الأوراق النقدية من فئة 500 ل.س.. تم ختم الصناديق ودفعت لتشحن... هكذا كان أول عهدي به ..
في المانيا بعد سنتين ألقيته وعرفته عن قرب.. عرفت هوشنك المثقف.. وهوشنك الإنسان.. وهوشنك الناقد..
هاهو يشد الرحال الى كردستان.. يزورها لأولِ مرة بدعوةٍ من اتحاد الكتاب في دهوك.. لكنه لم يكتفِ بهذا.. توجه الى سنجار وزار الشيخان وبعشيقة وبحزاني واربيل .. التقى بالأحزاب والمثقفين والمواطنين في أجواء مثالية تجاوزت درجات الحرارة فيها الخمسين فكانت انتفاضة البصرة.. من هذه الأجواء أتاني صوته مستفزاً ..
أحدثك من بلد الزيتون..
إذن وصلت الى بحزاني وبعشيقة.. وكان بيننا كلام مختصر وجميل قلت محدثاً نفسي سأنتظر عودته لأحاوره في شأن هذه الزيارة فكانت الأسئلة التي تشغلني
س1..
هوشنك زرت كردستان لأول مرة.. حدثني عن انبهارك ومشاهداتك.. عن رؤيتك لكردستان وإحساسكَ العاطفي بها.. اعطني فكرة طبوغرافية عن تحركك أولا ً...
سؤالك يحيلني إلى سؤال الوجود الأول أو ربما الإنوجاد الأول؛ الأول من إنوجادٍ حاسمٍ ما، في زمانٍ حاسمٍ، أو لحظةٍ حاسمةٍ ما. هو سؤال انطباعي بإمتياز وجداً. سؤال في الإنطباع وأخباره الأولى. هو سؤال سريع ربما يفترض إجابةً سريعةً. سأبدأ بالأول من اللقاء بيني أنا الكردي الخارج على كردستان من جهة، وبين الأول من داخلها من جهة أخرى. سأبدأ بالأول من وجودي الإنطباعي في الأول من سمائها. كان ذلك في الأول من الفجر، قبل أن تهبط طائرة إير برلين، بنا نحن مرتادي كردستان الفاخرة، أو التي من المفترض لها هكذا أن تكون، في مطار هولير الدولي بدقائق. عبرنا الأول من اللقاء الإنطباعي على أية حال، مع كردستان المنتظرة، على ظهر جملةٍ أخيرة اختتم بها الكابتن وداعه الكثير الذي من الإيتيكيت وما وحوله، قائلاً: أترككم للإستمتاع بهولير الجميلة في ليلها الجميل! كانت هولير ليلئذٍ جميلةً فعلاً؛ جميلة المكان وليله بلا منازع. بدت هولير لي، لكأنها كل الليل وبعده.
هوليرئذٍ التفتت إليّ الصديقة الشاعرة بيلكَه سومر مبتسمةً، تقول: هولير جميلة. فأومأت برأسي بنصف ابتسامة: نعم هي فعلاً جميلةٌ في الليل، ومن السماء بخاصة..أتمنى لها أن تكون كذلك في النهار وعلى الأرض أيضاً.
هكذا كان الأول من إنبهاري بالأول من كردستان في سماء هولير الجميلة في ليلها.
ولكن ماذا عما بعد هذا الأول من الإنبهار: كردستان ما بعد الليل، وما تحت السماء؟
شخصياً(لا أدري إن هو لحسن حظي أم لسوئه)، لستُ مؤمناً بنظرية الحب من أول نظرة، أو الوقوع في فخاخ الوجود الأول، والقلب الأول، والإله الأول من النظرة الأولى. فأنا لا أحبّ من أول نظرة، كما أني لا أرتكب الكتاب والكتابة من أول نظرة أيضاً.
تعلمت هذا من نظرتي الحرام الأولى، التي أوقعتني في فشلٍ حلال، كاد أن يساوي حياتي وما بعدها.
في الأول من الشمس، كان لي والصديق خيري بوزاني لقاءٌ طويل مع هولير المكان؛ هولير القلعة وما حولها، هولير الخمس نجوم، والخارجة على كل النجوم؛ هولير الفوق فوق والتحت تحت؛ هولير ما تحت الشمس وقيظها؛ هولير النهار المزدحم، العارية من كلّ ليلٍ.
النهار وضجيجه عرّى هولير، سيدة المكان الكردي الأولى هناك.
الأول من الصدمة أو صدمتي، كانت في هولير الرسمية، هولير الفوق الرسمي بإمتياز. هناك، في أعلى مكانٍ رسميٍّ من مكاناتها الرسمية، صُدمت بالأول من عريها الرسمي.
كان ذلك في رحاب وزارة الأوقاف والشئون الدينية؛ الوزارة التي من المفترض بها أن تلتقي فيها كل كردستان، الكثيرة بآلهتها وأديانها، تحت سماءٍ واحدة، والتي يُتوقَع منها، حسب نضال نزلاء يان كردستان يان نمان، المنتمين إلى أصول آلهةٍ مختلفة، أن تجتمع فيها كردستان الدين الكثير في وطنٍ واحد.
ولكن الوزارة كانت خارجةً عن كل توقع، لكأنها وزارةٌ لدينٍ وحدٍ، يريد لها الوزير المسلم أن يجعلها وزارةً إسلامية خالصة، وزارةً نقيةً من الشوائب الدينية الأخرى، ربما تحقيقاً لمقولة القرآن الواحد: إنما الدين عند الله الإسلام.
أجل، اللامتوقع في ذاك النهار الرسمي، الذي جاء بعكس متوقع هولير الجميلة النائمة في ليلها الجميل، قبل ساعات، كان في هولير الأوقاف، هولير الوزير الواحد للدين الواحد؛ المكان المفترَض الرسمي لشئون أديان كردستان كلها، وتحديداً في دهاليز الأقليات اللامسلمة، من مسيحيين وإيزيديين، الذين يريد لهم وزيرهم المسلم، بإمتياز، القائم على شئون الفوق الديني الرسمي في هولير العاصمة، أن يكونوا أهلاً للذمة في جمهورية كردستانٍ إسلامية، جمهورية نقية في دينها الواحد، ونبيها الواحد، وكتابها الواحد الأحد، العالي فوق كل كتاب.
هناك، وجدت نفسي وجهاً لوجه، مع كردستان إسلامية، مختزلة في شخصية وزير أوقافها؛ وزير لا يرى الدين إلا واحداً، وهو دينه الإسلام.
هذه ليست نكتة أو مزحة عابرة أو صناعة لكلامٍ فارغ، كما قد يبدو للبعض، وإنما هي حقيقة وزير الأوقاف ووزارته التي يريدها وزارة إسلامية نقية، كما تحدّث إلي مسؤولون في أوقاف الأقليات الدينية اللامسلمة هناك من المسيجيين والإيزيديين.
فالوزير الرسمي العامل ضمن طاقم حكومة كردستان الرسمية، حسب تصريحات مسؤولي الوقفين المسيحي والإيزيدي، هو وزير يقسم الدين(وهو الوزير الكردي في وزارة كردية مختصة بالشئون الدينية، أي كل الدين في كل كردستان) إلى دينَين: الدين الحلال الإسلام، أو الدين الفوق، والدين الحرام(كل من هو خارج عن الإسلام وعليه، أو الدين التحت (اللادين).
فالرجل يرى في مناسبات هذه الأديان الكردستانية اللامسلمة، مناسبات روتينية خارجة على الحلال من دينه، وهو الأمر الذي يجعله يفتي بلا شرعية ولادينية هكذا مناسبات، والحكم عليها بالمناسبات الحرام، التي لا تستحق البرقيات والتبريكات، لأن دينه(والكلام للوزير كما هو منشور في جهات إعلامية) لا يسمح له بإرتكاب هكذا حرام.
فإذا كان هذا هو فتوى وزير كردي رسمي مسلم في أديان كردستانية موجودة ومثبتة في مسودة دستور كردستان، فضلاً عن وجودها الفعلي في بعضٍ من قيامها وقعودها، ترى ماذا ستكون فتواه بواحدٍ مثلي لاديني، يفكر خارج كل الدين، ويتخذ من العقل فوقاً يعلو ولا يُعلى عليه؟
بإخصتارٍ شديد جداً: هولير الليل محاها النهار، أو هكذا بدت كردستان لي في بعضها الكثير، في الأقل.
من هولير بدأت قصتي مع المكان في كردستان وناسها؛ منها احتككت مع كردستان وحريتها، وديمقراطيتها، وعصبيتها، ديناً وحزباً وعشيرةً.
هي، كانت الأول من الخريطة، في الأول من زيارتي لكردستان، ثم تلتها أمكنة كردية أخرى كثيرة، بحلوها ومرّها، بجمالها وقبحها، بفوقها وتحتها..
شاهدت الكثير مما كان خارجاً عن كل توقعٍ وعن كل عقل..شاهدت هناك أكراداً بلا كردستان حيناً، وكذا كردستان بلا أكراد أحياناً أخرى.
شاهدت كردستان خمس نجوم، وكردستان تشحذ الماء والكهرباء. شاهدت أكراداً في الفوق جداً وأكراداً آخرين في التحت جداً. شاهدت أكراداً في نعيم السلطة، وآخرين في جحيمها. شاهدت كردستان تمشي بأقل من نصف دين، ونصف عقل، ونصف دنيا. شاهدت كردستان مختزلةً في حزبٍ ودينٍ وعشيرة. شاهدت كردستان حلال وكردستان حرام؛ كردستان لها كل شيء، وكردستان من دون شيءٍ يُذكر؛ كردستان تملك وأخرى تُمتَلَك؛ كردستان تفسِد وأخرى تُفسَد؛ كردستان لها أن تقول وتفعل ما تشاء، وكردستان ليس لها إلا أن تقول: نعم سيدي، شبيك لبيك عبدك الكردي بين إيديك؛ كردستان تدافع عن الحق الكردي في بغداد، وأخرى تدوس على الحق ذاته في هولير..
فهل تريد المزيد من كردستاناتٍ التقيتها، أو شاهدتها أثناء عبوري للمكان الكردي الكثير؛ المكان الذي فيه من القول والإنفعال والتعطيل، أكثر من الفعل والشعور بالمسؤولية والتفعيل بكثير..
س2..
ما هي حدود تأثير هذه الزيارة في وجدانك.. هل سنشهد شعراً وقصائد تحكي لنا شيئاً عن أجواء الرحلة والمتعة ومعاناة البشر وإرهاصاتهم؟..
شعر قادم عن المتعة في كردستان، لا أتصوّر.
دعني أتحدث إليك بصراحة أكبر: أنا لم أستمتع في كردستان، لأن المتعة بحسب مفهومي ورؤيتي لها، هي هناك أكثر من غائبة، وكل الأصدقاء ممن جمعتنا أمسيات ولقاءات كثيرة، كان من المفترض بها أن تؤسس لمتعة مفترضة، قرؤوني في شكوى علنية، كنت أصرّح بها في حضورهم: حقيقة كردستان الحاضرة، هي أنها غائبة عن المتعة؛ كلّ متعة.
أقول هذا، ليس لأن كردستان والمتعة ضدان لا يلتقيان، بقدر ما أن هنالك من يصادر على كردستان متعتها، وكذا يصادر على المتعة كردستانها.
المتعة، على الطريقة الكردية هناك، إما هي قاتلة أو مقتولة؛ إما فاضحة أو مفضوحة، إما رذيلة أو مرذولة؛ إما عادمة أو معدومة.
المتعة، كما أفهمها، معادلة مستحيلة الحل، في كردستان الراهنة.
بإختصار شديد، الطريق إلى الإستمتاع والمتعة، بمفهومها الإنساني العالي الجميل، لا يعبر من كردستان، راهناً، وإنما من خارجها.
لذلك ترى الداخل الكردي الميسور هناك، يبحث على طريقته السرية الخاصة، عن مكانٍ لمتعته السرية، خارج حدود كردستان العلنية.
الحريات الشخصية، هناك، مقموعة بشكلٍ لا يطاق.
الكل يعيش تحت سقف الآخر؛ قانون الآخر، وعرف الآخر، وعادات وتقاليد الآخر.
الكل يعيش لأجل الجماعة(حزب، دين، عشيرة)، أما الذي يعيش بذاته ولذاته، فهو موجودٌ نادر جداً، أو ربما شاذ حسب قاموس الجماعة وأنظمتها الداخلية الأكثر من رجعية، وخارجيٌ ملعون عليه، في الدينا وفي الآخرة.
المعاناة، هناك، كبيرةٌ، فهناك الكثير ممن يعاني من الحزب والدين والعشيرة. الفرد، على العموم، هناك، ليس شخصاً، بقدر ما أنه رقم من مجموع، أو واحد تحت خيمة كبيرة، اسمها حزب أو دين أو عشيرة.
تأسيساً على معاناةٍ كبيرة كهذه اسمها كردستان، لا شك، يمكن للشعر أن يكون. بكل تأكيد، سأكون مع القصائد وجنياتها الشيطانات، على أكثر من موعدٍ، وأكثر من كردستان.
في كردستانٍ عصية على المتعة، كهذه، يبقى الشعر هو المتعة التي لا مفرّ منها، هو المدخل والمخرج في آن، وهو الطريق إلى اللذة وما وراءها.
الشعر في هكذا مكانٍ مشكل هو الحل، دون أدنى شك.
الشعرُ متعةٌ أصلاً؛ متعةٌ أولاً وآخراً.
س3...
بين الطبيعة والبشر ثمة علاقة غالباً ما تكون ملتبسة.. كيف وجدت الناس في كردستان الجميلة.. هؤلاء الساكنين فيها من الكرد ومن معهم.. ما هي انطباعاتك عنهم... هل وجدتهم في حال تناسب حجم الدم المراق فيها؟... هل تستحق كردستان كل هذه التضحيات البشرية؟..
أبداً..شتان ما بين كردستان المفترضة ماضياً، وكردستان المفروضة الآن؛ شتان ما بين كردستان الجبل الماضي، وكردستان المدينة الحاضرة؛ وشتان ما بين كردستان الزمن الجميل، والحب الجميل، والرفيق الجميل، والشهيد الجميل هناك، وكردستان في زمن الفساد وكوليرا القبح ههنا.
من يتابع أخبار قيام وقعود كردستان ما بعد الحرية وأخبار فسادها وإفسادها من الفوق إلى التحت، لا بدّ وأنه سيتذكر مقولة الثورة تأكل أبناءها؛ تلك المقولة المعبرة والشهيرة التي أطلقها العقل الفرنسي بعد تعطيل نابليون بونابرت لثورته، وإنقلابه عليها، وتصفيته لمبادئها، بإعلانه امبراطوراً على كل فرنسا وملحقاتها، سنة 1899 وذلك بعد حوالي عقد على قيام فرنسا الثورة.
بعد أكثر من 110 سنوات مضت على سَن هذه المقولة، فرنسياً، لا يزال التاريخ في كردستان وحواليها هو هو: كردستان تأكل أبناءها!
كلا.. كردستان الآن، المبتلية الآن بأكثر من عصبية، وأكثر من قبلية، وأكثر من فسادٍ، وأكثر من نهشٍ للحم أبنائها، لا تستحق ما قدمه أهل الدم الماضي، والشهيد الماضي، والجبل الماضي، وحلبجة الماضية، والهروب المليوني الماضي، من تضحياتٍ وأنفالاتٍ، وقتل وإعدامات بالجملة.
لا شك أنّ كردستان الطبيعة جميلةٌ خلاّبة وأكثر، ولكن الطبيعة ليست جميلةٌ بذاتها ولذاتها، على أية حال، ولا يمكن لها أن تكون كذلك، من دون إنسانٍ يكونها وتكونه. الطبيعة خارج الإنسان عدم.
والإنسان من دون طبيعة ناطقة، هو حيوان غير متكلم، أو حيوانٌ أبكم.
الإنسان كحيوان ناطق، حيوان من الكلام وبعده، هو من يجعل الطبيعة تنطق وتتكلم، والعكس غير صحيح.
عليه، فلا يستغربنَ أحدٌ إن قلت بإنّ طبيعة كردستان الآن قبيحة وأكثر، لأنها خرساء بكماء لا تتكلم؛ طبيعة تسمع فقط لكنها لا تقول. والسبب ههنا، لا يكمن في طبيعة الطبيعة، بقدر ما أنه يكمن في طبيعة الإنسان، هناك، نفسه، أنسانها.
الطبيعة ليست بكماء خرساء، بطبيعتها، وإنما هناك من أراد لها أن تكون كذلك، فأصبحت صماء بكماء خارجة عن كل كلام.
للطبيعة أيضاً لسان.
الطبيعة تتكلم. ولكن ليس مع ذاتها، وإنما مع إنسان.
بإمكانك أن تكتشف الطبيعة الكردية، هناك، قبيحةً تلعن نفسها، على قمة كل جبل، على رأس كل نبعٍ أو شلال، على جانبي كل طريق، وعند مداخل ومخارج كل مدينةٍ وبلدة.
من قبل، كان هناك جبلٌ أكثر من نشيط وكثير يستنطق كردستان، ويجعلها تتكلم بأكثر من لسان وفي أكثر من إنسان، أما اليوم فهناك مدينة كسولة يخرسها، وينسيها الكلام؛ مدينة عاطلة معطلة، نصفها ميتٌ في العادة والتقليد، والنصف الآخر لا يصنع سوى الرجعيات: دين رجعي، حزب رجعي، عشيرة رجعية، عادات وتقاليد رجعية، جرائد رجعية، أدب رجعي، مؤتمرات ومهرجانات رجعية..هذا فضلاً عن المال الكثير الكثير والأكثر من رجعي.
في كردستان ما بعد المدينة، لم يعد الجبل حكيمها المتكلم بإمتياز، ربما لأن الإنسان؛ أنسانها لم يبقَ كقبل، جبلاً متكلماً، جبلاً يتكلم عن كردستان الدم العالي، والحق العالي، والوجود العالي.
أخشى على كردستان أن تنسى الكلام، رويداً رويداً، وتسقط في عكسه.
أخشى عليها أن تنتهي إلى اللاكلام، بعد كلام كثيرٍ من جبلٍ كثيرٍ مضى.
أخشى على كردستان أن تخرس.
س4..
والسلطة الكردية وأحزابها.. أعرف انك لا تجامل.. لن اطرح سؤالاً محدداً قاصراً في هذا المجال.. سأطلب تعليقكَ.. تعليقكَ ... هل لديك تعليق؟!!..
لدي أكثر من تعليق، لا بل تعليق كثير في السلطة الواحدة، ودكاكينها السياسية من الحكومة إلى دكاكين المجتمع المدني. كردستان السلطة هي عملياً ثلاث في واحد. المقصود من ثالوث السلطة، ههنا، ليس السلطات الثلاث المتعارف عليها في أدبيات أنظمة الحكم الحديثة، أي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي يُفترض الفصل بينها.
السلطة في كردستان الآن، على الطريقة الكردية، هي ثلاث: الحزب والدين والعشيرة. عملياً الحزب هو كردستان، وهذه تساوي الحزب، كل داخلٍ في كردستان، هو داخلٌ في الحزب بالضرورة، والعكس صحيحٌ أيضاً.
في كردستان، الرئيس حزب، والحكومة حزب، والبرلمان حزب، والمحكمة حزب، والمخابرات حزب، والجريدة حزب، والتلفزيون حزب.
الحزب، عملياً في كردستان، هو الأول وهو الآخر؛ هو فوق كردستان وهو تحتها أيضاً. ولكن الحزب أدرك منذ البداية، أو منذ أول الحرية في كردستان سنة 1991، إنّ الطريق إلى فوقها، ليس مفروشاً بالورد أمامه.
هنا، لم يفكر الحزب بممارسة السلطة كبديل مفترض يتقدم بكردستان إلى أمام، بقدر ما أنه فكّر بالسلطة، كوريث شرعي لكردستان يراوح مكانها.
لماذا؟
لأنه أراد ركوب كردستان بسلوكه لأقصر الطرق وأقلها تكلفةً. وهنا بالضبط كان عليه، التفكير المراوح في مكانه بالطبع بإشراك مؤسستين رجعيتين قويتين أخريين، في سلطته، وهما الدين والعشيرة.
لهذا لم أستغرب من مشروع دستور كردستان الذي أصرّ على تناقضات لا يمكنها لها أن تجتمع إلا في دستورٍ مراوحٍ في مكانه، متناقض، من أوراق متناقضة، كدستور كردستان وأخواتها الأخريات المسلمات.
ولا أدري أيُّ دستورٍ علمانيٍّ في العالم، يتخذ من دين الغالبية المسلمة مصدراً أساسياً من مصادر التشريع، ويمكنه أن يجمع بين المبادئ الديمقراطية والحريات من جهة، وبين المبادئ الإسلامية من جهةٍ أخرى، كما جاء في مادته السادسة.
الدولة(أية دولةٍ كانت) التي تتخذ من دينٍ ما(كل الدين)، مصدراً أساسياً من مصادر تشريعها، هي دولة دينية أكثر من أن تكون مدنية.
هي دولة تقسّم الدين إلى دين فوق ودين تحت، دين أساسي ودين ثانوي، دين حلال ودين حرام.
الدين ليس دولةً، والدولةُ التي تتخذ من الدين مرجعاً لها، هي دولةٌ خارجةٌ على المدنية، ومبادئ الديمقراطية، ومبادئ حقوق الإنسان.
المرأةُ، في كل الدين، لا سيما في الإديان الإبراهيمية، وفي الإسلام واليهودية بشكلٍ أخص، هي الضلع الأعوج، أو الكائن الأعوج، ذي الوجود الأعوج، فكيف يمكن لدولة تعتمد على هكذا دينٍ، كمصدرٍ أساسٍ في تشريعها، وتقول في الآن ذاته، بأنها دولة مدنية، ودولة حقوق إنسان ومساواة وحرية وديمقراطية، وما شابه؟
ما يسمى بمشروع دستور كردستان، سيبقى حبراً على ورق، وإن وافق عليه مليون برلمان، طالما أن القائمين عليه، يصرّون على سجن الدولة المدنية في عباءة الدولة الدينية.
في كردستان، هناك فوق كردي مصرّ على إشراك المرأة في العملية السياسية، والإرتقاء بدرجة تمثيلها في مؤسسات الدولة، بنسبة مثالية، ولكن واقع المرأة في كردستان الراهنة، يقول أن الرجال لا يمكن لهم إلا أن يكونوا قوامين على النساء من ألفهن إلى يائهن.
المرأة ذات التمثيل المثالي في كردستان المثالية هذه، ليست أكثر من ديكور تحت الطلب. هي، في المنتهى، زجاجة عطر لزينة الدولة ومؤسساتها.
المرأة في كردستان، بحسب التفكير السائد، ليست عقلاً، وإنما هي مجرد زينة. بل حتى الزينة ههنا، هي ليست بمواصفات أنثى تريد لنفسها أن تكون، وإنما هي بمواصفات رجل. فالمرأة لا تتزين بما تريد وتشتهي، بقدر ما أنها تتزين وفقاً لإرادة الرجل.
ثم أين هو حضور المرأة في إيتيكيت الفوق الكردي على أقل تقدير. متى وجدنا زوجة الرئيس، أو رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان، أو زوجة أي مسؤول رفيع آخر في الفوق، تتقدمه في زيارة إيتيتكيتية، أو اجتماع إيتيكيتي، في الأقل؟
الرجل في كردستان، ككل الشرق، لا يختار للمرأة عقلها ودينها(الناقصين على أية حال، كما يقول العقل السلف والدين السلف) فحسب، وإنما يختار لها أيضاً اجتماعها، وسياستها، وخطابتها، وكتابتها، وزينتها.
المرأة، بإختصار ، في كردستان، هي ظل الرجل أينما حلّت ورحلت.
هناك بدون أدنى شك، الرجل الإستثناء والمرأة الإستثناء، في كردستان كما في كل مكان، ولكني أتحدث ههنا عن كردستان القاعدة.
والحالُ، فإنّ كردستان الأن، محكومة بثلاث عصبيات تزواجت فيما بينها، على سنة السلطة ورسولها، هي عصبية الحزب والدين والعشيرة.
الزواج بين هذه العصبيات الثلاث في كردستان، هو زواج منفعة متبادلة؛ زواجٌ يمشي بكردستان إلى الوراء لا إلى الأمام؛ إلى السلف لا إلى الخلف؛ زواجٌ لا ينتج، بقدر ما أنه يستهلك؛ زواج لا يعمل بقدر ما أنه يتكّل ويتواكل؛ زواج لا يفعل وإنما يعطّل؛ زواجٌ لا يُسعد، وإنما يمَتِّع..إنه زواجٌ في السلطة ولأجل السلطة؛ أي زواج متعة أو مسيار، على طريقة السلطة الكردية.
كردستان الآن، بحسب قراءتي، هي كردستان المسيارة، حيث السلطة فيها مسيارة، والحكومة مسيارة، والبرلمان مسيار، والقانون مسيار، والصحافة مسيارة، والمتعة مسيارة.
أنها، بإختصار، كردستان الزواج المسيار بإمتياز؛ كردستان لن تطول؛ كردستان المتعة المسيارة، التي ليس لها إلا أن تنتهي إلى فسادٍ مسيار، كالذي هي الآن غارقة فيه، من رأسها إلى أخمص قدميها.
س5..
البعض ممن يتابعون بحوثك ومقالاتك النقدية الساخرة.. قالوا في لحظة حيرة مشفوعة بمفاجأة وصولك الى كردستان.. انتهى هوشنك.. سيشترونه.. هل هناك من حاول شرائك لإسكاتك؟.. هل وجدتَ في كردستان من يمارس هذه الهواية مع المثقفين؟...
أكره الإستغراق في أخبار الأنا. لكني بالمختصر المفيد أقول لك، أنا لا أبيع الكلام كالكثيرين من أهل الكلام كي أُشترَى.
لست من هواة اللعب على الكلام أو عرضه في سوق السياسة وبيعه، كما فعل الكثيرون من تجار الكلام، ولا يزالون.
لست كتاباً أو كاتباً تحت الطلب.
قالها الكبير ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود. من هنا لا أريد أن أكتب من عدم، في العدم وللعدم..أنا ريد أن أن أكتب للوجود(كل الوجود) لا لعكسه..أنا أكتب إذن أنا موجود.
أنا أكتب لأوجِد وأوجَد، لا لأنتهي إلى سكوتٍ وعدم.
لا شك أنّ الإسكات هي هواية السلطة المفضلة، كل سلطة، تختزل شعباً في واحد، سواء كان هذا الواحد شخصاً أو حزباً أو ديناً أو عشيرة، وكردستان ههنا ليست استثناءً، وإنما هي القاعدة.
لم ألتق بأهل الإسكات وصحابتهم ورسلهم في كردستان، وجهاً لوجه، كما إني لم أمارس السكوت المسيار، ولا السكوت الديبلوماسي المحترف هناك.
لم أركب السكوت ولم أرتكبه..لم أمارسه ولم أتمترس به.
قلت كلمتي هناك، كما هنا، ومشيت.
هناك، قلت هذا هو أنا ومضيت.
ولكن ما هو المسكوت عنه، في أدراج أهل الإسكات هناك، فهذا ما أجهله، أو ربما أتجاهله.
لك أن تضع ههنا أكثر من إشارة استفهام.
معلومي، هو إني إذ أكتب، لا أفكر بتسويق مكتوبٍ محدد إلى جهةٍ محددة بعينها.
مكتوبي هو جهتي، جهتي هي مكتوبي.
أنا لا أنتمي إلى كتابٍ أو إلهٍ أو جهة..أنا هو جهتي.
السلطة ليست هوايتي..أنا أحب عكوسها، لا بل معاكستها.
ثم أنّ الثقافة ليست سلعة تحت الطلب، كما يركبها البعض على سنة السياسة ورسلها. الثقافة ليست نقلاً وإنما هي عقل، والعقل يوجِد ولا ينوَجد؛ يفعل ولا يُفعَل به، كما هي العادة عند أهل السياسة في الشرق النقل.
س6.. المثقفين من الكتاب والصحفيين والمفكرين ممن تتوجه نحوهم الأنظار.. كيف وجدتهم في كردستان؟.. ما هي حدود نشاطاتهم وطبيعة علاقتهم بالسلطات وأجهزتها الإدارية .. هل هناك ما يميز كردستان عن بقية دول الشرق الأوسط أم أنها لا تختلف في تهميش المثقفين بحكم عقلية وتقاليد مؤسسة العشيرة التي ما زالت تتحكم في الاقتصاد والتجارة ومؤسسات الدولة والأحزاب السائدة التي تعتمد على بنية العشيرة في تكوينها وبرامجها؟..
الثقافة بمعناها المفتوح، ليست تعصباً أو إنتاجاً للعصبيات، بل هي حرية، إنتاجاً ومنتوجاً.
هي ليست إنغلاقاً، وإنما هي انفتاح؛ انفتاحٌ على الأنا وعلى الآخر في آنٍ؛ انفتاحٌ على الفرد وعلى المجموع.
في ظروف عصبية، حيث السلطة في كردستان محكومة بثلاث عصبيات مغلقة، لا بل مقفلة، لا يمكن التعويل على ثقافة مفتوحة ومثقف مفتوح.
المثقف، على مستوى الجملة، هناك لا يصنع الثقافة، بقدر ما أنه يتبع ثقافة؛ ثقافة مرسومة له سلفاً.
أنه لا يكتب الثقافة، بمفهومها الواسع، بقدر ما أنه يكتب في ولثقافةٍ محددة بعينها؛ ثقافة مغلقة تؤدي في المنتهى إلى عقل مغلق: حزب أو دين أو عشيرة أو محلة.
نعم هناك فسحة من الحرية؛ حرية التعبير، أو التنفيس عن احتقانٍ وكتمانٍ كثيرين. ولكن ما هي جهة هذه الحرية؛ هي حرية من أين إلى أين؟
حتى هذه الحرية، الممارسة على مستوى ما تسمى بالسلطة الرابعة هناك، هي حرية متعصبة، حرية شللية، يشوبها الكثير من الروح الثأرية والإنتقامية. لهذا ترى الكثير من الجهات الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، التي يقال عنها بأنها أهلية غير حكومية، هي في الحقيقة تابعة وممولة من مسؤولين من العيار الثقيل، وتدار بشكل مباشر أو غير مباشر، إما من قبل المسؤول نفسه، أو زوجته، أو أبنائه، أو أقرب المقربين إليه.
غالبية وسائل إعلام كردستان الأهلية، هي في الحقيقة جهات شبه رسمية تابعة لمسؤولين كبار رسميين، ممولة بأموال رسمية مسروقة، أصبحت في ليلة وضحاها أموالاً أهلية.
أما وسائل الإعلام الرسمية، فحدّث ولا حرج. فلا تستغرب إن وجدتَ المسؤول الرفيع من الدائرة الرسمية الفلانية، أن يكون صاحب الإمتياز الرسمي الأول والأخير لهذه الجهة الإعلامية الرسمية أو تلك، أو رئيس تحريرها، أو مديرها، أو مستشارها في كل صغيرة وكبيرة. فالمسؤول الكبير والرفيع هناك، قد يكون شاعراً، أوكاتباً، أو صحفياً، أو أكاديمياً، وحزبياً رفيعاً، أو آمراً عسكرياً رفيعاً، أو إدارياً رفيعاً، أو رجلاً أمنياً رفيعاً من العيار الثقيل، في آن.
فلا ضير في كردستان أن يكون الحزب شاعراً والشاعر حزباً، أو أن تصير الجريدة إلى فرعٍ للتحقيق، ويصير التحقيق إلى جريدة.
لهذا، من النادر جداً أن تلتقي متخصصاً، يشتغل في كردستان على اختصاصه. المختص هناك، هو العابر لأكثر من اختصاص.
المثقف، بمعناه العابر للحزب والدين والعشيرة، أو ما يمكن تسميته بمثقف مافوق السلطة، ومافوق العصبيات، هو مثقف شبه غائب في كردستان؛ مثقف مغضوب عليه، منبوذ، مُحارَب، ومكتوب عليه السقوط في أكثر من فخ.
ثم أن المثقف هناك، لا سيما المشتغل في سلك السلطة، لا يتحدث بلغة المفرد، كفرد من الجماعة، بقدر ما تراه يتحدث بلغة رقم في مجموع، أو نحن الجماعة، وكأنه لسان حالها.
لك أن تكتشف ذلك من ظاهرة التسمية هناك. فبالكاد أن تجد نزيلاً من أهل الثقافة أو السياسة هناك، يسمى بإسمه كمفرد.
الكل هناك، من السياسي إلى المثقف، يكاد يكون قبيلته أو عشيرته أو فخذه أو ضيعته، أو ربما دينه، في إسمه كأنامنسوبة إلى نحن.
الإسم المفرد، هناك يختفي غالباً وراء إسم الجماعة وخيمتها.
كلنا يتذكر إصرار المفكرة المصرية نوال السعداوي، على تسميتها الرمزية بنوال زينب نسبةً إلى أمها، التي أرادت بذلك كسر تابو التسمية بإسم الرجل، بإعتباره مرجعيةً وحيدة. أنها لا شك محاولة رمزية، ولكنها موقف يسجل لعقلها الخارج على مقدسٍ اسمه رجل.
فأين هو عقل مثقف الحارة والضيعة والعشيرة والحزب والدين في كردستان الهناك، من عقل نوال زينب؟
س7..
هل يمكن التوفيق بين الهدف المعلن في تحويل كردستان الى تجربة ديمقراطية حقيقية من خلال المكون السياسي الحامل لبنية العشيرة.. أم ان في الأمر ثمة التباسات تصل حد الوهم وتناقضات تعيق وتفشل من هذا التوجه؟..
عقل العشيرة، أو العقل العشائري المحكوم برباطٍ مقدس لا يمكن له أن ينتهي إلا إلى خيمة، كبير أو صغيرة، لا فرق. في كردستان لا توجد ديمقراطية بمفهومها السائد، بإعتبارها حكم الشعب بنفسه ولنفسه.
الموجود في كردستان، هو حكم الحزب، الذي هو في المنتهى، دينٌ وعشيرة.
تركيبة الأحزاب الكردية في كردستان الراهنة، هي تركيبة عشائرية ودينية بإمتياز. أنظر إلى بنية الحزبين الحاكمين لكردستان الآن. القفز فوق العشيرة والعائلة فيهما، خط أحمر دم، وتابو ما بعده تابو.
ما الجديد الذي تمخض عن المؤتمر الأخير للإتحاد الوطني الكردستاني، بعد نكسته مع أصدقاء الأمس في كوران؟ وما الجديد الذي سيتمخض عن المؤتمر القادم للديمقراطي الكردستاني؟
لا شيء.
في كلا الحزبين، حكم العشيرة والعائلة هو الأكثر حضوراً.
هيروخان أصبحت في عراقٍ وضحاه، السيدة الأولى في الإتحاد الوطني، لأنها زوجة رئيسه المام جلال الطالباني.
ونيجيرفان بارزاني أصبح في كردستانٍ وضحاها رئيس حكومة، وثم نائباً لرئيس الديمقراطي الكردستاني، وكذا مسرور بارزاني أصبح رجل الباراستن الأول، لأن الأول هو إبن أخ الرئيس مسعود بارزاني، والثاني هو إبنه.
هذا غيضٌ من فيض. كردستان التي يتشدق بها البعض المثقف المعتاش على فتات السلطة، آلت إلى مزرعة حقيقية، تتقاسمها عوائل فوق الحزبين الحاكمين، من الألف إلى الياء.
الثابت في كلا الحزبين الحاكمين لكردستان، سيبقى كما يبدو لي، في المستقبل المنظور، هو العائلة والعشيرة، إضافةً إلى تزكيات ممنوحة من الفوق الباقي لمريدين هنا وهناك.
العشيرة، بكل أسف، في كردستان هي ظهر الحزب، أما الدين فهو ظهيراه.
لأذهب في صراحتي معك أكثر.
كنتَ في سوريا وعشتَ فيها بالطول وبالعرض. أنا كردي سوري، وبالمناسبة، قليلون هم الذين كتبوا، كردياً، في نقد الديكتاتورية السورية وربّها من الأسد الأول إلى الثاني، مثل ما كتبت أنا فيها وعليها، كمواطن كردي سوري أولاً وآخراً.
لا أزال أكتب، وأمارس نقدي في ذات الشأن، وكأنني الآن بدأت.
ولكن ما هي قضيتي ككاتب مع هذا النظام؟
لي، كمواطن سوري، معه قضية واحدة إسمها سوريا: سوريا لكل السوريين، عرباً وأكراداً وتركمان وشركسيين وسريان وأرمن وآشوريين: سوريا واحدة لشعوب كثيرة؛ علم واحد لأناشيد كثيرة.
لهذا كتبت ولا أزال، وقلت بالفم الملآن: لا للدكتاتور!
الديكتاتور، هو واحد، أياً كانت هويته، أو عصبيته، أو لسانه، أو قوميته.
من يختزل وطناً بكامله، في عائلةٍ، او قبيلةٍ، أو حزبٍ، أو دينٍ، هو دون أدنى شك ديكتاتور، حتى لو كان هذا الديكتاتور أبي.
أليس ما يجري في كردستان الآن، هو شيء أو بعضٌ كثير من هذا القبيل؟
فكيف لي أنا الكردي، أن أنقد حكم العائلة هناك، سورياً، وأدافع عنها ههنا في كردستان؟ هذه إزدواجية ما بعدها إزدواجية؛ هذا نفاق ثقافي وسياسي وأخلاقي بإمتياز.
كيف لي أن أكون هناك ضد ديكتاتورية العائلة، وأكون ههنا معها، لا بل منظّراً ومشرّعاً لوجودها، كما يفعل الكثيرون من ركاب الثقافة ومرتكبيها على الطريقة الكردوية، في كردستان الداخل والخارج على حدٍّ سواء؟
الوطن، ليس مجرد شقفة أرض، وشقفة علم، وشقفة نشيد وطني..أبداً.
الوطنُ، بمفهومه المدني الواسع، ليس مجرد دفاع مقدس، عن أرض مقدسة، أو مجرد تحية علم مقدسة، تقام رسمياً في دوائر الدولة ومؤسساتها الرسمية.
الوطنُ، هو أولاً وآخراً، حقٌ كبيرٌ، وحريةٌ كثيرةٌ لكائنٍ عالٍ كثير، إسمه إنسان.
إنسانٌ له ما له، وعليه ما عليه، ينتمي إلى وطنٍ، لا إلى عشيرةٍ، أو دينٍ، أو حزبٍ بعينه؛ إنسانٌ عابرٌ لكل هذه الإنتماءات والعصبيات الرجعيات.
وطن بلا مواطنين، هو شقفة أرض ميتة.
ألم يقل صدام بأنه سيسلم العالم عراقاً بلا عراقيين؟
العلم الذي استشهدتَ في سبيل رفعه عالياً، ويردكَ عن باب حكومته وبرلمانه ومؤسساته، هو علم قماش، لا يستحق الإجلال والتحية.
أنتَ تعلم، أن الفساد المفصّل على الطريقة الكردية، قد صنع الكثير من المليونيرية والمليارديرية. البعض الفاسد من هؤلاء، أصبح بين كردستانٍ وضحاها أصحاب ملايين، احتار في أمر تصريفها وتسويقها. الطالباني وصف السليمانية يوماً بمدينة الملايين الكثيرة، أو مدينة الثلاثة آلاف مليونير. مليونيرية ومليارديرية على طول كردستان وعرضها.
ولكن السؤال هو، أين تصرف هذه المليارات، أين تستثمَر؟
مشكلة كردستان مع هذا المال العام المسروق، والذي أصبح بين حكومةٍ وضحاها، مالاً خاصاً، هو أنه مال خارج وطني، لاوطني، ويستثمر في مشاريع عاجلة، كتجارة العقارات وبناء فنادق الخمس نجوم، والفلل السكنية الفاخرة.
حتى البرجوازية أو الرأسمالية الكردية إن صحت التسمية، التي تشكلت عبر سرقة منظمة للمال العام، خلال العقدين الأخيرين، في كردستان الفتية، هي برجوازية لاوطنية، لأنها لا تلتفت إلى مشاريع بنيوية، تساهم في بناء البنية التحتية لكردستان، بقدر ما أنها مشغولة ومنشغلة بمشاريع ترانزيت عجولة، لا يمكن لها أن تؤدي إلا إلى وطن عجول، أو وطن ترانزيت، هذا فضلاً عن انشغال هذه البرجوازية الأساس، بتهريب أموالها اللاشرعية إلى خارج غير شرعي.
في كردستان، هناك عقلان متوازيان يستحيل التقاؤهما: عقل مدني من ورق وعلى ورق، محكوم، معطّل، ومفعول به. وعقل عشائري ديني حاكم، فاعل، وفعّال. الأول مَقود، مصنّع خصيصاً لعيون الخارج وآذانه، يستخدم لأغراض الزينة والديكور عند الحاجة. أما الثاني فمصنّع لإستبداد الداخل، إذ يقود السياسة والإجتماع والمال والأعمال وما يربط بينها من مخابرات وفروع أمنية.
التناقض المستتر حيناً والصريح أحياناً أخرى، بين هذين العقلين في كردستان، هو أكبر من كل أهدافها المعلنة، للعبور إلى كردستان متجانسة، بديمقراطية متجانسة، وحريات وحقوق متجانسة.
س8.. والبديل.. البديل المطلوب من السلطة/الحكومة والناس والأحزاب.. كيف نضمن مستقبلاً ديمقراطياً يليق بالإنسان في كردستان؟.. انتبه للسؤال..
الإنسان في كردستان.. ثمة موسيقى تقترب من الشعر.. نريدك ان تحدثنا عن المستقبل بخيال الشاعر وطموحات المفكر..
البديلُ، هو عقل سياسي جديد؛ عقل يفكر فوق الدين، وفوق الخيمة، وفوق رابطة الدم؛ عقل يفصل بين دين الله ودنيا الحكومة؛ عقلٌ لا يمشي على الأرض بقانونٍ من سماء، ولا يمسخ نصف الله إلى شيطانٍ رجيمٍ، ولا يرمي بنصف الإجتماع إلى إجماعٍ في ضلعٍ أعوج.
البديلُ، هو عقل سياسي يمشي على الأرض بقدمين ثابتتين إلى كردستان متغيرة، تنتهي إلى وطن من الجميع للجميع؛ وطن لا يكون فيه ظهور النحن على حساب وجود الأنا، ولا تنتهك حقوق هذه الأخيرة تحت مظلة ثوابت النحن وظروف معركتها المصيرية مع الأعداء.
شبعنا معارك مصيرية، وثوابت وطنية وقومية، وأهداف افتراضية في الوحدة والحرية والإشتراكية.
شبعنا تحية علم لأوطان كرتونية مختزلة في جيوب فوقٍ يخطف الوطن بإسم الوطنية، ويسرق الشعب بإسم حكم الشعب والديمقراطية.
شبعنا سياسات معطّلة، طالما أدت بنا إلى أوطان معطلّة، وحريات معطلة، واشتراكيات معطلة، وديمقراطيات معطّلة.
البديل هو عقل لا يقول بل يتكلم، لا يزيّن الداخل بخارج ميت، ولا يقلد الخارج المتقدم بداخلٍ متخلف.
البديل، هو عقلٌ يفكر، لا يكفّر؛ يختلف، لا يأتلف، ينتج ويُنتَج، لا يستهلك ويُستهلَك.
البديل في كردستان، هو المواطن الإنسان، لا إبن الله، ولا ظله، ولا مريد فلانٍ أو خليفة علان، ولا عشيرة حنان ولا منان.
كردستان بحاجة إلى بديلٍ إنسان؛ إنسانٌ يعلو ولا يُعلى عليه.
في كردستان الآن، الإنسان لا يحكُم، بل يُحكم.
في كردستان الآن، يموت الإنسان مع الجبل المتكلم الذي كانه يوماً، رويداً رويداً.
لا جبلَ في كردستان المدينة، الآن، يعيش..لا جبل ينطق ببنت شفة..
س9..
في جعبتي الكثير من الأسئلة سأختارُ منها سؤال بشقين ..
زرت في جولتك مناطق سنجار واطلعت على أحوال الأيزيدية وحتماً التقيت بغيرهم من السريان والآشوريين والكلدان.. هل هناك ثمة تعامل دوني مع هذه المكونات؟.. هل شعرت بأنهم مواطنين من الدرجة الثانية أو السابعة؟ ...
هل هناك ثمة مخاطر جدية مقبلة تحيق بهذه المكونات؟.. هل المد الإسلامي والتطرف الديني يزحف نحو كردستان ليشكل تهديداً حقيقياً لغير المسلمين؟...
العقل الديني، هو عقل حاكم في كردستان؛ هو عقلٌ يحاول جاهداً تفصيل الدنيا على مقاس أحكامه المغلقة. هذا العقل، هو في أغلبه، عقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقل إنما الدين عند الله الإسلام. هو عقل يغلق كردستان على نفسه، وأمام الآخر المختلف، في محصلته الأخيرة.
لك أن تقرأ فعل هذا العقل هذه الأيام، في كل كردستان من رمضان فضائياتها الرسمية والأهلية. قنوات بكاملها تصوم عن الغناء للدنيا، في دنيا الغنوة، وأشياء حياتية أخرى، لخاطر رمضان وأهله.
الشارع الكردستاني ومؤسساته الرسمية، بمسلميه ولامسلميه، كله، صائمٌ هذه الأيام، وفقاً لأوامر الحكومة المحروسة، التي تتخذ من الإسلام مصدراً أساسياً من مصادر تشريعها.
شخصياً أكره من يسألني عن ديني، ربما لأني أقيم خارجه، وأفكر فوقه.
بالشامي المشرمح، أنا لاديني..نعم فوق ديني. الدين هو آخر ما يمكن أن يكونني، أو ربما لن أسمح لهذا الآخر المستحيل إلى دينٍ، أن ينتهي إليّ.
أنا لاديني في بيتي، مع أولادي، مع أصدقائي وحروفي، وفي كل تصرفاتي من أولي إلى آخري.
ولكن البحث في سؤال الدين، في كونه عقلاً يقفل الدنيا على مؤمنيه، هو بحث ضروري لابدّ منه، للحد من غزو الدين على الدنيا، واحتلال التفكير الديني على التفكير المدني.
سؤال تفكيك الدين، في مجتمع يموت في الدين، ويقيم الدنيا ولا يقعدها، جهاداً في سبيله، هو سؤال لا بدّ من البحث في أسبابه ونتائجه وتداعياته.
أنا إذ أبحث في الدين، لا أبحث فيه، لأجل إثبات إلهٍ صحيح ضد إلهٍ معتل، أو دينٍ جيد ضد دينٍ سيء، أو صلاةٍ حقيقية ضد صلاةٍ مزيفة، أو كتابٍ سماوي ضد كتابٍ أرضي..أبداً.
البحث في الدين، بالنسبة لي، ليس بحثاً في ثنائية الصح ضد الخطأ، أو الحلال ضدالحرام، أو الفوق ضد التحت، أو دار السلم ضد دار الحرب.
ما يهمني جداً في الدين، هو الإنسان؛ الإنسان في الله قبل الله في الإنسان.
الشارع الكردستاني، هو شارع مسلمٌ بإمتياز. هو شارعٌ مسلمٌ في عقله وروحه وجسده. هو بالإجمال شارع إسلامي(بل إسلاموي في بعضٍ غير قليل من جهات كردستان)، قلباً وقالباً.
وهنا إذ أصف كردستان بالمسلمة، فإني لا أنظر إلى دينها، في كونه اتهاماً، بقدر ما أن شارعها المسلم، ينظر إلى الآخر اللامسلم ، كمسلمٍ فوقاني، نظرة فيها أكثر من اتهام، وأكثر من تعالٍ، وأكثر من فوقية.
اللامسلمُ، في نظر هذا الشارع الميّت على إسلامه، هو آخر قبل أن يكون شريكاً معه في كردستان واحدة.
السلام عليكم يغزو العقل الكردي المسلم، في كردستان، على حساب روز باش.
نعم زرت شنكال، والكثير من المناطق الأخرى ذات التواجد الديموغرافي المختلط.
نعم وجدت هناك مدّاً أصولياً إسلاموياً، يتجذر في كردستان.
وجدت هناك إسلاماً يزحف إلى العقل الكردي، من الفوق إلى التحت.
كردستان تقرأ لعائض القرني أكثر من أي كاتبٍ آخر، وأكثر من مذكرات أيّ جبل.
المسلم، هناك، هو سيد المكان والزمان في آن.
المسلم، هو من يشيل و يحط.
في تلك الجغرافيات ذات التنوع الديمغرافي الكثير، وجدت نوعاً مما يمكن تسميته بعقدة أزمة الثقة، فضلاً عن زحف الأكثرية المسلمة إلى جغرافيا الأقليات الأخرى.
الأقلية، في كردستان، تخاف الأكثرية.
الأكثرية تشك بتبعية الأقلية، وهذه الأخيرة لا تثق بقيادة الأكثرية.
الخوف الآن، هناك، هو سيد الموقف، سيد المكان وسيد الزمان.
الخوف، هو الفيصل.
الخوف، هو الحاكم، وهو الحكم.
وبزوال سلطة المستر خوف، هناك، سيكون لكل كردستانٍ حديث.
الحوار الحي مع كائن حي يفكر بحرية كالناقد هوشنك بروكا لا ينتهي في حدود الاسئلة والاجابات الروتينية ويحتاج الى ذهن حي للتفاعل مع ما ورد فيه من تشخيصات ومعالجات قد يختلف معها القراء بحكم اختلاف الرؤى.. لكنه يسحبهم شاؤوا ام أبوا ويجرهم الى وقفة تأمل تستنطق الاحياء منهم للاجابة على اسئلة التكوين الاولى.. وحكاية الانسان التعبان وبحثه عن الأمان في كردستان بعيداً عن بطانة السلطان..[1]