#علي شمدين#
إثر التطورات التي أعقبت إتفاقية آذار عام (1970)، وتوحيد جناحي (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، شعر مام جلال بضرورة التحرر من الحصار الذي بات يعيشه في كردستان العراق حينذاك بعد أن تم حل جناحه وانضمامه إلى جناح البارزاني، فقرر الخروج إلى أوربا عام (1972)، وهو مجرد من أية مسؤولية حزبية سوى عضويته القيادية في الحزب الموحد تحت قيادة البارزاني الذي بدأ نجمه يسطع كزعيم قومي بعد توقيعه الاتفاقية مع النظام العراقي، فلم يعاد مام جلال الثورة الكردية، رغم عدم رضاه من أداء قيادتها، وإنما كتب إلي البارزاني رسالة عبر فيها عن استعداده لتقديم الخدمة اللازمة له وللثورة أينما كان.
ومن أوربا يتوجه مام جلال إلى الشام ومنها إلى بيروت، وهناك يتواصل مع أصدقائه الفلسطينيين بمختلف فصائلهم، وخاصة مع الجبهة الشعبية التي كان يقودها صديقه المقرب جورج حبش، واستطاع أن يبني معهم قاعدة قوية من العلاقات النضالية، وبعد أن تهددت حياته بالخطر في لبنان انتقل إلى القاهرة عام (1973)، وهناك بدأ بالتواصل مع (أنور السادات، ومعمر القذافي وحافظ الأسد)، وتطورت الثقة المتبادلة بينهم إلى الحد الذي أبلغوه مبكراً بالمؤامرة التي يتم ترتيبها في الكواليس لوأد الثورة الكردية في كردستان العراق، والتي كانت تتم من خلال توسط الجزائر في المصالحة بين النظامين الإيراني والعراقي، فيتواصل مام جلال مع قيادة الثورة الكردية حول ذلك للعمل معاً من أجل سد الطريق أمام تنفيذ تلك المؤامرة ولكن من دون جدوى..
وبدعوة من قيادة الثورة الكردية، عاد مام جلال إلى بيروت عام (1974)، للعمل في مكتب الشؤون العربية للحزب الديمقراطي الكردستاني، هذا في وقت كان النظام العراقي يحاول علناً التهرب من تنفيذ اتفاقية آذار والإنقلاب على مضمونها، في هذا الوقت كتب مام جلال مقالا في جریدة السفیر اللبنانیة، قال فیه: (أنصح الحكومة العراقیة بأن لا تشن القتال ضد الملا مصطفى، فھو الیوم زعیم الحركة الكردیة وقد أصبح أمراً واقعاً ولا یمكن حذفه، أو أن تحاول الحكومة القضاء علیه، وعلیه أطلب منھا أن تتحلى بشيء من الواقعیة وأن لا تقدم على مثل ھذه المغامرة..)، فأثار هذا المقال صدى واسعاً أزعج الحكومة العراقية وأغضبها، فقامت بتحريض طابورها الإعلامي، للرد على مام جلال ومهاجمته وتوجيه الشتائم القاسية والكلمات النابية إليه، كما بادر مام جلال أيضاً إلى تكلیف عدد من الشخصیات العربیة لترسل برقیات مناشدة إلى النظام العراقي تدعوه فيها بضرورة الاحتكام إلى العقل وعدم الدخول في حرب مع الشعب الكردي وتغلیب الحل السلمي للصراع.
لم يبق السوفييت بعيدين عن متابعة هذه التطورات، وإنما كانوا يتابعونها عن كثب، وفي هذا الإطار يسارع يفغيني بريماكوف، الذي كان حينذاك مندوبا لجریدة البرافدا إلى منطقة الشرق الأوسط وأصبح فيما بعد وزیرا للخارجیة الروسية ثم رئیسا للوزراء، إلى اللقاء مع مام جلال في بيروت عام (1974)، وفي هذا المجال يقول مام جلال في (لقاء العمر)، بأن بريماكوف قال له: (یسرني أن أبلغك بأننا نرى فیك رجلا ثوریا تقدمیا، ونرى أیضا بأن الملا مصطفى أخطأ كثیرا حین نحاك جانبا.. فقلت له: اسمع أيها الرفیق بریماكوف.. الیوم جمیع الكرد ملتفون حول البارزاني ومحاولة مواجھته أمر غیر مقبول.. وبدلاً من ذلك تعال معي لنحسن علاقتكم بالحركة الكردیة فھذا أفضل لنا ولكم.. فرحب بريماكوف بذلك وقال: نأمل أن نتمكن من تحسین علاقتنا عن طریقك، ونرجو منك أن تبذل جھدك في ھذا المجال.. ولكن بعد إعلان إنهيار الثورة لم تعد كل عروض المساعدة تلك تفیدنا بشيء..).
وفي كتاب (لقاء العمر)، يتابع مام جلال قوله بأن البارزاني وقبل اندلاع القتال، بادرعن طريق ممثله عزيز رضا في بيروت، إلى الطلب منه للقيام بجولة دبلوماسیة في الشرق الأوسط لدعم الثورة، وبأنه أرسل إليه صفحات بیضاء مذیلة بتوقیعه، ويخوله لأن يملأها كما يشاء ويوجهها لمن يريد، فيقول مام جلال حول ذلك: (لقد كانت علاقاتي مع البارزاني جیدة إلى الحد الذي یمضي لي على أوراق بیضاء، وبهذه الثقة بدأنا بالعمل معاً، ولكن لم یدم الأمر طویلا حتى سقطت الثورة وضاعت منا تلك الفرص..).
فقد كان مام جلال وعن طريق علاقاته الواسعة على علم بما یجري من خلف الكواليس، ويقول في المصدر نفسه، بأن القذافي سأله: (ماذا تعتقد أن یكون مصیركم إذا اتفق العراق مع إیران؟ فقلت له: طبعا سنواصل القتال وسندافع عن أنفسنا، فسألني: ھل أنت متأكد؟ أجبته: نعم أنا متأكد ومطمئن، ولكننا قد نحتاج إلى دعم سیادتك، عندھا نستطیع أن نغیر مسار الحركة، فبدل الخنوع لإیران، نستطیع عندھا أن نتلقى الدعم من أصدقائنا اللیبیین والسوریین، فرد القذافي قائلا: إن غيرتم المسار بالشكل الذي تقول، سأكون مستعداً لتقدیم كل ما تطلبونه من دعم ومساندة، فسألته: ھل تقصد جمیع أنواع المساعدات؟ قال: نعم جلال! كل أنواع المساعدة..).
وبعد عودة مام جلال يكتب رسالة إلى قيادة الثورة، ويرسلھا مع عزیز شیخ رضا، ولكنها لم تأخذ كلامه محمل الجد واعتبرته مجرد دعایة من القذافي لا أكثر ولا أقل، وبعد أن يتم الاتفاق في الجزائر في (06-03-1975)، بين إيران والعراق، يدعو القذافي مام جلال إلى ليبيا ويطلب منه لأن يذھب إلى الملا مصطفى على عجل، ويبلغه بأنه لا يزال عند وعده، وبأنه سوف يقدم له كل مساعدة ممكنة، إن استمر في ثورته واتفق مع التجمع الوطني العراقي، ويقول مام جلال بأنه عاد من عند القذافي إلى دمشق، ليجد الجمیع بانتظاره، ومن بينھم، عمر دبابة وأحمد العزاوي ومجموعة شخصیات أخرى من مختلف قوى المعارضة العراقیة، فيتفق الجميع هناك على ضرورة التحرك وفعل شیء ما لمواجھة هذا الاتفاق المشؤوم، ويسارع مام جلال إلى إيفاد عمر دبابة إلى الملا مصطفى ليخبره بأن لیبیا مستعدة لمساعدتهم، وبأنه التقى بالرئیس حافظ الأسد أيضاً وھو مستعد بدوره للمساعدة وخاصة في مجال الذخیرة والأسلحة، ويقول مام جلال بأن عمر دبابة عاد من غیر أن یحمل ردا، فيبعث مام جلال برسالة أخرى بواسطة (ھیرو خان)، ولكنھا وصلت إلى كردستان بعد فوات الآوان، وكانت الأمور قد انتهت تماماً.[1]