=KTML_Bold=محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “الثاني والثلاثون”..=KTML_End=
الكاتب والباحث السياسي الدكتور محمود عباس
محقراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التناقضات حول تحضر العشائر العربية البدوية في الجزيرة :
تكثر المغالطات والتناقضات في كتاب محمد جمال باروت، إلى جانب التكرار، وإعادة المعلومات نفسها، وبتقصد، وكثيراً ما تكون تحت حجج مختلفة، لإسناد قضايا متضاربة على الأغلب. يستخدمها كطريقة لإقناع القارئ بعدمية وجود قضية كوردية في المنطقة، كما وتلاعب بالحقائق التاريخية، مركزاً على المفبركة منها، وهو ما أدى إلى سقوطه في تناقضات فاضحة. وبسبب طغيان غايته الرئيسة، وهي تجريد جنوب غربي كوردستان، وخاصة الجزيرة من كوردستانيتها، جغرافياً وديموغرافياً، غاب المنطق العلمي والشفافية عن منهاجيته البحثية، وخسر المصداقية عن مجمل الكتاب، ففاض كتابه بالتناقضات، خاصة عند عرض الحوادث التاريخية ذاتها في مناسبات متنوعة، وإبراز شخصيات كوردية بسيطة وتضخيمها للتغطية على المهمة في الحركة الكوردستانيةالسياسية والثقافية.
ورغم أسلوبه الروائي، ظهر كتابه منخوراً، ولا يدعم هدفه إلا عند القارئ الساذج، بسبب عدة إشكاليات ومنها، عمليات البتر المستخدمة في مصادره، والتي ليس فقط لا تغطي على التشوهات الفاضحة في الإسناد، بل تبرز عنصرية الكاتب بشكل مبتذل. إلى جانب تحريف الحقائق التاريخية التي لم يتمكن من فبركتها. ولتبيان هذه الحقيقة وغيرها سنتطرق إلى بعض التناقضات والتكرار وليست جميعها، فهي من الكثرة بحيث توقفنا عن تتبعها، بعدما تجاوزنا رقم الثلاثين:
1- التناقض في السرد التاريخي الاقتصادي حول عشيرة الجبور، وهي فرع من قبيلة العبيدات، هاجرت في بداية القرن الماضي بعد خسارة إمارة العبيدات أمام أل السعود العنزة: يقول الكاتب محمد جمال باروت في الصفحة (122) “كما كانت هذه هي حال عشيرة الجبور التي تقطن على ضفاف نهري الخابور والجغجغ بين مركدة في جنوب الحسكة وتل الأحمدي في شمالها مروراً بالشدادة التي كان فيها مركز إداري نما حوله تجميع حضري مستقر ووصلت وتيرة سير الجبور في عملية التحضر وتناغمها مع برنامج العمران الحضري والأمن إلى درجة أنها كانت تدفع حتى عام 1908م نصف واردات لواء دير الزور من الضرائب…” هذا السرد يتناقض مع ما تم ذكره سابقاً في الصفحة(117) قائلاً “أن منطقة الخابور وضفاف الجغجغ غير مأهولة” مستنداً هنا إلى مرجع الرحالة (ساكاو) في رحلته الأخيرة للمنطقة عام 1899م. كما ولا يعقل أن تتمكن عشيرة رحل مهاجرة من التحضر خلال عدة سنوات وتساهم في الضرائب، علما أنه لم تفرض يوما الضرائب على القبائل البدوية الرحل.
لا شك بدأت عملية التحضر بين الجبور كغيرها من القبائل البدوية في الجزيرة، لكن ليست قبل الثلاثينات من القرن التاسع عشر، ففي الإحصائيات الفرنسية التي جرت قبيل الانتخابات البرلمانية في بدايات عام 1936م، كانوا يدرجون عشيرة الجبور العربية ضمن القبائل البدوية الرحل، ونوابهم كانوا من ضمن كوتة الرحل. وهنا يظهر السؤال المحير، كيف يمكن أن تنتقل منطقة غير مأهولة إلى منطقة تقدم نصف واردات لواء دير الزور من الضرائب في أقل من عقد من الزمن، تسع سنوات؟ وعلى أعتاب قبيلة كانت تعيش حياة البداوة وترعى الغنم، واستمرت كمجتمع رعوي رحل ونصف رحل حتى نهايات الستينات من القرن الماضي. وكيف تحولت وبقدرة قادر خلال الفترة الزمنية القصيرة إلى مجتمع زراعي غني؟! علماً أن عشيرة الجبور المستقرة على ضفاف الخابور، لاتزال تعتمد على الرعي حتى الأن إلى جانب الزراعة كمصدر للعيش.
والغريب كيف لم ينتبه أنه في الصفحتين ( 123-124) يفند فبركته الاقتصادية السابقة عن عشيرة الجبور، عندما يسرد تاريخ المنطقة من بداية القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ليستقر على مقولته التالية ” لكن التشكل الحقيقي للقرى لن يتم قبل أواسط القرن العشرين، في مرحلة شروع سلطات الانتداب الفرنسي منهجيا وسياساتياً بها، حين سيطور الفرنسيون هذا النمط الانتقالي إلى نهايته وهو تشكل القرى والبلدات…” وبهذا المقطع الختامي للقسم الأول من كتابه، يزيل كل ما سبق قوله، ومن ضمنها قرى الطي الزراعي، وجعل عشيرة جبور عشيرة حضرية زراعية، وعلى مقدرة لتقديم نصف ضرائب دير الزور! وخاتمته لهذا القسم حقيقة تاريخية لديموغرافية تلك المنطقة في جنوب الجزيرة، تؤكدها جميع المصادر وبعض كتب الرحالة، بأنه لم يكن هناك أي نوع من حضر للقبائل العربية في شمال الفرات الأوسط والخابور والجزيرة الشرقية، باستثناء القرى الكوردية.
2- من المغالطات المقصودة، والتي يستخدم فيها البتر، ما يورده في الصفحات الأولى من القسم الثاني، والتي تتعرى فيها الإسقاط المرجعي من غير مواردها وفي مواقع مختلفة، ومنها أثناء حديثه عن الحضر الكوردي في الجزيرة، وتقوله على السيد (ديف ترنون) بجزء دون آخر، عندما يذكر الأخير المراكز الحضرية في الجزيرة العليا، والتي هي قرى كوردية، ويحاول بشكل غير مباشر مقارنتها مع القرى التي بنيت لبعض العشائر العربية على ضفاف الفرات الأوسط ولم يتمكن العثمانيون من إبقاءهم فيها، هجروها رغم المشاريع العمرانية، المدعومة من السلطات العثمانية على الفرات الأوسط. وغايته من هذه المقارنة، تغييب الوجود الكوردي الحضري وخلق الوجود العربي من العدم، رغم ذلك يظهر الحضر الكوردي في الجزيرة وبالكثافة السكانية المقارنة بتلك الفترة الزمنية، وهي بدايات القرن الثامن عشر، ذاكراً أسم الباحث (ديف ترنون) وصفحات من كتابه المخصص لدراسة المجازر الأرمنية في عام 1915م، بشكل اعتباطي، مع بتر لأسماء القرى الكوردية في مناطق عديدة، لتمرير مقصده، وتتبين ذلك في الصفحات ( 122-124)، خاصة عندما يأتي على ذكر أسم قرية(دوركه) (ص123) في أطراف عاموده، وأسماء قرى أخرى في شرق قامشلو وشمال الجزيرة العليا، ومنها التي تم تسكين المسيحيين الكورد والسريان فيها، بينهم الذين انقذهم آل عباس زعماء عشيرة دوركه، وبعض العشائر الكوردية الأخرى، من الفرمان العثماني الطوراني، متناسيا، الكاتب، القرى والتجمعات الحضرية الأقدم منهم بكثير، ولهم عمق حضاري تنطلق من بدايات القرن الثامن عشر، كقرية (دوكر) حاضرة آل عباس، وحلوة وتل شعير حاضرتي حجي سليمانه، وديرونا آغي حاضرة آل المرعي، وخربة الديب، والسيحة حاضرة آل اليوسف، وتل معروف، وغيرها الواقعة نحو الجنوب، والشرق، وتوجد وثائق عثمانية بامتلاك الكورد لهذه الأراضي، هذه المجمعات الحضرية كانت عامرة قبل بداية القرن الثامن عشر، وقد نشرت أحدى تلك الوثائق في كتاب الباحث مارتن فان براونسن، (الأغا والشيخ والدولة) والبرية الممتدة جنوبها حتى جنوب سنجار واطراف بحيرة (كولا سموقيا) وجنوب الحسكة كانت مرابع لقطعان هذه العشائر الكوردية، وما بعدها كانت بادية خالية كليا من الناس، ومراعي للعشائر الكوردية، قبل أن تصلها القبائل العربية بقرون…
يتبع…
[1]