مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الثانية عشرة ) كريم خان زند ( 1715 – 1779م ) (حوالي 1118- 1193ﮪ) الجغرافيا أولاً
د. أحمد الخليل
كي نفهم التاريخ فلنبدأ بالجغرافيا.
وكي نفهم العقائد والأديان فلنبدأ بالجغرافيا.
وكي نفهم القيم والأخلاق فلنبدأ بالجغرافيا.
وكي نفهم الآداب والفنون فلنبدأ بالجغرافيا.
وكي نفهم السياسة والاقتصاد فلنبدأ بالجغرافيا.
تلك هي الحقيقة، وعذراً إذا كنت أكررها مرة تلو أخرى.
فالإنسان نفسه جزء من الجغرافيا، وهو لم ينزل على كوكب الأرض بالمظلة من كوكب آخر، إنه في الأصل كائن جغرافي، كائن مجبول من الجغرافيا، وقد أقرت الأديان السماوية الثلاثة هذه الحقيقة في معرض حديثها عن قصة الخليقة، فذكرت أن الله أخذ قبضة من تراب كوكبنا هذا، وخلق منها جد البشرية الأول (آدم).
وبطبيعة الحال لست أقصد بمصطلح الجغرافيا مجرد التضاريس من جبال ووديان، وسهول وصحارى، وأنهار وبحار فقط، كما أني لا أقصد بالجغرافيا المناخ من أمطار وثلوج، وحر وقر، وخصوبة وجفاف فقط، بل أقصد كل هذه العناصر الجغرافية وهي في حالة تفاعل مع البشر أفراداً وجماعات، بلى إنني أقصد (الجغرافيا البشرية)، وأقصد (الجغرافيا السياسية/ جيوبوليتيك).
وعندما نأخذ هذه الحقيقة التاريخية والعلمية بالحسبان في قراءتنا للأحداث عاديّها وخطيرها، وقديمها وحديثها، وفي تحليلنا للأمور صغيرها وكبيرها، نصبح أقدر على فك كثير من الطلاسم في تاريخ البشر، كما نصبح أكثر معرفة بالعوامل الحقيقة التي وقفت وراء كثير من الأحداث الكبرى، وليس هذا فحسب، بل نصبح أكثر قدرة على فهم الأحداث الكبرى المعاصرة، ونغدو أقدر على تأسيس المستقبل لأجيالنا القادمة.
قزلْ قُورْت!..
وأكتفي هاهنا بالوقوف عند مثال بسيط جداً.
إنه عبارة ( قِزِّلْ قُورْت )!
فمن من الكرد في منطقة عفرين لم يسمع هذه العبارة في معرض السخط والاستنكار؟! ومن منا لم يسمعها من الأمهات، وأحياناً من الآباء، وهم يعبّرون عن غضبهم على هذا الصبي أو ذاك، إما لأنه قال ما لا يجب أن يقال، وإما لأنه فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وإما لأنه ألحّ على طلب شيء ما إلحاحاً تجاوز به المألوف؟!
إنها عبارة كثيرة التداول في مجتمعنا الكردي، ولم أسمعها في البيئات الاجتماعية العربية الصرف، سوى تلك التي خالطها الكرد منذ قرون كالبيئة الحلبية، فقد سمعتهم يلفظونها للأغراض السابقة الذكر، لكن بصيغة ( أِزِّلْ أُورْت )؛ أي بإبدال القاف همزة حسب اللهجة الحلبية المعروفة.
بلى، إننا سمعنا عبارة ( قِزِّلْ قُورْت ) صغاراً، وربما قلناها كباراً، وكنا ندرك دلالتها في الحالين، لكن لم يخطر لنا قط أن نحلّلها لنعرف كنهها، شأنها في ذلك شأن كثير من العبارات التي نقولها عفوياً، دونما وقوف عند جذورها؛ وهذا في الحقيقة ميدان لغوي دلالي ما أمتعه وما أنفعه إذا أحسن المرء القيام به!
وكي نفهم حقيقة ( قِزِّلْ قُورْت ) لا بد من العودة إلى الجغرافيا، وإلا فلن ندرك دلالتها الحقيقة، وآمل أن يكون القارئ صبوراً بعض الشيء؛ فمثل هذه الأمور التي تكوّنت وتطورت عبر القرون، وساهمت عوامل عديدة ومتشعبة في تكوينها، وانتقلت من جيل إلى جيل، لا ينفع معها الارتجال والتعجّل، ولا بد من القيام برحلة تاريخية متأنية عبر الميثولوجيا، والسياسة، والاقتصاد، والفولكلور، إلى أن يستقر بنا التطواف أخيراً في رحاب الجغرافيا.
ولنبدأ الرحلة.
إن عبارة ( قِزِّلْ قُورْت ) ليست كردية صرفاً، فاللفظ الصحيح للجزء الأول فيما أعلم، هو ( قِزِلْ )من غير تشديد لحرف (ز)، وقد تكون كلمة ( قِزِل ) كردية وقد تكون تركية، ولست متأكداً من هويتها، وحبذا أن يتفضل عليّ من له دراية جيدة باللغتين بتحديد انتمائها الدقيق! وكلمة ( قِزِل ) تعني فيما أعلم (أغبر/ضارب إلى الحمرة). أما كلمة (قورت) فهي تركية صرف تعني (ذئب)، وهكذا فعبارة ( قزل قورت ) تعني (الذئب الأغبر)؛ أي الذئب الذي في لونه حمرة؛ وهكذا فإن أمهاتنا وآباؤنا عندما كانوا يؤنّبوننا أو يردعوننا بعبارة ( قِزِلْ قُورْت) إنما كانوا يدعون علينا بأن نصبح فريسة للذئب الأغبر.
وقد يقال: أين المشكلة!
فالذئب حيوان معروف بشراسته، وكان معظم الكرد قديماً يملكون قطعان الغنم (كُوچَر)، ويرتادون بقطعانهم الجبال، ويضطرون من ثم إلى خوض صراعات مريرة ضد الذئاب المتربصة بهذه الشاة القاصية أو تلك. ثم لا ننس أن الذئب قد دخل الموروث الإسلامي أيضاً، وذلك عبر قصة النبي يوسف عليه السلام في القرآن، ومن الطبيعي أن تدخل رمزية الذئب في الثقافة الكردية عامة، وفي الفولكلور الكردي خاصة، بهذه الدلالة المخيفة.
نقول: إن رمزية ( قِزِّلْ قُورْت ) أبعد من مسألة الصراع بين الرعاة والذئاب، وأقدم من العهد الذي اعتنق فيه الكرد الإسلام، إنها تعود في جذورها إلى الصراع التاريخي الطويل بين العرق التَوْراني ممثَّلاً في (الغُزّ، المغول، التتر، التركمان، الترك)، والعرق الآرياني ممثَّلاً في (الكرد والفرس). ولست هنا بصدد الحديث عن الصراعات بين الأعراق المتجاورة، لكن تلك هي الحقيقة إذا كنا من محبي معرفة الحقائق كما هي، من غير تحوير ولا تجميل.
فالمعروف في كتب المصادر التاريخية الموثّقة أن شعوب العالم مرت بمرحلة ميثولوجية (دينية بدائية) عرفت بالمرحلة الطوطمية، وحينذاك كان الوعي البشري بسيطاً وساذجاً وقاصراً، فتصوّرت كل قبيلة، أو مجموعة بشرية، أن جدها الأول كان كائناً حيوانياً أو نباتياً معيناً، وكانت تتخذ ذلك الكائن حامياً لها وإلهاً تعبده، أو تتعامل معه بقدسية على أقل تقدير، وكانت تتخذه من ثَم رمزاً خاصاً لها. ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه القيّم (تاريخ الدولة العثمانية، الجزء الأول، ص 22) أن الأتراك يعتقدون أن الجد الأكبر لسلالتهم هو الذئب الأملح؛ أي الضارب إلى الحمرة، لذلك فهو أي الذئب رمز وطني للأتراك. ويؤكد ميرسيا إيلياد هذه الحقيقة في كتابه (التنسيب والولادة الصوفية، ص 172).
وكانت بلاد توران، وهي تمتد من شرقي بحيرة قزوين حتى منغوليا الحالية، بلاداً صحراوية، فقيرة بموارد العيش، شحيحة بالأقوات، شأنها في ذلك شأن معظم البيئات الصحراوية في كوكبنا هذا، ولا يخفى أن البيئات الصحراوية تفرض على المجتمع طابع البداوة، وتنمّي في الإنسان نزعة (الصراع من أجل البقاء)، وتؤسس في النفس والعقل قيم القسوة والشراسة والبطش، كما أنها تجعل المرء مضطراً إلى القيام بالغزو والسلب والنهب؛ كي يضمن لنفسه الاستمرار في الحياة.
وكان من الطبيعي أن يتوجّه التورانيون بغزواتهم نحو مواطن جيرانهم الآريانيين في الجنوب والغرب (أفغانستان، وإيران، وكردستان)، وهي مناطق تمتاز بالخصب والحضارة، وكان من الطبيعي أيضاً أن يدور صراع شديد بين التورانيين والآريانيين للسيطرة على المكان (الجغرافيا)، وفي ملحمة (الشاهنامة) للشاعر الفارسي الفردوسي، وفي غيرها من المصادر التاريخية الفارسية مثل كتاب (الأساطير الإيرانية القديمة) للدكتور إحسان يار شاطر، شواهد كثيرة على حدّة الصراع بين الفريقين، وكان الكرد ميديين وغير ميديين، والفرس أخمينيين وغير أخمينيين، يتبادلون مواقع القيادة في الحرب ضد التورانيين، تارة لرد هجماتهم على مواطن الآريانيين، وأخرى لإخضاعهم.
وقديماً كانت كل قبيلة تحمل في حروبها رايات أو شعارات أو أشكالاً ترمز إلى طوطمها الأكبر، ولا ريب أن التورانيين كانوا يحملون معهم في غزواتهم وحروبهم ما يرمز إلى جدهم الأعلى الطوطمي (قزلْ قُورْت)، (تذكروا معي هاهنا أن الحملة التي شنتها تركيا على شمالي قبرص، لإقامة جمهورية قبرص التركية، كان اسمها: الذئب الأغبر، فيما أذكر). كما أن الآريانيين كانوا يحملون معهم ما يرمزون به إلى (الشمس) باعتبارها إلههم الطوطمي الأقدم، أو باعتبارها رمزاً إلى (الله).
وتفيد الروايات التاريخية أن النبي الآرياني الميدي (زردشت) نفسه قُتل على أيدي التورانيين في معبده، خلال إحدى هجمات التورانيين على مدينة ( بَلْخ ) في شرقي بلاد آريان (شمالي أفغانستان حالياً)، وتذكر المصادر التاريخية أن التورانيين الذين قتلوا زردشت مع ثمانين من مريديه داخل المعبد كانوا قد تخفّوا في شكل الذئاب، والأرجح أن تلك الذئاب كانت من صنف (قزلْ قُورْت).
وظل الآريانيون فرساً وكرداً عرضة للهجمات التورانية طوال التاريخ الإسلامي، بدءاً باندفاعات الغُزّ (الأُوغُوز) المدمرة، ومروراً بهجمات الخُوارزميين، والمغول، والتتار، والسلاجقة، وانتهاء بالعثمانيين. والحق أن الكرد كانوا، طوال تاريخهم القديم والحديث، أكثر الشعوب الآريانية التي تضررت من الغزوات التورانية، وكان لهم النصيب الأوفى من شراسة ذلك ال (قزلْ قُورْت).
فهل من العجب في شيء أن تتجذّر تلك العبارة المقيتة في اللاوعي الجمعي الكردي، وتدخل إلى الفولكلور الكردي، وتصبح رمزاً إلى الترهيب والتخويف، وتدور على الألسنة بشكل عفوي؟! وهل ترون كيف أن جغرافيا توران الصحرواية الفقيرة، وعبر قرون متتابعة، أوصلت إحدى منتجاتها الثقافية إلى الكرد صغاراً وكباراً حتى في منطقة عفرين النائية؟!
صفويون .. وعثمانيون
وأعلم أني قد استطردت بعض الشيء.
لكن كان من الضروري ألا أكتفي بالتنظير، وشعرت أن من المفيد ذكر ولو مثال واحد على الصلة الوثيقة بين الجغرافيا والتاريخ؛ أقصد التاريخ بكل مكوّناته الميثولوجية والفولكلورية والسياسية والاقتصادية.
والحقيقة أن الصراع التوراني- الآرياني لم يتوقف، بل كان كالنار تحت الرماد تارة، وكان يندلع على شكل حروب تارة أخرى، وقد استطاع الفرس تهميش الدور الكردي في منطقة آريان (فارس وكردستان وأذربيجان)، منذ هيمنة الأخمينيين على الدولة الميدية حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد، لكنهم كانوا بحاجة على الدوام إلى الاستقواء بالجغرافيا الكردية، وبالقوة القتالية الكردية، للوقوف في وجه التورانيين المتطلّعين إلى الشرق والجنوب، وفعلوا الأمر نفسه حينما تصدوا للفتوحات الإسلامية التي قادها العرب. وما الصراع البويهي السلجوقي، في العصر العباسي، إلا شكل آخر من أشكال الصراع الآرياني- التوراني.
ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي، برز الصراع الآرياني- التوراني في صيغة الصراع الصفوي (الفارسي) والعثماني (التركي)، وقاده من الجانب الفارسي الشاه إسماعي الصفوي (حكم بين سنتي 1501 – 1524م)، ومن الجانب التركي السلطان سليم الأول (حكم بين سنتي 1512 – 1520 م). وكانت كردستان والعراق، على الدوام، في بؤرة الصراع بين الفريقين.
وقبل الحديث عن القائد الكردي كريم خان زَنْد لا بأس من وقفة سريعة عند نشأة الدولة الصفوية، تلك الدولة الإمبراطورية التي شمل نفوذها إيران وأفغانستان وبلوشستان وخوزستان، إضافة إلى أذربيجان وشرقي كردستان، وأحياناً قليلة العراق. إن الجد الأعلى للشاه إسماعيل الصفوي هو الشيخ صفيّ الدين الأَرْدَبِيلي ( 1253- 1334م)، وﮪو منسوب إلى الإمام موسى الكاظم سابع الأئمة عند الشيعة الإمامية، وصفيّ الدين ﮪو أول شيوخ الطريقة الصفوية.
وفي عهد الشيخ علاء الدين علي (1392 – 1448م) حدث الاجتياح التيموري للعالم الإسلامي، وكان تيمورلنك شيعيّ الهوى، وكان يُجلّ الشيخ علاء الدين، وإكراماً للشيخ أفرج تيمورلنك عن ثلاثين ألفاً من التركمان الذين كان قد أسرهم في حروبه ضد السلطان العثماني بايزيد الأول، ووهبهم له، فصار هؤلاء وأبناؤهم وأحفادهم فيما بعد من أبرز مريدي الأسرة الصفوية، وكانوا يشكلون القوة الضاربة في حروبها الكثيرة ضد العثمانيين.
وفي عهد الشيخ سلطان حيدر (1460 – 1488م) انتقلت الطريقة الصفوية من الطور الديني إلى الطور العسكري؛ إذ نظّم هذا الشيخ مريديه تنظيماً عسكرياً جيداً، واختار لهم لباساً خاصاً يتميّز بقلنسوة حمراء ذات اثنتي عشرة شقّة (تيمّناً بالأئمة الاثني عشر)، لذا عُرف الصفويون من قبل الترك العثمانيين بلقب (قِزِلْ باش)؛ أي أصحاب الرؤوس الحمر.
ويعدّ الشاه إسماعيل الصفوي المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وهو الذي فرض المذهب الشيعي على الشعوب الإيرانية، وعمل للقضاء على المذهب السني، كما أنه خاض حروباً طاحنة ضد العثمانيين حماة المذهب السني، والحقيقة أن الصراع الشيعي والسني كان غطاء خارجياً براقاً لصراع أعمق جذوراً وأطول تاريخاً؛ هو الصراع على الجغرافيا والنفوذ بين سلالة توران وسلالة آريان، وبعبارة أخرى بين الثقافة الآرياينة والثقافة التورانية.
وفي سنة (1722م) أنهى نارد شاه- من قبيلة أفشار التركمانية الأصل- حكم الأسرة الصفوية، لكن عدّه معظم الإيرانيين مغتصباً للعرش، يعتزم إزالة المذهب الشيعي وإعادة المذهب السني، فاغتاله القواد الشيعة سنة (1747م)، في معسكره بمدينة فتح أباد في خبوشان، وكان نادر شاه جاء إليها بجيشه للقضاء على ثورة للكرد نشبت هناك. وإن هذا الزوال السريع لحكم نادر شاه تبعته فوضى عامة في فارس والقوقاز والأقاليم المجاورة لتركيا، وأدى النزاع بين الزعماء القبليين على العرش الفارسي إلى حروب طاحنة جديدة.
وفي خضم تلك الصراعات والحروب الطاحنة برزت الجغرافيا الكردية ثانية، وبرزت معها القوة القتالية الكردية الفاعلة، لتترك بصماتها على المسرح السياسي والحضاري في بلاد آريان، وحدث ذلك بقيادة شخصية كردية بارزة، هو كريم خان زَنْد. فكيف جرت الأمور؟
ظهور كريم خان
يتألف الكرد، في حدود ما أعلم، من أربعة فروع كبيرة رئيسة، هي: الكرمانج في الشمال، والگوران في الوسط، والكلهور واللور في الجنوب. وتنتمي قبيلة زَنْد إلى فرع اللور، وموطنهم في لورستان بجنوب غربي إيران حالياً، وكان اسم المنطقة التي يقيم فيها الزنديون (ملاير)، وكان الزنديون يثورون على كل من نادر شاه والعثمانيين معاً، فهاجمهم نادر شاه بقسوة، وقضى على ثورتهم، وأكره قسماً كبيراً منهم على الهجرة إلى خراسان شرقاً، وأسكنهم حوالي مدينة أَبِيوَرْد، ليكونوا في مواجهة التركمان الغزاة القادمين من الشرق والشمال، وكانت هذه سياسة متبعة ضد الكرد منذ العهد الآشوري.
وبعد مقتل نادر شاه على أيدي القواد الشيعة كما مر، عيّن أولئك الزنديون المهجّرون كريم خان قائداً لهم، وكان كريم خان قبل ذلك من قوّاد نادر شاه القدامى، وكان صاحب خبرة وتجربة في ميادين القتال، فأحسن استغلال الظروف، وعاد بالزنديين إلى موطنهم الأصلي ملاير في لورستان، يعاونه في ذلك أخوه صادق، هذا رغم الأخطار التي كانت تحدق بهم خلال رحلة العودة تلك، ومنذ ذلك الوقت أصبح كريم خان زعيماً لقبيلة زند عن جدارة.
وفي عام (1750م)، ونتيجة لتفاقم الصراع على السلطة في فارس، أعلن مراد خان، زعيم قبائل بختياري (فرع من الكرد فيما أعلم)، نفسه وصياً على عرش بلاد فارس، وتحالف معه كريم خان، فحاربا معاً الغزاة الأفغان، وحققا انتصار عليهم، ولكن سرعان ما دبت الخصومة بين الزعيمين، وتغلّب كريم خان على مراد خان في النهاية، واعترف به الجيش وصياً على عرش بلاد فارس.
وأسّس كريم خان دولة متماسكة قوية، واتخذ مدينة شيراز في جنوبي فارس عاصمة لحكمه، وهي المنطقة التي نشأت فيها السلالات الأخمينية والساسانية قديماً، وبدعم من جماعته اللُّور المخلصين، ومن عشائر بختياري، ومن الخيالة العرب، حارب كريم خان منافسيه والحق بهم الهزيمة، وكانت النتيجة أن ساد السلام والرخاء في بلاد فارس طوال حكمه حوالي عشرين عاماً.
وبعد وفاة كريم خان زند تولّى السلطة كردي آخر هو لُطْف علي خان، زعيم اتحاد قبائل اللور، ولكنه لم ينجح في مكافحة سلالة قاجار Kajar، وهي قبيلة تركمانية كان مركزها في طهران، وكانت تشد قبضتها على شمالي فارس. وقد نُصب كمين للزعيم الكردي لطف علي خان، وسُلّم إلى آغا محمد خان، مؤسس السلالة القاجارية، فقتله في ديسمبر/ كانون الأول (1793م)، بعد أن اقتلع عينيه.
وخشية من انبعاث نهضة كردية جديدة في جنوبي بلاد فارس، وفي لورستان وأراضي بختياري خاصة، عمد ملوك قاجار التركمان إلى مضايقة الأمراء والشخصيات المنحدرين من سلالة كريم خان زند بقسوة، فأعدموا بعضهم جهراً، وقتلوا آخرين سراً، ولذلك لم تستطع القبائل الكردية في فارس أن تكون قوة سياسية حتى العصر الحديث.
إنجازات كريم خان
أصيب كريم خان في آخر عمره بالسل، وكان قد تجاوز الخامسة والسبعبن، وفي رواية أنه تجاوز الثمانين، وتوفّي في عاصمته الجميلة شيراز سنة (1193 ﮪ/1779 م)، ويشهد المؤرخون أنه كان أحد ملوك إيران المحمودي الذكر والطيبي السيرة؛ إنه كان محباً لرعيته، حسن المسلك معهم، يعيش ببساطة شديدة، غير مكترث لبهارج السلطة وترف العيش، حتى إنه رفض طال حكمه قبول لقب (ملك) و(سلطان)، رغم أنه كان جديراً بهما، وسمّى نفسه طوال حكمه بلقب (وكيل الرعايا)، وكان لا يحقد ولا يقسو، ويقول عباس إقبال الآشتياني في كتابه (تاريخ إيران من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية):
“ولا يزال جارياً على ألسنة الناس حكايات وأساطير كثيرة، تحكي بساطة حياة كريم وحسن معاملته، وسعيه لتحسين أحوال الشعب “.
وذكر شاهين مكاريوس في كتابه (تاريخ إيران) مزايا حكم كريم خان قائلاً:
” فحكم مدة طويلة حكماً لم يسمع في إيران بأحسن منه، واطمأنت قلوب الأهالي، وبطلت الأهوال والمذابح من بلادهم، ومُنعت المظالم والمغارم، وراجت الصناعة والتجارة والزراعة، وتحسّنت موارد الأهالي تحسّناً بيّناً، وكثرت موارد الثروة “.
وأضاف مكاريوس واصفاً اهتمام كريم خان بالعمران والازدهار:
“وجعل شيراز عاصمة ملكه، وبنى فيها أبنية فخمة، مثل البساتين والأسواق والحمامات والجوامع التي لا تزال باقية إلى الآن،… وأحسن إلى الأمناء من أهل دولته، وشدّد على الظالمين، وأتى كل ما في وسعه لتعميم الأمن والعدل في البلاد، فتم له ذلك “.
– – – –
إن سيرة القائد الكردي كريم خان في بلاد فارس تعيد إلى الذاكرة سيرة قائد كردي آخر سبقه بستة قرون، وحكم مصر والسودان وليبيا وبلاد الشام والحجاز، وجزءاً كبيراً من كردستان، إنه السلطان صلاح الدين الأيوبي، وثمة قواسم مشتركة عديدة بين هذين القائدين، من أبرزها:
– العبقرية العسكرية.
– العبقرية السياسية والإدارية.
– الاهتمام بتحسين أحوال الرعية.
– الاهتمام بالحضارة والثقافة والعمران.
– بساطة العيش والنزعة الإنسانية النبيلة.
المصادر
1 – الدكتور إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ترجمة محمد صادق نشأت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
2 – شاهين مكاريوس: تاريخ إيران، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2003م.
3 – عبّاس إسماعيل صبّاغ: تاريخ العلاقات العثمانية- الإيرانية، دار النفائس، بيروت، 1999م.
4 – عباس إقبال الآشتياني: تاريخ إيران من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، ترجمة الدكتور محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م.
5- ميرسيا إيلياد: طقوس التنسيب والولادة الصوفية، ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1999.
6 – نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية (مزديسنا)، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 1999م.
7 – يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سليمان، منشورات فيصل للتمويل، إستانبول، 1988م. الجزء الأول.
Arshak Safrastyan: Kurds and Kurdistan,The harvill Press LTD, -London, 1948.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة عشرة.
[1]