نزهان محمد
قليلون أولئك الذين تُبنى باسمهم الصروح، وتُحفرُ كلماتهم في ذاكرة الشعوب، وتتحول أسماؤُهم إلى قناديل تنير غياهب العتمة، وتشق الظلام بومضاتٍ؛ تتحول فيما بعد إلى ملاحم ترددها الألسن، والأفئدة، فعندما يُذكر أي شعب يُذكر معه عظماؤه الذين أرسوا وشيدوا دعائمه السياسية والثقافية.
من الذين نحتوا أسماءَهم بحروف من ذهب في عالم الإبداع ولاسيما في الشعر الكردي، وتجاوزت سفينة إبداعهم الحدود الإقليمية ورست إلى شواطئ عالمية والذي يُعدُّ مفخرةَ الشعب الكردي، الفيلسوف والشاعر الصوفي بابا طاهر الهمداني أو بابا طاهر اللوري، وسمي بالهمداني نسبة إلى مدينة همدان المدينة الجبلية ذات الطبيعة الخلابة في كردستان الشرقية حيث يقال: إنَّه في تلك المدينة وُلِد ومات، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته ومماته لكن الأرجح أن ولادته كانت بين أعوام 935-985م ووفاته بين الأعوام 1010-1055م، ويُقال أن شاعرنا الفذ قد لُقب ب «بابا» لعلوِّ مكانته، وكثرة تقواه وزهده فكلمة بابا لدى أهل المنطقة تعني الولي أو المرشد، وكذلك كُني بالعريان وذلك لغزارة علمه التي تقوده إلى التعرف على أصل الأشياء وحقيقتها أي «تعرية» الشيء من قشرته أو ما يحيط به لكي يكون شفافاً واضحاً وجلياً في عرض الأشياء.
خلاف على هوية بابا طاهر
المتفق عليه بين جمهرة المؤرخين الكرد أن بابا طاهر هو الأب الخالد للأدب الكلاسيكي الكردي، فقد كتب أشعاره وقصائده باللهجة اللورية هذه اللهجة التي أحدثت خصاما بين المؤرخين الكرد، والفرس فرياح التعصب القومي والنزعة الذاتية للمؤرخين الفرس أدَّت بهم إلى إنكار كردية بابا طاهر رغم قبولهم للورية أشعاره، وتحججوا بأن اللور هم جماعة فارسية ومن ناحية أخرى تذكر عيون المصادر أنَّ بابا طاهر هو كردي الأصل والمنشأ، فصاحب معجم البلدان ياقوت الحموي يقول : « إنَّ اللور جيل من الأكراد من جبال أصفهان وتلك النواحي تعرف بهم فيقال بلاد اللور ولورستان» ويشير إبن حوقل الإدريسي كذلك إلى أن «لورستان بلد غني يعيش فيه الأكراد» ومن جانب آخر فإن معظم الباحثين الأولين الأجانب أكدوا كردية أشعار بابا طاهر بل أن المستشرق الألماني أوسكار مان لم يخفِ توجُّسَه من أن يكون المُدوِّنون الفرس خلال طباعتهم لأشعار الهمداني قد أدخلوا العديد من المفردات الفارسية فيها وحتى نسب مقطوعات مزيفة لها لإثبات فارسيّتها .
رباعيات بابا طاهر
إن أشهر ما تميز به الهمداني هو الرباعيات، ونستطيع القول: إنَّه لم يصلنا من شعره سوى الرباعيات تلك الأشعار التي لاقت إعجاب الأجانب فترجموها منذ وقت مبكر إلى لغاتهم الأوربية والرباعيات:هي مذهب ونمط ولون شعري عبارة عن مقطوعة شعرية من أربعة أبيات تدور حول موضوع معين وتكوّن فكرة تامة، وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع أو تتفق جميع الأشطر الأربعة في القافية، ولا شكَّ أنَّ هذا اللون الشعري يُمثِّل إشراقة صوفية نابعة من قريحة نادرة وموهبة فذة تمتزج بحسٍّ مرهف، وعاطفة متوثبة شفافة لا توجد إلا عند الهمداني الشاعر والفيلسوف الذي تشير رباعياته فقد كان ينتابه القلق والتساؤل المستمر فلا شيء يرضيه سوى التمرد والبحث والخروج من دائرة المكان الذي يضيق به كي يمتد للأفلاك ويحاور القدر الإلهي يقول:
«لقد غرستْ شجرةُ الحزن جذورها في روحي، فأناجي أمام عتبةِ الملكوتِ ليلَ نهارَ، أيّها الشباب ! أدركوا قيمة حياتكم، لأن الأجلَ كالحجرِ ..والإنسانَ كالزجاجِ»
كانت هذه الأسطر المنظومة على بحر الهزج واحدة من رباعيات بابا طاهر الهمداني التي شكلت بداية منهكة من القلق الكينوني، وعميقة من حيث البناء والإيحاء للشعر الكردي الذي بدأ ينفض عن جسده غبار الارتباك بين حضارتين مختلفتين (الساسانية والاسلإمية) لقد كان ابن لورستان شاعراً حاذقاً واسع الفكر وفيلسوفاً طرق جميع أبواب الشعر في رباعياته من عشق وحب إلهي ووصف للروح والحياة والموت فأشعاره اعتبرت كنزاً أدبيا عالمياً ثرَّاً لها حضورٌ في جميع مراكز العلم والثقافة البشرية على الرغم من فوضى الصراع اللامتناهي الذي حدث ومازال يحدث على أرض كردستان ومحاولة حجب الشمس عن العيون الأدبية الكردية .
__________
المصادر :
محمد أمين زكي: مشاهير الكرد وكردستان
شاهو سعيد :رحلة الشعر الكردي[1]