#عزيز الحاج#
يوميات ربيعية مبعثرة
طلعت أخيرا شمس الربيع في باريس منذ الأيام الأولى من أيار، بعد عيد العمال العالمي، وخلفت وراءها طقسا شتائياً استمر حتى ذلك الوقت.
تحسن الطقس، وبدأت طلائع الفتنة النسائية المثيرة، تظهر، والفرح يطفح على الوجوه، ومن جانبي، أحس بمزاج أفضل. أما شمس الصيف هنا، فهي أحيانا تكاد تخنق لاقتران الحر بالرطوبة، وبتلوث الجو، وحينذاك تظهر المفاتن صارخات، حتى كأن الأنثى هنا تفضل الحر، وقد كتبت في منتصف التسعينات قصيدة ساخرة عن حر باريس :
أتانا الحر يشوي السائرينا، وبعد شرح معاناتنا نحن الرجال، قلت:
سوى الفتيات زدن به انشراحا، وأبدين المفاتن تستبينا
هنا اليوم شمس مريحة، وأناس مرحون، ناسون الهموم اليومية، وثمة في هذا الشهر نفسه، وفي بلدان، وقارات أخرى، كوارث وضحايا: من كارثتي بورما والصين، إلى حرب الإبادة في دارفور، إلى مأساة لبنان بفعل نظام آيات الله، إلى ضحايا العنف والإرهاب في العراق.
لماذا صرت أعتقد أن أفراح العالم نادرة، وأحزانه هي المهيمنة؟ ربما نزار قباني هو القائل:
لولا الحزن ما كان الإنسان.
خلال العام الماضي فقدت ثلاثة أعزاء، سلمان شكر، وشقيقتي الكبرى صفية، ذات المرح الدائم، وابنة خالتي الدكتورة فضيلة بشقة، ابنة ذلك الرجل الطيب، والمثقف، محمد بشقة.
إن لي ذكريات عزيزة مع سلمان، ومع صفية، وفضيلة، تثير أحزاني، أحزان أشعر أنها تطهرني، وتشيع في نوعا من الطمأنينة، وتمنحني القدرة على مواجهة الفناء.
لقد أمكن منذ أسبوع أن أتحامل على نفسي للوصول للحديقة القريبة، وأجلس على إحدى المصاطب، وبيدي رواية سبق لي قراءتها، ولكنني أحن للعودة إليها، لقراءة الهوامش التي دونتها في حينه، وهو ما سيذكرني بتفاصيل الكتاب، بدلا من إعادة القراءة، ويذكرني بمدى تأثيره علي في حينه، وعرضي له في مجلات أدبية في أواخر التسعينات.
روايات غربية للأطفال
لا أدري لماذا وقع اختياري هذه الأيام المشمسة على بعض حكايات غربية للأطفال، وهي في الحقيقة للكبار، كما للصغار. إنها تثقف النشء، وتربيه بلا طنطنة، وبلغة التفاصيل الروائية الدقيقة، وتنوع الشخصيات، فتنقل المعرفة، والقيم النبيلة، بأسلوب غير مباشر، وبلا دعاية مباشرة، أو موعظة يثير تكرارها الملل، والتثاؤب، لاسيما مواعظ رجال الدين والإسلاميين السياسيين، الذين يعملون على غسل الأدمغة منذ الصغر، بروح كراهية الآخر، والتزمت الديني، واحتقار الجنس الآخر، وعرض فتاواهم، وأفكارهم، كقوانين ربانية.
قبل ثلاثة أيام، كان موعدي مع الرواية البريطانية تصبح على خير يا عم توم، لمؤلفته ميشيل ماغوريان.
نحن في عشية الحرب العالمية الثانية، وعائلات لندن ترسل أطفالها للريف، حماية لهم من ويلات الحرب؛ أطفال قد يكون بينهم يتامى، أو أطفال تعرضوا للقسوة على أيدي أمهات ساديّات.
ذات يوم، تدفع موظفة العون الاجتماعي بالصبي الشاحب الهزيل، ذا العينين الكئيبتين، توماس أوكلي، إلى بيت رجل ريفي مسن، هو توم، كان من المصابين بحب العزلة. قالت له الموظفة :
إن تبني هذا الصبي إجباري من أجل المساهمة في المجهود الحربي. انكمش الرجل في البداية، ولكنه اكتشف ذات يوم آثار الجلد، والضرب، على صبي الثامنة، فحن قلبه، وقامت بينهما صداقة حميمة، حتى أن الصبي انتهي بتسميته يا أبي.
تقدم الرواية من خلال الحوادث، والمواقف، وتنوع الشخصيات، دروسا رائعة في التربية، كأهمية القراءة، وحب المسرح ودوره في اكتشاف مواهب الأطفال، وأهمية العمل الجماعي زمن المصاعب الكبرى، فنرى كيف أن أهل القرية يتعاونون في زمن الحرب لكي تبقى تلك البقعة سائرة في مسارها الطبيعي، برغم المآسي، والكوارث.
لقد عشت في حينه، بعد قراءة الرواية، متعة حقيقية، وعالما نابضا بالحياة، ما بين توم، واوكلي، وصديقه ماكس، وعاشقة الكتب كاري، ومع الجميع الكلب الظريف سامو. صحت في حينه وكتبت إنها لرواية للكبار قبل الصغار.
أما أول أمس، فقد وقع اختياري على رواية عالم صوفي للمؤلف النرويجي جوستان غاردر، وهي رواية ظهرت في التسعينات، وترجمت لأكثر من ثماني وثلاثين لغة، حتى عام 1996 عند ظهور ترجمتها العربية عن دار المنى في السويد، وأتذكر أنني نشرت في حينه مقالا عنها.
صوفي اسم صبية، والكتاب تنفيذ لفكرة مبتكرة، وهي عرض تاريخ الفلسفة في العالم على شكل رواية ممتعة، ومشوقة، لها أبطال، في مقدمتهم صوفي، وأستاذ الفلسفة ألبرتو، وتبدأ برسالتين بلا توقيع صوفي، وليس فيهما غير سؤالين: من أنت؟، ومن أين جاء العالم؟.
تستعرض الرواية بأسلوب مبسط جدا تاريخ الفلسفة، منذ الفلسفة اليونانية القديمة، وفلاسفتها، ثم أبرز علماء العرب، والمسلمين،، كالكندي، وبن باجة، وابن رشد، ثم ابن خلدون، صاحب المقدمة. ويتنقل الكتاب لفلاسفة ومفكرين وعلماء عصر النهضة الأوروبية، والتنوير، ومنهم ديكارت، ولوك، وبيركلي، وكانت، وهيغل، وماركس، ونيتشة، وداروين، وفرويد، وصولا للحقبة المعاصرة.
ليست هذه اليوميات المتناثرة لسرد تفاصيل الرواية هنا، بل للإشارة، إلى أهمية، مثل هذا التثقيف الفكري، المبسط في شحذ وتحفيز تفكير الصغار والكبار، وتشجيع التفكير المستقل، والنقدي لدى الناشئة، ناهيكم عن غرس فكرة أن تاريخ الفكر الإنساني، يتشكل من عشرات الروافد والأنهار، لتنصب في مجرى واحد، بغض النظر عن القارات والبلدان، وعن تباين الأديان والثقافات.
إن استعراض المذاهب الفلسفية والفكرية والعلمية في العالم، يعلم القارئ أن الحقيقة نسبية، ولا أحد يحتكرها، كما يثقف بضرورة العطش الفكري، والعلمي الدائم بلا توقف، أو اكتفاء أو الغرور.
يقول الكتاب على لسان الأستاذ:
إن إدراك الإنسان لجهله هو شكل من أشكال المعرفة، وإن الأكثر ذكاء هم من يعرفون أنهم لا يعرفون.
أسأل: في أي بلد عربي بقيت الفلسفة العالمية تدرس نقديا حتى في الثانوية والجامعة؟؟ وبماذا يثقفون الناشئة والشباب، غير المحرمات، وأخبار الجن والجنيات، والحذر من المرأة؟؟
تلك الصورة!
أخيرا، عاد صديقي من السفر، وزارني أمس ومعه الصورة الكبيرة، التي كنت قد أودعتها لديه قبل دخول المستشفى، لتبديل زجاجها المنكسر وإطارها القديم، وكانت قد سقطت بالصدفة من مكانها في غرفة التلفزيون. وعلى ذكر التلفزيون، إنني مهووس به، حيث أرى في الكيبل عشرات الأفلام، والمسلسلات الغربية الممتعة، وبرامج نقاشات سياسية، أو ثقافية، أو الأغاني العاطفية، وحتى بعض أفلام الكارتون أحيانا؛ وعندما يحدث عطب ما طويلا أفقد شهية الأكل، ويصبح نومي مضطربا.
جاء صديقي مع الصورة في إطار جميل وعلقناها في مكانها البارز.
إنها صورة أعضاء الهيئة المؤسسة للمدرسة، والجمعية، الفيليتين في بغداد ، بعد نهاية الحرب الدولية الثانية، وكان الصديق السفير، عادل مراد، من شخصيات الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، قد أرسل لي قبل سنوات نسخة مصغرة منها.
نرى في الصف الأمامي، وصف الجالسين، رجال تجارة، وأعمال، ومثقفين، كمدير المدرسة، والمحامي، وهناك أبي الحاج علي حيدر، جالسا بأناقته في الصف الأول.
إنني أعتبر أن لتلك الشخصيات مكانا بارزا في تاريخ الأكراد الفيلية، بل كانت مبادرتهم التعليمية خطوة كبيرة في نشأة الشباب الفيلي في بغداد. كانت مناهج المدرسة، الابتدائية، والمتوسطة، والقسم المسائي من المتوسطة، هي مناهج وزارة المعارف [التربية]، والتدريس كله بالعربية. أذكر ذلك لأن الفيلية، إذ يعتزون بهويتهم القومية الكردية، فهم عراقيون مخلصون، لا يعرفون التعصب القومي، ولم يستحقوا المظالم التي أنزلها بهم صدام، لاسيما وقد لعبوا دورا مهما في التطور العراقي المعاصر.
صورة تثير عندي الاعتزاز، كما تثير الحزن على رحيل ذلك الطراز من الشخصيات الفريدة، المضحية بنكران ذات من أجل قوميتهم ومن أجل وطنهم العراق.
في الحلقة الأولى ذكرت كيف أن صور الشقة تعيدني، لا محالة للسياسة، ومنها هذه الصورة. في عام 1946 كنت في الصف النهائي من دار المعلمين العالية، [كلية التربية]، وكان النفوذ الشيوعي هو المهيمن على الاتجاهات السياسية للعدد الأكبر من الطلبة. وكان من أصدقائي المقربين كل من ممدوح الآلوسي، من تكريت، وعبد الأحد المالح من المسيحيين في محافظة الموصل. الثلاثة كنا حزبيين، وعند افتتاح المسائية الفيلية تطوعنا للتدريس فيها مجانا، وقد ظللنا نقوم بواجبنا شهورا، وبلا انقطاع، ولكن والدي أسرني ذات مساء بأن الإدارة قلقة لأن هناك مغرضين ورجال أمن، راحوا يشيعون أن المدرسة صارت وكرا للشيوعية. درسنا الموضوع نحن الأصدقاء الثلاثة، وقررنا الانسحاب بكل لباقة، بحجة الانصراف للامتحانات.
ممدوح اغتيل بعد ثورة 14 تموز 1958، وعبد الأحد قتل تحت التعذيب في انقلاب البعث لعام 1963. إنني لا أزال أذكرهما، وأستعرض تفاصيل الذكريات معا، وأحزن لرحيلهما المبكر.
ألم أقل إن الأحزان أكثر من الأفراح، وهذا ما يصدق اليوم على حال العراقيين في الوطن المستباح، إيرانيا، وقاعديا.[1]