سعد الدين ابراهيم
منُذ ثلاثة أسابيع كتب الدكتور سعد الدين ابراهيم، وهو الخبير بإشكالية الأقليات فى العالم، موضوعاً تعريفياً تحت عنوان «ماذا تعرف عن الكُرد الفيلية»
ورغم حُسن النية الواضحة فى التنبيه إلى مشكلة لا يعرف أغلب القرّاء العرب عنها كثيراً.. إلا أن الهوية التعريفية جاءت مُشوّشة اختلطت فيها أمور عديدة.. وربما أن أحد أهم أسباب هذا التعريف غير الدقيق هو ما ذكره الدكتور سعد الدين فى المقالة ذاتها، وهى حقيقة عدم معرفته بالقضية وحدودها وتاريخها، ولذلك فقد تكوّنت لديه صورة ذِهنية اختطلت فيها ملامح القضية مع قضايا كثيرة ومختلفة، وبالتالى حصل التشويش.
ورغم أن قضية الكورد الفيلية قضية لها أبعاد تاريخية تتعلق بنشوء الحضارات فى منطقة ما بين النهرين وبدايات بناء الإمارات والإمبراطوريات، ومن ثم الفتح الإسلامى، حيث تمتد جذور الكورد الفيلية إلى «الحضارة الإيلامية»، ولاحقاً وفق بعض الدراسات إلى الدولة الساسانية، والتى كانت عاصمتها «المدائن»، على بُعد 30 كيلومترا من مدينة بغداد، التى تحولت فيما بعد إلى عاصمة الخلافة العباسية، حيث إن بغداد كما نعرف ليست تسمية عربية، وإنما تسمية تعود إلى اللغات الآرية (الفارسية والكوردية)، وتعنى «عطاء البساتين» لأنها كانت فى منطقة غنية بأشجار النخيل والفواكه. وقد اتخذها تُجار الإمبراطورية الساسانية مركزاً تِجارياً قبل الفتح الإسلامى وحتى بعده.. كانت بغداد محوراً رئيسياً من محاور طريق الحرير، التى امتدت من الصين وإلى داخل الآراضى التركية الحالية.
بشكل ما فإن هذه الحقيقة قد لعبت دوراً كبيراً فى تطور الأحداث، ليس فقط بين الدولتين الصفوية والعثمانية، وصراعهما المستمر على السيطرة على هذه المنطقة، خاصة بغداد.. ولكن أيضاً بعد نشوء الدولة القومية (الوطنية)، فى كل من العِراق وإيران، شأنهما فى ذلك شأن كل دول الشرق الأوسط التى قسّمها ووضع حدودها الإنكليز والفرنسيين، دون أن يسألوا أحداً من أبنائها.
مع تصاعد الفكر القومى العربى وتحوله إلى سياسة دولة فى العِراق الحديث، خاصة فى عهد البعث، فإن الكورد الفيلية وتاريخهم أصبحوا هدفاً مُباشراً لسياسات الإقصاء والهيمنة، فقد عمدت الحكومات العِراقية المتعاقبة إلى تهجير الكورد الفيلية من مناطقهم الجغرافية، والعمل على تعريب تِلك المناطق من خلال سياسة مُمنهجة، وفى سنة 1980، وقبيل اندلاع الحرب العِراقية الإيرانية، قامت الحكومة بتهجير أعداد هائلة من عائلات الكورد الفيلية إلى إيران، خاصة أولئك الذين كانوا يسكنون بغداد، بعد تجريدهم من وثائقهم العِراقية والاستيلاء على كل أموالهم المنقولة وغير المنقولة.. عمليات التهجير استمرت ما يقرب من عشرة سنوات، وأحدثت دماراً فى النبية الاقتصادية والثقافية، وشكّلت تهديداً وجودياً مُباشراً للكورد الفيلية.
ولعل قيام الحكومة العِراقية باحتجاز مئات الآلاف من الشباب واستخدامهم كفئران تجارب فى مختبرات صناعة الأسلحة الكيمياوية، دليلاً واضحاً لأهداف ومنهج مشروع جديد، بذل الرئيس صدام حسين جُهداً كبيراً فيه، وهو مشروع «تعريب التاريخ العِراقى ما قبل الإسلام»، حيث صدرت كُتب كثيرة تؤكد أن الإمبراطورية الآشورية كانت عربية.. هكذا بجرة قلم دون أية دراسات أنثروبولوجية!!
المهم أنه عِند حصول التهجير الجماعى للكورد الفيلية إلى إيران، فإن السُلطات هناك وفّرت لهم الحد الأدنى من الحماية، والطعام باعتبارهم لاجئين عِراقيين، ولم تمنح أحداً منهم الجنسية الإيرانية، لأنهم وفق قوانين الدولة الحديثة فهم ليسوا مواطنين إيرانيين. وهكذا بقى هؤلاء دون أوراق ثبوتية، رغم مرور عقود. وللأسف فإنه رغم سقوط الحكومة العِراقية السابقة نتيجة التدخل الأمريكى، فإن مصير مئات الآلاف من الكورد الفيلية ما زال مُعلقاً، كما أن هناك حقيقة مؤلمة أخرى، وهى أنه رغم اعتراف البرلمان العِراقى والمحكمة العِراقية العُليا باعتبار مأساة الكورد الفيلية قضية إبادة جماعية، (جينوسايد) ارتكبها النظام السابق دون وجه حق، فإن مصير الشباب منهم الذين اختفوا فى غياهب السجون العِراقية ما زال مجهولاً، ولا تتعاون حكومات ما بعد السقوط لحل لُغز هذه التراجيديا.
والخُلاصة، هى أن الكورد الفيلية، واستناداً إلى جذورهم التاريخية إلى «الإيلاميين»، وهم إحدى أولى حضارات منطقة ما بين النهرين، فهم يُشكلون البنية الأنثروبولوجية الأولية للقومية الكُردية.. وتُعتبر لهجتهم هى أساس اللغة الكُردية التى تطورت فى المناطق الأخرى شمالاً وغرباً، إلى لهجات مختلفة، بفعل تفاعلها مع لغات الأقوام الأخرى.
وهذه الحقيقة الأنثروبولوجية يعترف بها كل المثقفين والقادة السياسيين الكُرد، وهم بذلك يستخدمون تاريخ التطور السياسى فى مناطق الكُرد الفيلية المُقسمة الآن بين العِراق وإيران أساساً لفهم تطور الفكر القومى الكُردى.. لكن فى المقابل فإن تمركز الاهتمام الدولى على مناطق إقليم كوردستان الحالى بسبب بُعدها عن العاصمة بغداد، وحصانتها الجغرافية (الطبيعة الطوبغرافية الجبلية والطقس البارد والحفاظ على التراث الكوردى)، جعلت هذه المناطق تظهر وكأنها شبه مستقلة عن مناطق الكُرد الفيلية التى تقع فى مناطق سهول، وذات طقس أقرب إلى باقى مناطق العِراق، إذ إنها مناطق تقع فى وسط شرق العِراق، ابتداءً من مدينة خانقين ومروراً بمُدن شهربان، وجلولاء ومندلى والبدرة والحى والنعمانية وغيرها، هى موزعة فى ثلاث محافظات عِراقية هى ديالى، وواسط وميسان، بالإضافة إلى العاصمة بغداد.
وفى تاريخ العِراق الحديث فإن الحقيقة التى يعرفها كل الكُرد فى العالم، وهى أن الكُرد الفيلين كان لهم الدور البارز والمُباشر فى تطور مفهوم القومية الكوردية، وأنهم ساهموا بشكل رئيسى فى تأسيس الحزبين الرئيسين فى كوردستان العِراق، وهما الحزب الديمقراطى الكُردستانى بقيادة مصطفى البرزانى، وحزب الاتحاد الوطنى الكوردستانى بقيادة الرئيس الراحل جلال الطالبانى، ولا يزال الكُرد الفيلية يشغلون عدداً كبيراً من أعلى قيادات الحزبين الحاكمين فى إقليم كوردستان.. وفى الحقيقة فإن الفقرة 140 من الدستور العِراقى كان الهدف منها توسيع مناطق إقليم كوردستان، ليشمل مناطق الكورد الفيلية، لكن هذه الفقرة ما تزال تنتظر التطبيق، والحكومة العِراقية لا تزال لا تُبدى المرونة فى إيجاد آلية ممكنة لتطبيقها.. وليس لديها بديل واقعى ولا مشروع جامع لكل العِراق فى ظل الطائفية والتشرذم.
نتيجة كل هذا يُبقى الكورد الفيلية، يُعانون من الإقصاء والهيمنة، وتُبقى قضيتهم أقرب إلى قضية أقلية، ضمن البنية الاجتماعية والسياسية فى العِراقى.. وهذا كان موضوع المؤتمر الثالث للكُرد الفيلية، الذى انعقد فى مقر برلمان الاتحاد الأوروبى فى بروكسل بتاريخ 12 أبريل هذا العام، حيث كانت للدكتور سعد الدين إبراهيم مشاركة مُهمة إلى جانب باحثين قانونيين من هولندا والنمسا والعِراق.
وتعليقى على هذه الإيضاحات من الأخ أكرم حواس، يُقر د. سعد الدين إبراهيم بأن الكُرد أدرى بتاريخهم، وبشؤون دُنياهم فى الوقت الحاضر، وأعتذر عن أى أخطاء أو توصيفات غير دقيقة فى مقالى الذى نشرته «المصرى اليوم» القاهرية، بتاريخ 21-04-2018، بعنوان «ماذا تعرفون عن الكُرد الفيلية؟» وأشكر الدكتور أكرم حواس، وزُملاء كُرد آخرين أسهموا فى توضيح جوانب إضافية لإسهامات ونضال الكُرد الفيلية فى تاريخ العِراق الحديث.. فلهم كل شكرى وتقديرى..
وعلى الله قصد السبيل.[1]