محمود الوندي
هذه الأيام ستحل الذكرى السابعة والأربعون لانقلاب 8 شباط الدموي الذي استلم حزب البعث السلطة أي زمام الامور في العراق ، وبتخطيط الدول الكبرى ( البريطانية والامريكية تحديدا ) والجهود الحثيثة لشركات النفط العاملة في العراق (انذاك) ، وبالتحالف مع قوى أخرى ومن فلول العهد السابق وغيرها ، وبدعم قيادة الجمهورية العربية المتحدة ( مصرالعربية حاليا ) والبلدان المجاورة ، للإطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم والقضاء على منجزات ثورة الرابع عشر من تموز ، بحجة درأ الخطر الشيوعي ، ولكن الغاية في الحقيقية تخشى الديمقراطية والتطور الاجتماعي والاقتصادي في العراق ، وخوفا من تأثير هذه الخطوات على شعوب دول الجوار وتكون خطرا على حكامها ، عندما تطالب شعوبهم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
لا شك كان لشركات النفط الكبرى دورا مهما في الإعداد للانقلاب ، بعد ان اقدم الشهيد عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961 الذي أعادت حقوق العراق في ثروته النفطية من الشركات الأجنبية ، وحدد بموجبه الإستكشافات المستقبلية لاستثمارات شركة نفط العراق البريطانية لحقول النفط في العراق ، وكما الحال الى الاقطاعيين وعلماء الدين لدعم الانقلابين ايضا بعد ان تبنى الشهيد قاسم مشروع الإصلاح الزراعي يقوم على تأميم الأراضي الزراعية وتوزيعها على الفلاحين الذين كانوا يضطهدهم الأقطاع بمعاونة رجال الدين .
اندفعت الجماهير بأعداد هائلة إلى الشوارع يوم 8 -02-1963 ، من كل المدن العراقية ، وتوجهت جموع غفيرة من اهالي بغداد صوب وزارة الدفاع لدعم القوات العسكرية ( الموالين الى الشهيد قاسم ) وللتحصل على السلاح لصد الانقلابين ، وفعلا صدت الجماهير لقادة الدبابات التي هاجمت وزارة الدفاع ، برغم رفض الشهيد عبد الكريم قاسم تزويد الجماهير الغاضبة بالسلاح ، ورغم ذلك لم يستطيع الانقلابين اختراقها بسهولة إلا ان لجأوا إلى الخدعة ، واخذوا يشاركون الجماهير هتافاتهم ويرددون معهم ماكو زعيم إلا كريم، ويرفعون صور قاسم لكي تتمكن الدبابات من شق طريقها وسط الجموع الغاضبة بعد ان تصدت لهم الجماهير الغاضبة في البداية ، واحرقوا دبابتين واحرقوا من فيها من الضباط الانقلابين .
خاضت الجماهير العراقية في مدن عديدة من العراق معارك مشهودة قادها الشيوعيون ، لا سيما في مدينة #خانقين# عندما خرجت الجماهير الى الشارع بمظاهرة ضخمة منذ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب بعد ما تتحشد هذه الجماهير وسط المدينة ضد الانقلابين ودعما ل عبد الكريم قاسم ودفاعا عن ثورة 14 تموز وعن مكتسباتها الوطنية ، وبدأت المظاهرة من الساعة العاشرة صباحا حاملين معهم صورة الشهيد عبد الكريم قاسم واللافتات تهدد بالانقلابين ، واستمرت الى التاسعة مساء كان يقودها الكوادر الشيوعية ومن بينهم الشهيد جبار الحلاج والشهيد زوران عبد العزيز بشتوان والمرحوم الدكتور حسن اسد والمرحوم ناظم مدينة ... وقد سيطرت الجماهير على المدينة برمتها ، وساهمت ايضا النسوة لاسيما الشيوعيات في المظاهرة ببسالة ومنهن زينب قرمان واختها سعاد وغيرهن ، بالاضافة الى تعاطف اهالي المدينة معهم .
وبعد أن اتضح لدى هذه الجماهير الغاضبة في مدينة خانقين من المتعذر مواصلة القتال من قبل المقاومة في بغداد بعد ان عزلت وحصرت ، وعدم أي إسناد عسكري لها ، ولم يعد هناك من داع لاستمرار المظاهرة والاحتجاج بعد أن استتب الأمر للانقلابيين ، ولكن في هذا الاثناء دخلت محموعة من وحدات من القوات المسلحة بمساندة الدبابات والمدرعات الى المدينة ، وهاجمت على المتظاهرين الذين لا يملكون سوى الاسلحة الخفيفة من البنادق والمسدسات التي كانت بحوزتهم والاسلحة البيضاء كانت بيد بعضهم ، واطلقت الرصاصات صوب المتظاهرين ، مما ادت الى اصطدام بين الطرفين ، وادعى البعض الى التفريق والابتعاد عن المعركة وخاصة الشيوخ والنساء والاطفال التي اختلطت صراخاتهم وصياحيهم بأزير الرصاص ، وخوفا على حياتهم وعدم مضايقاتهم وافساح المجال لهم بمشاركة الشباب في مقاومة ، وكانت المعركة الى جانب القوات المسلحة منذ البداية لانها غير متكافئة في اشتباك المتظاهرين مع الدبابات والمدرعات الحكم الفاشي ، وبرغم حاول المتظاهرين الصمود امامها بهذه الاسلحة الخفيفة ومحاولين صد الهجوم ، ولكنهم لم يفلحوا بسبب عدم التوازن في السلاح حيث اجبرت المقاومين ترك ساحة المعركة وتوجه الى يعض الابنية المجاورة لحفاظ عن حياتهم او تقليل من الإصابات ، في ذلك الاثناء لقد اتجهت مجموعة من المقاومين نحو بناية شرطة الكمارك المتواجدة وسط المدينة وقريبة من المتظاهرين لغرض السيطرة عليها وحصولهم علىالاسلحة والعتاد ولم يفلحوا بذلك ، والقى القبض على العديد من المقاومين ، وتوجهت مجموعة الاخرى نحو احد الكراجات لصد الهجوم من داخله ، وقد شهدت مواجهات عنيفة بينهم وبين الجيش بعد ان استطاع احدى المدرعات اقتحام الكراج ، حيث تصدوا لها بطابوق جدار الكراج بعد ان صعدوا الى سطحه وهدموا ما به من جدرانه ، بعد ذلك قررت قادة الشيوعين الانسحاب وطلبوا من المقاومين ترك الكراج بعد نفاذ كل شيء بيدهم ، وفعلا توجهوا الى رمي انفسهم من فوق الكراج الى الجهة الثانية ، وثم انسحبوا من خلال بعض فروع المدينة واحيائها الى البساتين لاختفاء انفسهم وتدبير امورهم .
لقد اضطرت النسوية الشيوعيات في ظل ظروف غاية في الصعوبة من الهروب والاختفاء وفي مقدمتها المرأة الشيوعية زينب قرمان التي تمكنت من الافلات من ايدي الجيش والشرطة تحت وطأة الملاحقات الشرسة والاعتقالات الواسعة والقتل تحت التعذيب التي طالت العشرات من خيرة ابناء وبنات اهالنا ، وأفلحت في الخروج من مدينة خانقين مع اختها بعد ان حرقوا كل ما لديهم من الوثائق والاوراق والمستمسكات المتعلقة بتنظيم الحزب الشبوعي في خانقين والتنظيم النسائي بشكل خاص ، خوفا على رفيقاتهم وكشفهم من قبل اعوان الانقلابين والقاء القبض عليهن ، حيث لبسوا العباءة مع منقبات الوجه او البوشية قبل هروبهم لتسهيل الامور لهم وعدم معرفتهم من قبل الجلاوزة ( المنقبة اوالبوشية غطاء الوجه من قماش اسود ناعم التي كانت النساء وكبيرات منهن بالاخص يحجبن به وجوههن عند مغادرة المنزل ، بلإضافة الى العباءة السوداء ) .
لقد بدأت حملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء المدينة والتي طالت عشرات المئات من الناس ، رجالاً ونساءًً بعد تمشط البيوت وبعض البساتين داخل المدينة ، والقاء القبض على من شارك وشاركت في المظاهرة المذكورة ، وطالت الاعتقالات معظم السياسيين البارزين والقيادات الشيوعية والنقابية في المدينة . وملأ عدد الذين اعتقلوا بهذه الطريقة السجون الموجودة في المدينة ، وقد بدت المدينة عقب الانقلاب شبه مهجورة ، وقد استخدمت أبشع وسائل التعذيب الوحشي من قبل الجيش والاجهزة الامنية بحق الذين وقفوا ضدهم لحصولهم على المعلومات واخذ الاعترافات منهم عن اعضاء الحزب الشيوعي في المدينة وعن تحركاتهم وتنظيماتهم ، كما شن قوات الحرس القومي التي جلبت من مناطق اخرى الى المدينة ومنحت لها سلطات مطلقة في اعتقال وتعذيب من تشاء من أفراد المدينة لقد تجاوز الحرس القومي كل الحدود الإنسانية في تعاملهم البربري مع اهالي المدينة ، بعد ان اقتحموا البيوت بيتا بيتا وهم يفتشون لألقاء القبض على شباب المدينة ، وتحت ضربات أعقاب البنادق والشتائم والصراخ ، واخرجوا جميع نساء ورجال الى خارج الدار واصطفافهم الى الحائط ، وكانت البنادق والرشاشات موجهة نحوهم حين بدأوا بعزل الرجال والشباب بالاخص عن عوائلهم ، ورغم عويل النساء والاطفال ومتعلقين باذرع رجالهم او ابائهم ، لانهم يعرفون مصير من يلقي القبض عليه على ايدي جلاوزة البعث .
ذلك اليوم المشؤوم سالت دماء كثيرة من العراقيين على ارض الوطن ، ودخل العراق مرحلة الحكم الدكتاتوري والشوفيني الواضح والصريح ، واصبح العراق رهينا في يد هؤلاء المجرمين والقتلة ، وتغيرت أوضاع وتبدلت موازين على نحو ما جرى ويجري في المشهد العام للعراق الجريح منذ ذلك التأريخ .[1]