مشاهير الكرد في التاريخ ( الحلقة الخامسة والأربعون ) سمرديس الميدي وخفايا الصراع الميدي الأخميني ( قُتل سنة 521 ق.م)
د. أحمد الخليل
إشكاليات!
قراءة التاريخ القديم أمر ممتع، لكنه لا يخلو من إشكاليات.
وتتفاقم الإشكاليات حينما يتعلق الأمر بتاريخ الكرد.
وفي الحالين لا بد من مراعاة أمور أربعة:
الأمر الأول: معرفة النية المبيّتة وراء تثبيت المعلومة وتوجيهها؛ إذ لا كتابة للتاريخ من غير نوايا، والمؤرخ في كل عصر ينتمي إلى ثقافة ما، وإلى رؤية ما، وهو مرتبط في النهاية بشبكة مصالح اجتماعية، أو دينية، أو مذهبية، أو قومية، أو قبلية، ولا بد أن يكون لطبيعة انتمائه تأثير في ذكر المعلومات أو إخفائها، وكذلك في الطريقة التي يفسر بها الأحداث؛ والحقيقة أن في التاريخ القديم والحديث شواهد لا تحصى على العلاقة بين النيات المبيّتة وسرد الحدث التاريخي.
والأمر الثاني: تحرير سرد الحدث التاريخي من سطوة الخرافة والأسطورة، ومن التلفيقات والخزعبلات وضبابيات الميتافيزيقا، ووضعه في سياقه الواقعي بيئياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ثم التعامل معه بواقعية وموضوعية، ثم البناء عليه. وإلا فسنظل هائمين على وجوهنا (خارج التاريخ)، متوهّمين في الوقت نفسه أننا نتحرك (داخل التاريخ)، ومعروف علمياً أن المقدمات الخاطئة لا يمكن أن توصلنا إلى نتائج صائبة.
والأمر الثالث: إضافة إلى النيّات المبيّتة، تضليلات السرد الأسطوري، لم يكن المؤرخون القدماء يمتلكون الوسائل الكفيلة بالحصول على المعلومات على نحو دقيق ومتكامل، فكانوا يضطرون إلى تدوينها كما هي، ونجم عن ذلك وجود فراغات وفجوات في السرد التاريخي؛ الأمر الذي يحول دون ربط الأحداث بعضها ببعض ربطاً محكماً، ويقود القارئ إلى مناطق مظلمة لا يدري كيف يسير فيها، ويوصله في النهاية إلى نتائج مشوِّشة غير دقيقة وغير منطقية.
والأمر الرابع: لم يصلنا جميع ما دوّنه المؤرخون القدماء، فالوسائل البدائية (أوراق البردي، الفخار، الجلود، النصب التذكارية) التي كانت تستخدَم في تدوين التاريخ لم تساعد على بقاء المعلومات زمناً طويلاً، هذا عدا أن الحروب كانت تدمّر مدناً بأكملها، وتقضي على معظم ما كان يحتفظ به الطرف الخاسر من معلومات، وحسبنا شاهداً على ذلك أن الإسكندر المكدوني حينما انتصر على الملك الأخميني دارا الثالث سنة (331 ق.م)، هدم المعابد الزردشتية (بيوت النيران)، وقتل الهَرابِذة (مفرد هَرْبِذ= آرْ بِدْ= مُوقد النار)، وأحرق كتاب الأفستا للنبي الآرياني زَرْدَشت، وكان مكتوباً في اثني عشر ألف جلد من جلود البقر. (المقدسي: البدء والتاريخ، 3/153)، هذا مع العلم أن الاسكندر كان تلميذ الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو، وكان من المفترض أن يتعامل مع تراث الشعوب بقدر أكبر من الاحترام، وإذا كان الاسكندر نهج هذا النهج فما بالك بالملوك الجهلة وأشباه الجهلة؟!
ما معنى كل هذا؟!
ومن الضروري مراعاة هذه الأمور الأربعة في الحديث عن سميرديس الميدي، والصراع المرير بين الفرس الأخمين والميديين، والمصدر الرئيسي للمعلومات الخاصة بهذا المجال هو ما دوّنه المؤرخ اليوناني هيرودت (484 – 426، أو 425 ق.م)، وقد ذكر أنه جمع تلك المعلومات من ” رواية الثقات من الفرس ” [تاريخ هيرودوت، ص 77]. والغريب أنه لم يستق معلوماته من شخصية ميدية؛ مع أن الميديين كانوا موجودين، إذ صحيح أن كورش الأخميني قضى على الدولة الميدية سنة (558 ق.م)، أو سنة (550 ق.م)، لكن لم يقض على جميع الميديين.
ولا فائدة من أن نعزو غياب الجانب الميدي في رواية الأحداث إلى تحيّز هيرودوت للجانب الأخميني، فالرجل يوناني مخلص لقومه، وكان الأخمين يحتلون حينذاك مواطن اليونانيين في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وبعض الجزر اليونانية الهامة في بحر إيجا، إضافة إلى أنهم هاجموا اليونان في عقر دارهم، وكادوا يحتلون أثينا نفسها سنة (490 ق.م)، لولا هزيمتهم أمام اليونانيين في معركة ماراثون، ثم إنه عاصر في طفولته وصباه أحداث الصراع بين الفرس واليونان، في عهد الملك الأخميني أحشويرش (اكزركيس) بن دارا، وفي عهد ابنه أرتحششتا.
وأحسب أن اكتفاء هيرودوت باستقاء المعلومات من الفرس فقط هو جزء من ظاهرة تاريخية طويلة الأمد، وخطيرة النتائج؛ ألا وهي حرص جهات إقليمية، في غربي آسيا، وبتخطيط مسبق، على تغييب التاريخ الكردي منذ ألفين وخمسمئة عام، رغبةً منها في طمس وجود هذا الشعب، والرمي به خارج التاريخ البشري، بل خارج الكرة الأرضية، وهنا مكمن الخطر الأكبر؛ ليس على الكرد فقط، بل على شعوب غربي آسيا، وعلى البشرية جمعاء، لأن من يتعامل مع شعب ما بذهنية إلغائية إقصائية في هذا المستوى من التطرف يكون على استعداد، إذا سنحت له الفرصة، لأن يتعامل بالذهنية نفسها مع سائر شعوب العالم.
والحديث عن ظاهرة تغييب التاريخ الكردي والوجود الكردي ليس حديثاً عن كائنات خرافية كالغول والعنقاء والسِّعْلاة؛ وإنما هو حديث عن حقيقة واقعة؛ إذ ما معنى أن يتوافر في المكتبة الغرب آسيوية، حتى النصف الأول من القرن العشرين، مئات الكتب عن جيران الكرد فرساً وتركاً وعرباً وأرمناً، أما عن الكرد فلا شيء سوى ما كتبه بعض الرحّالة الروس والغربيين، وبعض المبشرين، ونشروها في بلدانهم، وسوى ما كتبه بعض الكرد ونشروه خفية، وأحياناً بأسماء مستعارة؟
ثم ما معنى أن كثيرين من المثقفين العرب، دعك من الناس العاديين، لا يعرفون عن الكرد إلا القليل، بل إن ذلك القليل نفسه لم ينج من التشويه العارض أو المتعمَّد، وهو في مجمله معلومات مستقاة من وسائل الإعلام، وليس من دراسات موضوعية جادة؟ ومعروف أن آخر ما تهتم به أجهزة الإعلام في غربي آسيا هو تعريف شعوب هذه المنطقة بعضها ببعض الآخر، وأن أول ما يهمها هو تأليب هذا الشعب ضد ذاك، وزرع كراهية هذا الشعب في نفس ذاك؛ فهذا الشعب (مجوسي!)، وذاك (بِسْ مِلَّتْ = شعب رديء)، وآخر (أتراك الجبال وأشقياء!)، وهكذا دواليك.
وما معنى أنه كلما ذكرت لطلبتي- وهم جامعيون- أني كردي، تعجّبوا بل دهشوا، وراحوا يبدئون فيّ النظر ويعيدونه، وكأنهم يكتشفون كائناً عجيباً غريباً قادماً من كوكب بعيد؟ وما معنى أنهم لا يعرفون، بل لا يستطيعون استيعاب وجود شعب اسمه (الكرد) في الشرق الأوسط كله إلا إذا ذكرت أن صلاح الدين الأيوبي منهم، وأن أحمد شوقي أمير شعراء العرب في العصر الحديث منهم؟ هل يعني هذا أنه لولا وجود صلاح الدين وأحمد شوقي وأمثالهما ما كان للكرد حق الوجود؟
ثم بالله عليكم دققوا النظر في أحداث العالم طوال القرن العشرين، وإلى يومنا هذا، ألا تجدون أن نصف المشكلات الكبرى والتناحرات القومية والدينية والمذهبية ظهرت وتظهر في الشرق الأوسط، وتحديداً في غربي آسيا، علماً بأن مساحتها لا تساوي إلا عُشر مساحة العالم المسكون أو أقل؟ وهل وصلنا إلى هذه النتائج المخيفة إلا بسبب ذهنيات الإلغاء والكراهية؟ وهل كانت ظاهرة تغييب التاريخ الكردي والوجود الكردي إلا واحدة من تلك النتائج؟
والسؤال الجدير بالبحث فيه هو:
من كان أول من غيّب تاريخ الكرد في غربي آسيا؟
باختصار: إنهم الأخمين.
وكانوا يسترشدون في ذلك بوصية خطيرة، هي (وصية قمبيز).
فماذا عن تلك الوصية؟
وصية قمبيز
إن سيكولوجيا الجبال ترفض القبول بالدكتاتورية والاستبداد وفرض الرأي الواحد بالقوة، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير نشوء دول المدن السومرية، وعدم ظهور دولة سومرية مركزية واحدة، فالسومريون شعب آري الأصل، انحدر من جبال كردستان، واستقر في جنوبي بلاد الرافدين. وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير نفور اليونان القدماء من الساسة الطغاة، وثورتهم عليهم، ونشوء جمهوريات المدن.
والميديون هم أبناء الجبال في الدرجة الأولى، وتهيمن عليهم سيكولوجيا الجبال، لذلك لم تكن الدولة الميدية استبدادية التكوين عندما نشأت، ولا حتى عندما تحوّلت إلى شبه إمبراطورية بعد إسقاط الدولة الآشورية سنة (612 ق.م)، إنها كانت تتألف من اتحاد فيديرالي يضم سبعاً وعشرين قبيلة حسبما يذكر ول ديورانت، أي سبعاً وعشرين تكويناً سياسياً يتمتع بالإدارة الذاتية، لقد كانت الأمور كذلك في عهد كل من دياكو، وفراورتيس، وكَي خسرو، لكنها تغيّرت مع وصول أستياجيس إلى السلطة، فقد جرّد الدولة من طابعها المَلكي اللامركزي، وحوّلها إلى مَلكية استبدادية.
وكان النهج الاستبدادي الذي أخذ به أستياجيس في إدارة شؤون الدولة، وانهماكه في البذخ والترف، وحدوث الانقسامات بين القيادات الميدية، وظهور بوادر الصراع على السلطة، وانغماس المجتمع الميدي في حياة الدعة والرخاء، إضافة إلى خيانة قادة كبار من أمثال هارپاك، من أهم العوامل التي أتاحت للحاكم الأخميني المجاور كورش الثاني، أن يطيح بالدولة الميدية، ويؤسس الدولة الأخمينية على أنقاضها، ولا ريب في أن كورش كان يتمتع بالذكاء والدهاء والشجاعة، ويتجلّى ذلك في الإفادة من الإنجازات الميدية الحضارية، وفي إسناد مناصب عسكرية عليا إلى بعض كبار الشخصيات الميدية، مثل هارپاك ومازاريس، يقول ديورانت: “وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية[أستياجيس] ، وارتضوه [كورش] ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد بالاحتجاج عليه ” (قصة الحضارة، مجلد 1/ ج 1، ص 402).
واستطاع كورش بهذه السياسة تحقيق هدفين:
الأول: إسكات الميديين وإشعارهم بأن الدولة دولتهم، وخاصة أنهم أخواله، باعتبار أن أمه ماندانا ابنة أستياجيس، وأنه تربى في قصر جده الملك الميدي، وتأثر بالثقافة الميدية، ويعرف كل من له خبرة بالمجتمع الكردي مدى تعاطف الكرد مع أولاد بناتهم وأخواتهم، وحسبنا مثالاً على ذلك تعاطفهم مع الأمير العربي أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان (كانت أمه كردية) حين أعلن الثورة على العباسيين في الموصل سنة (301 ﮪ)، وتعاطفهم بعدئذ مع ابنه سيف الدولة الحمداني نفسه، باعتبار أن أمه كانت كردية أيضاً. (تاريخ ابن خلدون، 7/520. وأحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111).
والثاني: استثمار طاقات الشعب الميدي العسكرية والاقتصادية في احتلال الدولة البابلية في الجنوب الغربي، والدولة الليدية في الشمال الغربي، وإعلان الحرب على شعب الماسّاجيتاي Massagetae ، حينما غزا بلادهم (شرقي بحر قزوين).
لكن الأمور اختلفت بعد مقتل كورش في حربه ضد الماسّاجيتاي سنة (530 ق.م)، فخلال حكمه هيمن الأخمين على مقاليد الأمور، ودفعوا بالميديين رويداً رويداً إلى الظل، وهم قد فعلوا ذلك بعد أن استيقظ بعض قادة الميد من غفلتهم، وأدركوا أنهم، بسكوتهم على النفوذ الأخميني، إنما كانوا يحكمون على أنفسه بالتبعية والعبودية، قال ديورانت: ” وما هي إلا وقعة واحدة حتى انقلبت الآية، فلم تعد ميديا سيدة فارس، بل أصبحت فارس سيدة ميديا، وأخذت تعدّ العدّة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله“. (قصة الحضارة، مجلد 1/ ج 1 ص، 402)، هذا وتكرّس استئثار الأخمين بالسلطة في عهد قمبيز بن كورش (حكم بين 530 – 521 ق.م).
وقد قاد قمبيز حملة لغزو مصر سنة (525 ق.م)، وكانت تنتابه نوبات من الصرع، كما كانت تنتابه نوبات غضب جنوني، فارتكب كثيراً من الفظائع، سواء أكان في تعامله مع المصريين، أم في تعامله مع الأخمين، ومنها أنه أمر بنش القبور وجلد الموتى، وأمر بجلد كهنة الإله أبيس في مصر، وأمر بإعدام كل مصري يحتفل بعيد ذلك الإله، وأمر صديقه الأخميني بركساسبيس بالسفر من مصر إلى العاصمة الأخمينية سوسا، وقتل أخيه (أخي قمبيز) سمرديس، لأنه رأى في الحلم أن شخصاً قد حل محله في الحكم يدعى سميرديس، ومنها أنه رمى ابن بركساسبيس بسهم أمام أبيه فقتله دونما أي ذنب، وتزوّج أخته روكسانا، رغم أن القانون الأخميني ما كان يبيح ذلك، ثم تزوّج أخته الثانية، وقتلها لأنها انتقدت سلوكه الدموي، وأمر بدفن اثني عشر رجلاً من قادة الفرس أحياء ورؤوسهم إلى الأسفل بتهمة تافهة، حسبما ذكر هيرودوت (تاريخ هيرودوت، ص 233، 234).
وحينما توجّه قمبيز إلى غزو مصر كان قد أوكل إدارة شؤون قصره إلى كاهن مجوسي يدعى پيرتزيثيس (يسميه هيرودوت باتيزيثيس أيضاً)، وكان پيرتزيثيس يعلم موضوع قتل سميرديس أخي قمبيز، وأن قلة من الفرس فقط لهم علم بالأمر، وأن جمهور الفرس يعتقدون أن سميرديس ما يزال حياً، وكان لپيرتزيثيس أخ اسمه سميرديس، وقد ذكر وليام لانجر أنه يسمى جوماتا أيضاَ (موسوعة تاريخ العالم، 1/93)، وكان شبيهاً بسميرديس بن كورش (أخي قمبيز)، فاستغل پيرتزيثيس حادثة مقتل سميرديس الأخميني، وأقنع أخاه بالجلوس على عرش فارس، يقول هيرودوت: “وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن سميرديس، وليس عن قمبيز” (تاريخ هيرودوت، ص 246).
ووصلت نسخة من البيان إلى قمبيز في سوريا، وهو في طريق عودته إلى فارس، فنظر إلى القائد الفارسي بركساسبيس قائلاً له:
– ” إذاً، فهكذا تنفّذ أوامري“!.
فأجابه بركساسبيس:
– ” يا مولاي، إن ما سمعت لكذب وافتراء، وأخوك سميرديس لم يتمرد عليك، ولن يكون لديك سبب للخلاف معه، فلقد نفّذتُ ما أمرتني به، ودفنت جثّته بيديّ هاتين، إذا كان الموتى ينهضون من قبورهم فبإمكانك أن تعتقد أن أستياجيس الميدي قد يعود ليشنّ حرباً عليك، … ونصيحتي لك أن تقبض على هذا الرسول وتستجوبه، لتعرف من الذي أرسله بأمر إطاعة الملك سميرديس“. (تاريخ هيرودوت، ص 246).
وأمر قمبيز بإحضار الرسول، وهدّده بأن يصدقه القول، وسأله:
– ” هل أعطاك سميرديس هذه الأوامر بنفسه أم أحد أتباعه؟ فأجاب الرجل: منذ أن رحل الملك قمبيز بجيشه إلى مصر لم تقع عيني على سميرديس بن قورش، والمجوسي الذي سلّمه قمبيز إدارة شؤون قصره هو من أعطاني هذه التعليمات، لكنه قال لي: إنها صادرة من سميرديس” (تاريخ هيرودوت، ص 247).
واتضح لقمبيز أن الكاهن المجوسي وأخاه قد قادا انقلاباً ضده، وحكما البلاد باسم أخيه المقتول سميرديس، وتبيّن له أن حياة أخيه راحت بلا جدوى، فاستبد به الغضب، وامتطى جواده، عازماً على الوصول إلى بلاد فارس للقضاء على مدبري الانقلاب، وحينما وثب على الجواد سقط غمد سيفه، وانكشف النصل، فأصيب بطعنة في فخذه، فمرض على أثر ذلك، وبعد عشرين يوماً شعر بدنوّ أجله، فأرسل في طلب قادة الجيش الفارسي، وخاطبهم قائلاً:
” يا رجال فارس، إن الظروف لتفرض عليّ أن أبوح لكم بما كنت قد بذلت قصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم خبر الحلم، وإصداره الأمر بقتل أخيه سميرديس نتيجة لذلك، وأنهم أصبحوا الآن محكومين من قِبل المجوسيين“. (تاريخ هيرودوت، ص 249).
وأضاف يقول:
” فلزم عليّ أن أبيّن لكم وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فباسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية آمركم، وخاصة الأخمينيين منكم الحاضرين هنا، ألاّ تدعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر. أما إذا فشلتم في استرداد السيادة، أو لم تقوموا بأية محاولة لاستردادها، فلتنزل عليكم لعنتي، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن نهاية كل فارسي بائسة مثل نهايتي” (تاريخ هيرودوت، ص 249).
فتأثر قادة الفرس وهم يجدون ملكهم يبكي والدموع تنهمر من عينيه، وأخذوا في تمزيق ثيابهم، وبالبكاء والعويل، ثم استفحل المرض بقمبيز، وتوفي دون أني يكون له عقب من الصبيان أو البنات.
حقائق.. لا خرافات!
تلك كانت وصية قمبيز لكبار قادة فارس.
وعلى ضوء هذه الوصية تتضح الأمور الآتية:
أولاً: إن الميديين استيقظوا على الحقائق المرة بعد سنوات قليلة من الحكم الأخميني، واكتشفوا أن الشراكة الأخمينية الميدية في قيادة الدولة الجديدة كانت طُعماً قدمه لهم كورش، فابتلعوه ودفعوا الثمن من حريتهم، فشرعوا يحاولون الخلاص، واستعادة الدولة الميدية.
ثانياً: إن الأخمين خاصة والفرس عامة كانوا يتخوّفون من قيام الميديين باسترداد السلطة، والعودة إلى حكم الفرس وغيرهم في غربي آسيا، وكان هذا الهاجس يثير قلق كبار قادة فارس، وخصوصاً بعد أن قام الميديون بأكثر من ثورة لنيل حريتهم، واستعادة مجدهم.
ثالثاً: إن ثمة قراراً صدر من أعلى الجهات القيادية في الدولة الأخمينية، قبل ألفين وخمسمئة عام، يقضي بأن يمنع الفرس بكل ما أوتوا من قوة- سواء أكانت قوة الخديعة أم قوة الحرب- قيام الدولة الميدية مرة ثانية، وبعبارة أخرى: أن يحول الفرس دون قيام دولة كردية، وبقاء الكرد إلى الأبد تحت قبضة الفرس، ومن يتتبّع العلاقات الكردية الفارسية طوال القرون الخمسة والعشرين الماضية يخرج بنتيجة واضحة وضوح الشمس؛ مفادها أن روحية وصية قمبيز كانت تحتل مكان الصدارة في كل السياسات الفارسية إزاء الكرد.
رابعاً: إن هذه الوصية كانت وراء تغييب التاريخ الكردي، والثقافة الكردية عامة، وكل ما يتعلق بالهوية الكردية، عن شعوب غربي آسيا، وإبقائها في طيّ الكتمان، سواء عن الأجيال الكردية أم عن الشعوب المجاورة.
خامساً: إن هذه الوصية كانت وراء تشويه سمعة الشعب الكردي، فإنك تجد في كتب التاريخ الغرب آسيوي مثلاً أن أصل الفرس والعرب والأرمن والترك من البشر الأسوياء، إلا الكرد، فإن تلك الكتب تجعلهم أبناء الجن تارة، وأبناء الشيطان تارة أخرى، ونتاج علاقة زنا بين الجواري الأوربيات وعفاريت النبي سليمان تارة ثالثة، والخلاصة أنهم ليسوا من أبناء آدم الأسوياء، إنهم دخلاء على الجنس البشري جملة وتفصيلاً، هذا إضافة إلى النيل من شأن الكرد، وتصويرهم على أنهم رعاة بدائيون.
ولست أبني هذا الرأي على الوهم، فالمعروف أن المعلومات الخاصة بأصل الكرد، على هذا النحو الخرافي، وصلت إلينا من كتابات المؤرخين المسلمين القدماء، والسؤال هو: من أين استقى أولئك المؤرخون تلك المعلومات؟ إذ لا شيء عن أصل الكرد في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولا في أقوال الصحابة، ولا في أقوال التابعين، ثم إن العرب قبل الإسلام لم يكن بينهم مؤرخون، أما في صدر الإسلام فذكر علماء النسب العرب، ومنهم أبو اليقظان سُحَيْم بن حَفْص (ت 190 ﮪ)، ومحمد بن السائب الكَلْبي (ت 146 ﮪ)، وابنه هشام بن محمد (ت 204 ﮪ)، أن الكرد من أصل عربي، ولم يذكروا مطلقاً هذه المعلومات الخرافية.
إذاً فالمصادر التي استقيت منها المعلومات الخاصة بالأصل الخرافي للكرد ليست عربية مطلقاً، والمثير للانتباه أن تلك المعلومات لم ترد في مدوَّنات العصر الأموي (قبل سنة 132 ﮪ)، وإنما تعود إلى مدوّنات العصر العباسي، وكل من يقرأ تاريخ العصر العباسي الذهبي ( 132 – 232 ﮪ/ 749 – 847 م) يعرف مدى هيمنة الفرس والسريان (حلفاء الفرس ضد البيزنطيين) على الحركة الثقافية حينذاك، ودورهم الهام في حركة الترجمة، هذا عدا هيمنة الفرس، وأتباع الثقافة الفارسية، على منصب الوزارة معظم الأحيان، وهذا يعني أن المسعودي (ت 346 ﮪ)، حينما أورد المعلومات الخرافية حول أصل الكرد في كتابه (مروج الذهب)، إنما استقاها من المصادر الفارسية أو السريانية بعد ترجمتها، وهي مصادر متحاملة على الميديين وأحفادهم الكرد كما مر.
مسار الانقلاب
ودعونا نتساءل: كيف سار الانقلاب الميدي؟
بعد وفاة قمبيز لم يصدق كبار قادة الفرس أن يكون سميرديس الميدي قد استولى مع أخيه پيرتزيثيس على الحكم، وزاد في اقتناعهم أن بركساسبيس نفى بشدة أن يكون قد قتل سميرديس بن قمبيز، خوفاً من العقوبة بعد وفاة حاميه قمبيز، واستمر سميرديس الميدي في الحكم سبعة أشهر، وأول ما اهتم به هو تحرير الشعوب المقهورة من جور ومظالم الحكم الأخميني، وعدم فرض الضرائب الباهظة عليهم، وعدم إرسال أبنائهم إلى ميادين الحروب الإمبراطورية، قال هيرودوت:
” وخلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين باستثناء الفرس؛ إذ إنه بُعيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية مدة ثلاث سنوات. لكن بعد سبعة أشهر من تولّيه الحكم أدّت الظروف التالية إلى افتضاح أمره” (تاريخ هيرودوت، ص 249).
وبطبيعة الحال لم يقف قادة فارس مكتوفي الأيدي، وصاروا يتابعون ملابسات الأمر بحرص وعناية، وكان أكثر من ارتاب في أمر سمرديس الميدي هو أوتانيس بن فرناسبيس، أكثر نبلاء الفرس ثراء، وأول ما لاحظه أوتانيس أن سميرديس لم يغادر التحصينات في العاصمة، ولم يقم باستقبال أيّ نبيل فارسي في جلسة خاصة بمعزل عن الآخرين، وكان سميرديس الميدي قد استولى على جمع زوجات قمبيز، وفرقهن، فجعل لكل واحدة منهن قصراً بعيداً عن قصر الأخرى، وكان من بينهن فيديم بنت أوتانيس، وطلب أوتانيس من ابنته سراً أن تتأكد هل هذا هو سميرديس بن كورش أم هو سميرديس الميدي، فأفادت فيديم أنها لا تستطيع التمييز، فهي لم تجد سميرديس بن كورش سابقاً.
وكان أوتانيس يعلم أن قورش غضب ذات مرة على سميرديس الميدي، فأمر بقطع أذنيه عقاباً له، فكتب إلى ابنته قائلاً: ” عليك القيام بما يلي: حينما يأتي لقضاء الليل معك، انظري حتى تتأكدي من أنه استغرق في النوم، ثم تحسسي أذنيه، فإذا وجدتهما فأنت زوج سميرديس بن كورش، أما إذا لم تكن له أذنان فستعلمين أنكِ زوج سميرديس المجوسي ” (تاريخ هيرودوت، ص 250). وحينما حلّت ليلة فيديم مع الملك سميرديس قامت بما طلب منها والدها، وتبيّن لها أن زوجها بلا أذنين، فأسرعت في اليوم التالي إلى إخبار والدها بالحقيقة.
فاتفق أوتانيس مع ستة آخرين من كبار زعماء فارس على التصدي للأخوين الميديين، والقضاء عليهما، واسترجاع العرش الأخميني، وكان دارا (داريوس ) بن هايستاسبيس (هشت أسپ)أبرز أولئك السبعة، وكان والده حاكم مقاطعة فارس، وتبادل الحلفاء السبعة عهود الولاء، وناقشوا الخطوات التي يجب اتخاذها، وقرروا الإسراع في القيام بانقلاب معاكس، لكن شريطة الحذر واتخاذ كافة الاحتياطات الكفيلة بنجاح الخطة، وأصرّ دارا على البدء بالتنفيذ في اليوم نفسه دونما تأخير، وإلا انكشف السر، وباؤوا بالفشل الذريع.
ودارت نقاشات حادة بين المتحالفين، واعترض أوتانيس على قرار دارا؛ إذ كيف يمكنهم دخول القصر الملكي، والوصول إلى الملك، والحرس منتشرون في كل مكان؟! لكن دارا أكد لهم أن الحرس لن يترددوا في السماح لهم بالدخول، باعتبارهم كبار زعماء فارس، وأضاف قائلاً: ” فضلاً عن ذلك لديّ عذر مناسب لإدخالنا؛ سأقول: إنني جئت من فارس، حاملاً رسالة من والدي إلى الملك، إذا كان الكذب ضرورياً فلم لا أكذب؟! كلنا يسعى إلى هدف واحد، سواء كنا نكذب أن نقول الحقيقة” (تاريخ هيرودوت، ص 252).
وكان زعيم فارسي آخر يدعى جوبرياس متحمساً لخطة دارا، فقال:
” يا أصحابي، هل تتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ أما إذا فشلنا فلنمت في المحاولة، أفحتم على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، … وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الاجتماع، لنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيَّين. فوافقوا جميعاً على الاقتراح ” (تاريخ هيرودوت، ص 253).
مجزرة.. ونتائج
وفي الوقت نفسه يبدو أن الشكوك في هوية الملك سميرديس كانت تتزايد، وكان الأخوان الميديان يفكران في مخرج من الوضع الذي كانا فيه، وقررا أن يعملا لجر بركساسبيس إلى صفهما، أولاً لأن قمبيز كان قد عامله بقسوة، وقتل ابنه. وثانياً لأنه الشخص الوحيد الذي يعلم سر مقتل سميرديس بن قورش. وثالثاً لمكانته السامية في المجتمع الفارسي. فاستدعياه وساوماه على الولاء لهما، وعرضا عليه مبلغاً كبيراً من المال لقاء صمته، فوافق بركساسبيس على ذلك، فدعا الأخوان الفرس إلى الاجتماع في أسفل أسوار القصر، ليعلن بركساسبيس من أعلى البرج أن الملك هو سميرديس بن قورش وليس شخصاً آخر.
وفي الموعد المحدد لاجتماع الفرس، صعد بركساسبيس إلى قمة البرج للإدلاء بتصريحه، ولكن عوضاً عن الوعد الذي قطعه للأخوين الميديين، ألقى خطبة حماسية ذكر فيه سلسلة نسب كورش وصولاً إلى الجد الأكبر أخمينيس، واستعرض الخدمات التي قدمها كورش للفرس، وكشف عن حقيقة أن قمبيز أجبره على قتل سميرديس بن كورش، ” وأن البلاد الآن أصبحت في قبضة المجوسيين، وفي النهاية ختم كلامه بالدعاء على الفرس أن ينزل بهم الشقاء إذا لم يستعيدوا العرش، ثم ألقى بنفسه دون تردد من أعلى البرج إلى الأرض“، فكانت نهايته الموت. (تاريخ هيرودوت، ص 254).
لم يكن الحلفاء الفرس السبعة يعرفون شيئاً عما يدور في القصر الملكي، وكانوا متوجّهين إليه لتنفيذ الخطة، وفي منتصف الطريق علموا بما قاله بركساسبيس، وبعد مداولات عاجلة للوضع الجديد، واختلاف في الآراء، وقفت الأكثرية مع دارا في تنفيذ الهجوم على الملك في القصر، ولم يعترضهم الحرس، لكن خصيان القصر استوقفوهم، وعنّفوا الحرس على السماح لهم بالدخول، وهنا استلّ المهاجمون خناجرهم، وفتكوا بالخصيان الذين اعترضوهم. وحينذاك كان الأخوان الميديان يتناقشان في الوضع الناجم عن خيانة بركساسبيس لهما، وسمعا الخصيان يصرخون بشدة، فأسرعا لمعرفة الخبر، وأدركا الخطر المحدق بهما، فاستعدا للمجابهة، وخاضاً القتال ضد المهاجمين السبعة، فجرحا اثنين منهم، لكنهما خسرا الجولة، وكانت نهايتهما القتل.
قال هيرودوت:
” بعد أن تم قتل المجوسيَّيْن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، محدثين ضجة عظيمة، حاملين الرأسين المقطوعين، بينما تركوا الجريحين في القصر،… والتقى الخمسة السالمون بالمواطنين، وأخبروهم بما جرى، وأظهروا لهم الرأسين، ثم بدؤوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الاستعداد لأن يحذو حذوهم، بعد أن علموا بالعمل البطولي الذي اضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فاستلوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي، حيث يقام احتفال سنوي باسم قتل المجوس، ولا يسمح في أثنائه لأي مجوسي بالظهور، فيقبعون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم لا يبرحونها“. (تاريخ هيرودوت، ص 255 – 256).
إن أحداث الانقلاب الميدي توصلنا إلى النتائج الآتية:
كان من الطبيعي أن تنتهي محاولة الأخوين الميديين في استرداد السلطة من الأخمين إلى الفشل، إذ لم يعتمدا على قاعدة جماهيرية ميدية، بل لا نجد فيما رواه هيرودوت وديورانت أن ثمة شخصيات ميدية أخرى شاركت پيرتزيثيس وأخيه سميرديس في تدبير الانقلاب، هذا رغم أنه كان للمجوس (الميديين) حضور في العاصمة الملكية سوسا، والدليل على ذلك تعرضهم لمجزرة عامة من قبل الفرس في اليوم نفسه الذي قُتل فيه الأخوان الميديان.
كان قادة الفرس مصرّين على تنفيذ وصية قمبيز، وعدم السماح للميديين بالعودة إلى السلطة ثانية، وأبدوا بسالة شديدة وتضامناً وثيقاً وروحاً فدائية في تنفيذ خطة استرداد السلطة من الأخوين الميديين.
ذكر ديورانت أن سميرديس ” كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي، فشبّت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه ” (قصة الحضارة، مجلد1، جزء 1، ص 406). وهذا يعني أن الصراع بين الفرس والميديين لم يكن سياسياً فقط، وإنما كان صراعاً أيديولوجياً أيضاً.
هل المجوس ميديون؟
سؤال يخطر في بال المرء وهو يقرأ رواية هيرودوت للانقلاب الميدي.
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من استعراض سريع لعقيدة الشعوب الآريانية قبل الزردشتية، فقد كان الميد والفرس وسائر الشعوب الآرية الشرقية يدينون بالمِثرائية، نسبة إلى الإله الآري مِثرا Mithraism إله العقود والحق والنظام، وكان الآريون الشرقيون يرمزون إليه بالشمس، وكان الملوك والعامة يركّبون أسماءهم منه، مثل مِثراداتيس (مثرا دات = عطاء الإله مثرا)، وكانت ديانة مِثرا منتشرة شرقاً في الهند، وغرباً في بلاد ما بين النهرين، وآسيا الصغرى، وأرمينيا، وفي معظم مناطق الشرق الأدنى قبل المسيحية، كما دخلت المِثرائية روما أول مرة في سنة (60 ق.م)، وفي القرن الثاني الميلادي انتشرت ديانة مِثرا داخل الإمبراطورية الرومانية حتى وصلت إلى بريطانيا. (جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ص 125 – 126).
ويمكن القول بشكل عام: إن المثرائية هي من أقدم العقائد الدينية الآرية في العالم القديم، وكانت طبقة من الكهنة الرسميين الميد يتوارثون المناصب الدينية في تلك الديانة، ويشرفون على أداء الطقوس وممارسة الشعائر الدينية، وكان أبناء تلك الطبقة ينتمون في الأصل إلى القبيلة الميدية ماجُويي (ماغُويي Magoi)، وهذه القبيلة واحدة من ستة قبائل كبرى كان يتألف منها الشعب الميدي، هي: Boussi, Paretaknoi, Strounate, Arizantoi, Bodloi, Magoi، (انظر: دياكونوف: ميديا، ص 143، 146. ل . ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، ص 308. Mehrdad Izady: The Kurds, p. 28, 32. ).
ولا ننس أن اللاحقة (س) هي من خصائص الأسماء في اليونانية، ويُلحقها هيرودوت بمعظم الأسماء غير اليونانية، وهكذا تحوّل اسم (ماغويي) Magoiالميدي إلى كلمة (ماغوس) Magos اليونانية، وقد أطلقها اليونان على الكهنة الزردشتيين عندما دخلوا فارس في عهد الإسكندر، وكانوا يعنون بها: العظيم أو الهائل، نظراً لبراعة المجوس (الماجويي) في الحكمة والإتيان بالأفعال الخارقة والسحر، ومن اسم ماجوس جاءت كلمة (مَجُوس) العربية، وكلمة Magic(السحر) الإنكليزية، (انظر: جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، هامش ص 131). وكانت طبقة المجوس هذه تشبه طبقة الكهنوت العبراني التي كانت تنتمي إلى سبط اللاويين حصراً، وتشبه طبقة الكهنوت الوثني العربي المكي التي كانت تنتمي إلى بني عبد مَناف حصراً.
ومعروف أن زَرْدَشت (زَرْتَشت= زرادهشت= زاراتوشترا= زراوُستر) ولد في مقاطعة أترُوباتين Atropautene (أذربيجان) بميديا الصغرى، على مقربة من بحيرة أورميا، وعاش بين سنتي (660 – 583 ق.م)، أو بين (630 – 553)، أو (628 – 551) قبل الميلاد (صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ص 294. وحامد عبد القادر: زرادشت نبي قدامى الإيرانيين، ص 29). ولما بلغ الأربعين من العمر أعلن نبوّته، ودعا قومه الميد إلى اعتناق دين جديد عرف بعدئذ باسم (الزردشتية)، لكن الميد رفضوا دعوته، وقاوموه واتهموه بالهرطقة، إذ جاهر زردشت بوجود إله كبير هو إله الخير والنور (أهورامزدا)، وإله أصغر ندّ للإله الأكبر يسمى إله الشر والظلام (أهريمن)، ويشبهه (الشيطان/إبليس) في الديانات السماوية، وزعم أن حرباً كونية تدور بين الإلهين، والمفروض في البشر أن ينضموا إلى صف أهورامزدا، كي تتحقق الغلبة على أهريمن، ولم يكن هذا يتفق مع العقيدة المثرائية القائمة على أنه لا ندّ لله، وأن الله خير ولا يمكن أن يخلق الشر، وكان من الطبيعي أن يتصدّى الكهنة المثرائيون لزردشت، ويقاوموا عقيدته.
فهاجر زردشت إلى مقاطعة باكتريا (باختريا) في شرقي آريانا (إيران حالياً)، واعتنق فشتاسپ (هيستاپس= هشت أسپ) حاكم باكتريا الدين الجديد (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم1/91)، تماماً كما فعل النبي محمد بعدئذ عندما عارضه قومه قريش العدنانيون، فلجأ إلى العرب القحطانيين المنافسين لهم في يثرب (المدينة)، فرحّبوا به واعتنقوا دينه الإسلام. والأرجح أن فشتاسپ كان فارسياً، وليس من المستبعد أنه كان منافساً للسلطات الميدية، وإلا لما توجّه إليه زردشت.
وانتشرت العقيدة الزردشتية بين شعوب آريانا، ولا سيما في مقاطعة فارس، وصارت تزاحم المثرائية، لكن ظلت الميثرائية هي العقيدة الرسمية في الدولة الميدية، أما في العهد الأخميني فالصورة غير واضحة تماماً، فقد مر قبل قليل قول هيرودوت أن سميرديس الميدي كان “ من أتباع المذهب المجوسي القديم [يقصد المثرائية]، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي“، ويقول ديورانت في الموضوع ذاته: “ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً ملهماً لشعبه، فشرع منذ تولّى الملك يثير حرباَ شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة” (قصة الحضارة، مجلد1، جزء 1، ص 426).
فهيرودوت يؤكد أن الزردشتية كانت ديناً رسمياً للدولة الأخمينية في عهد قمبيز، في حين يذكر ديورانت أنها صارت ديناً رسمياً في عهد دارا الأول، والأرجح هو ما ذكره هيرودوت، ولعل تسمية الأخوين الميديين باسم (المجوس) من قبل قمبيز وقادة الفرس الآخرين جعل ديورانت يظن أنهما كانا على العقيدة الميثرائية، وبما أن قمبيز جعل الكاهن المجوسي پيرتزيثيس أمين القصر الملكي، فهذا أيضاً جعل ديورانت وغيره يظنون أن العقيدة الرسمية للدولة الأخمينية كانت المثرائية، وغاب عن ديورانت ومؤرخين آخرين أن لقب (موغ= ماغ= مجوسي) كان لقباً دينياً، انتقل من المثرائية إلى الزردشتية، تماماً كما هو لقب (پير= كاهن)، إذ نراه لقباً يسبق اسم تزيثيس، فلم يفرق هيرودوت اللقب من الاسم، فجمع بينهما، وسماه (پيرتزيثيس)، ومعروف أن هذا اللقب الديني موجود إلى الآن في التصنيفات الكهنوتية للديانة الأيزدية. ثم إن الزردشتية لم تكن ديناً جديداً بشكل كلي، وإنما كانت تطويراً للمثرائية، الأمر الذي أبقى في الزردشتية كثيراً من طقوس ومصطلحات دين مثرا.
ويبدو لنا أن الصراع الميدي الأخميني لم يكن سياسياً فقط، وإنما كان أيديولوجياً أيضاً، ويوم خسرت الأيديولوجيا المثرائية، وانتصرت الأيديولوجيا الزردشتية، خسر الميديون (أجداد الكرد) دورهم الثقافي والسياسي في غربي آسيا، وصار تاريخهم، بل ووجودهم، عرضة للتغييب والتشويه، وأحسب أن الكاهنين الميديين پيرتزيثيس وسميرديس كانا يعدّان العدّة لاسترداد نفوذ المثرائية، وكبح جماح الزردشتية، تمهيداً لاسترداد الحكم الميدي، باعتبار أن المثرائية كانت أيديولوجيا الميديين، وكانت الزردشتية أيديولوجيا الفرس.
وأعلم أن معظم الإخوة الكرد الأيزديين، إن لم يكونوا كلهم، يعلنون أن ديانتهم هي الزردشتية، ولعلهم لا يقبلون الرأي بأن الزردشتية كانت الأيديولوجيا التي ساعدت الأخمين على إسقاط الدولة الميدية، وقذفت بالكرد إلى طيات النسيان، هذا بغض النظر عن كون المثرائية هي الأفضل أم الزردشتية، ومع ذلك كم أتمنى أن يعاد البحث في طبيعة العلاقة بين المثرائية والزردشتية، وتعاد قراءة الأحداث السياسية التي واكبت ظهور الزردشتية وانتشارها في غربي آسيا، لأن ما هو ثقافي لم يكن منفصلاً مطلقاً، وعلى مر العصور، عمّا هو سياسي، وأحسب أن كل قراءة لنشأة الأديان بعيداً عن الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العصور التي نشأت فيها تبقى قراءة غير متكاملة.
المراجع
أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى، 1981م.
جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.
حامد عبد القادر: الأمم السامية، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1981.
ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.
دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.
ديلابورت: بلاد ما بين النهرين (الحضارتان البابلية والآشورية)، ترجمة محرّم كمال، المطبعة النموذجية.
صمويل نوح كريمر (نشر وقدم له): أساطير العالم القديم، ترجمة دكتور أحمد عبد الحميد يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974.
محمد عبد القادر: إيران منذ فجر التاريخ حتى الفتح الإسلامي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982م.
المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م.
المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، 1970. (الكتاب منسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي).
نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية (مزديسنا)، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 1999م.
هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.
وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.
وانظر:
الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى الأولى، 2007.
– Mehrdad R. Izady: The Kurds, Crane RussakWashington, Philadelphia, London, 1992.
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والأربعين.
د. أحمد الخليل في 03-11-2007
[1]