#هوشنك اوسي#
الشعوذة الثقافيّة بوصفها منتجة للشعوذة السياسيّة كرديّاً
على مدى عقود خلت، كان الكرد، على صعيد النخب والعامّة، ضحايا القمع، المنع، الاستبداد والصهر والدمج القسري. هذه الحال، زادت من عزيمة الكرد في ارتدادهم إلى وجودهم وهويّتهم القوميّة والثقافيّة والدفاع عنها، سياسيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً. هذه المقاومة الوجوديّة على امتداد حقبة زمنيّة طويلة نسبيّاً، أفرزت أحزاب سياسيّة، غالبيتها العظمى، قوميّة - يساريّة، متفاوتة المطالب والأهداف، تراوحت بين المطالبة بالحكم الذاتي والانفصال - الاستقلال التام، وتشكيل دولة كردستان الكبرى. وكان الكرد دوماً ينتقدون الأنظمة التي تتقاسم الجغرافيّة الكردستانيّة البشرية والطبيعيّة، على أنها أنظمة قمعيّة دكتاتوريّة، فاشيّة...، وأن النخب السياسيّة والثقافيّة، الموالية والمعارضة لهذه النظم، لم تشذّ عن قاعدة التشرّب والتشبّع بموروث الأعراف والتقاليد الاستبداديّة لهذه النظم، أثناء تعاطيها مع قضايا الاقليّات القوميّة والاثنيّة. وفي هذا الانتقاد، جانب كبير من الصحّة والصواب، مع بعض الاستنثاءات الموجودة على هامش الهامش، لهذه القاعدة. ولكن الصحيح ايضاً أن الكرد، في ما بينهم، مارسوا ويمارسون الكثير من القمع والاستبداد والظلم والجور، بنفس الطريقة التي كانوا يتعرّضون فيها للظلم والاستبداد من قبل النظم التي كانت تضطهدهم. وفاقمت حالة القمع والاستبدادي الداخلي - البينية هذه، حصول طرف كردي على سلطة إداريّة، رسميّة أو شبه رسميّة، كما في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وشراسة تعاطيه مع المختلفين معه في المناطق الكرديّة السوريّة. هذه الشراسة، ثمّة ما يشبه الضلوع الثقافي في تبريرها والتماس الاعذار لها.
كتب الصديق الكاتب الكردي محمد جيجاك في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك التالي: لدى كل شعوب العالم، من مهام المثقف تغيير الواقع. حتى مثقفي الدول الاسكندنافية يعملون لأجل التغيير. فقط لدينا، مهام المثقف؛ تبرير الواقع القائم والدفاع عنه، إن استوجب ذلك. وإن جرى وتحدّث أحدهم بما يخالف الواقع، اتهموه بالمتهوّر والطوباويّة والمثاليّة...، وحشدوا الأغبياء لمهاجمته.
هذا الكلام، على اختصاره، فإنه يعكس بصورة واضحة جانباً من جوانب كثيرة لبؤس الحال الكرديّة، سياسيّاً بشكل عام، وثقافيّاً على وجه التحديد والتخصيص. ذلك أنه لا يقتصر تأثير البيئات الشموليّة على إنتاج ما يشبه الشعوذة الثقافيّة والسياسيّة ضمن نطاق سلطتها الحاكمة في بلد أو مجتمع معيّنين، بل يتعدّاهما إلى ما هو خارج هذا البلد أو المجتمع، وذلك عبر البهرجة الإعلاميّة - الإيديولوجيّة؛ القوميّة أو الدينيّة أو الطائفيّة أو الحزبيّة التي تمارسها هذه السلطة او البيئة الشمولية على الموالين لها او الذين يسعون الى تقديم اوراق اعتمادهم لديها. وبالتالي، أي نظام شمولي أو سلطة أو تركيبة شموليّة، لا مناص أمامها من إنتاج نسق من المشعوذين الثقافيين، سواء عبر التحفيز أو الترغيب أو الترهيب او التوريط، بحيث يكون أداء المشعوذ الثقافي موازياً لأداء المشعوذ السياسي، وداعماً له ومغطّياً عليه، ليس عبر التستّر وحسب، بل عبر توجيه الانتقادات الخجولة والمرتبكة للاستبداد، مع التماس المبررات والاعذار له، بهدف انتحال صفة المحايد والموضوعي الذي يقف نفس المسافة بين الظالم والمظلوم.
مناسبة هذا الكلام، هو ما تشهده الحال السياسيّة والثقافيّة الكرديّة من بؤس وخراب وتجريف للمجتمع من أي بصيص ممانعة للنزوع الشمولي والتوتالياتري الحزبي والآيديولوجي الذي يتحمّل جزء كبير من مسؤوليّته المشعوذ الثقافي، المتطلي خلف التورية والتقيّة، وانتحاله صفة العالم العلاّمة والباحث عن إنتاج الفكر والمعرفة من جهة، ويسعى بشكل مباشر أو بغيره، إلى التماس الاعذار للممارسات الاستبداديّة التي تنتهجها الأحزاب الكردية، الصغيرة منها والكبيرة، والميل نحو الخطاب الشعبوي والتخويني العفِن إيّاه الذي تمتهنه هذه الاحزاب. هذا النسق من المشعوذة الثقافيّة أشد خطراً من السلوك السياسي الفاسد والمستبد، وهو أحد دعائم وروافد الشعوذة السياسيّة، إن لم يكن أبرزها. والعلاقة بين المشعوذ الثقافي والمشعوذ السياسي، هي علاقة طفيليّة، كل طرف يتغذى على الآخر، ويظن أنه يخدعه ويستخدمه لتحقيق مصالحه!.
لعل من أبرز اصناف المشعوذ الثقافي ذلك المثقف الموازي الذي يمشي على رصيف الحزب، ويزعم الاستقلاليّة عنه. في حين أنه في مواقفه وميله السياسي والأفكار التي يطرحها، في غالبيّتها، لا يشذّ عن سياسات ومواقف وأفكار الحزب الذين كان منتمياً إليه ذات يوم، ويزعم أنه استقال منه أو تركه.
نسق آخر من المشعوذ الثقافي، نراه ناظراً إلى نفسه على أنه سيّد الكلام والمقام المعرفي والفكري والثقافي، ولكنه المغبونُ والمظلومُ والمهضومُ حقّهُ. لذا، لا غرابة في أن نراه دائم الشكوى من تجاهل المؤسسات له وأنه كان ينبغي ان تسلّمه هذه السلطات وزارة الثقافة ووزارة الاعلام ومسؤوليّة الطباعة والنشر في هذه السلطة أو تلك. كذلك نراه دائم الشكوى من الذين يسعون للنجومية والشهرة، حسب تعبيره، ويتهم كل من التمس طريقه للإعلام وحقل الكتابة بهذه التهمة، وكأنّ ذلك لم يكن إلاّ على حسابه ومن كيسهِ. وهو في حديثه عن المتهافتين على النجوميّة، يبرّئ نفسه، وكذلك في حديثه عن الارتزاق والكيديّة، يبرّئ نفسه. وهو في مرآته المثقف الكوني، الذي تخرّ له الجبال سجوداً، وتطوف حوله البحار والصحاري قياماً وقعوداً، ومع ذلك، يبخسه الكرد حقه. هذا المشعوذ، تضيق عنيه حين يرى كاتباً كرديّاً آخر يتم الاحتفال بمنتوجه. وأن أي احتفاء ينبغي أن يكون به وبكتبه ال999!. والحقّ أن البعض من هذا الصنف، ينظر إلى نفسه على أنه أكبر من الله، بحساب عدد الكتب. ذلك أن الله لديه 4 كتب، بينما هو لديه 44 كتاب منشور و44 كتاب قيد الطباعة والنشر!. وقياساً على ذلك، لا مناص أمام الكرد ونخبهم الثقافيّة والسياسيّة، من أن يقولوا هذا المثقف الالمعي (المشعوذ الثقافي): إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين!. ولن يقولوا له ذلك. لن يقدّموا له البيعة والمبايعة والمشايعة مهما فعل وبذل من تهجّم وشتم وأهان، باسم الحرص على الثقافة والإبداع والمعرفة والقضيّة والوطن.
صنفٌ آخر من المشعوذ الثقافي، ذلك الذي نضبت ينابيع الإبداع لديه، وصار يكرر نفسه بسقمٍ ووهن. وفي كل تكرار، إهدار للإرث الذي راكمه سابقاً، قبل دخوله حيّز التكرار والاجترار. هذا الصنف، يسعى لأن يكون موجوداً في كل مكان وفي أية مناسبة، حتى ولو كان الأمر بدون مناسبة. المهم ان يكون حاضراً. فالحضور لديه هو حضور الجسد والاسم وليس حضور الدور الفكري والثقافي. هذا الصنف من المشعوذ الثقافي، يمارس الدبلوماسية أو يظن أنه يمارسها، على كل الاطراف. ويبقي على قنوات الارتباط مع علي ومعاوية، في الآن عينه، ويظن أنه ممسكٌ العصا من المنتصف، ويسهو عن ان هذه العصا، يضربها برأسه.
ثمة صنف آخر من المشعوذ الثقافي، وهو ذلك المثقف الذي يريد ان ينظر الكرد إليه على انه ماركسهم وكانطهم وهيغيلهم...الخ، بقرينة لغته الحلزونيّة المتشابكة. حسبه في ذلك أن اللغة كلما كانت حلزونيّة، فضفاضة ومبهمة وعصيّة على الفهم، فتلك هي لغة الفلاسفة والحكماء. هذا النسق من المشعوذ الثقافي، إذا لمس أو رأى بصيص موهبة او حضور لكاتب أو كاتبة من الأرومة الكرديّة، هنا أو هناك، يصاب بالذعر من فرط الحسد، فيكيد له، ويستهدفه، وينكّل به، بدلاً من الاخذ بيده وتشجيعه على ما هو أفضل وأحسن له. هذا الصنف، أقل ما يقال فيه بأنه وصل مرحلة الإفلاس، ودخل مرحلة النجاسة الثقافيّة التي تريد الإطاحة بكل شيء، خارج نطاقه. ولعل أبرز معالم أو أعراض هذه الشعوذة، هي الهسترة في استهداف المبدعين والساسة والكتّاب، بمناسبة أو غيرها.
قصارى القول: المشعوذ الثقافي كان وما زال وسيبقى إلى الأبد، موجوداً وفاعلاً في الأوساط الكردية والعربية وغيرها، وله دوره ووزنه التشويشي، وأحياناً التخويني ثقافيّاً، ولن يردعه رادع، ولن يمنعه مانع، ولن يشفع له شافع. وربما يقول قائل: إن من نِعم الله على الوسط الكردي ثقافيّاً وسياسيّاً، وجود المشعوذ الثقافي. لأن هذا الصنف كان وما زال موجوداً لدى العرب والعجم، فهل يمكن ان يكون الكرد استثناء؟!.[1]