حكى روّاد المقهى الّذي يقع على ناصية الشارع الكبير، المحاذي للنهر، أنّهم رأوا قسمت حين قدمت في تلك الليلة، ماشية على عجالة، و بصحبتها طفلة في الثانية من عمرها، ثمّ خلعت نعليها، ومن ثمّ عباءتها، لتكشف عن بطنها الحامل خلف (دشداشتها البازة)، ما جعل بعض زبائن المقهى ينفضون عنهم آثار السهر لينتبهوا إليها، غير أنّها لم تمهلهم كثيرًا ليستفهموا، فبادرت ببساطة و سرعة إلى إلقاء الرضيع في النهر، ثمّ قبل أن يفيق السهارى من المفاجأة، أو يفكّر أحد منهم في أن يهرع نحوها، كانت قد ألقت بالطفلة، ثمّ بنفسها.
بعد يومين من الحادثة، أُعلن في بغداد خبر وفاة الملكة عالية، لكنّ أحدًا من أهل الدار أو (النزِل) المستأجرين فيها، لم يكن ليسمع به أو يهتمّ، و هم مشغولون جميعًا في العزاء الّذي استمرّ ثلاثة أيّام طويلة، حيث لم يخلُ البيت من المعزّيأت اللواتي توافدن من جميع أنحاء الدهّانة و باب الشيخ و شارع الملك غازي، كلّ من سمع بالفاجعة، جاء إمّا مواسيًا أو ليروي فضوله برؤية الأب و الأمّ المثكولَين بابنتهما والأحفاد.
الجميع لديهم أسئلة فضوليّة يطرحونها بطريقة مطمئنة، وكانت الأجوبة والتعقيبات دائمًا ما تأتي من (قَيَم) أو (شازي) بكلمات قليلة و متكسّرة، أمّا (فرست) أخت قسمت الصغرى، والّتي أُجّل زفافها للمرّة الثانية، بسبب وفاة عمّها قبل شهور عدّة، ثمّ تلقائيًّا مع انتحار اختها، فكانت تنظر إلى المعزّيأت الفضوليّات بنظرات فارغة، وقد التزمت الصمت.
بهذا المشهد، تبدأ الكاتبة حوراء النداوي روايتها الّتي اختارت (قسمت) عنوانًا لها.
لا ينفكّ شبح قسمت يزور تلك العائلة، و ربّما اختارت الكاتبة هذا الاسم عنوانًا لروايتها، لأنّها تريد أن تلوّح بتلك ال (قسمة) الّتي تلاحق الكورد الفيليّة، الّذين لم يروا استقرارًا أو سكينة.
تحدّثنا الرواية عن عدّة أسر من الفيليّة في مناطق باب الشيخ في بغداد، و علاقاتها بأسر أخرى من معارفهم، حيث يظهرون في تلك المناطق و الأزقّة كعائلة واحدة، و يبدو جليًّا أنّهم يعاضدون بعضًا، و يزورهم شبح قسمت، ليخاف البعض من الشبح، و يستبشر البعض الآخر بهذا الشبخ الّذي أصبح رمزيّة لتلك الأحداث المباغتة الّتي يعيشها الفيليّون، والّتي ربّما تكون مخيفة، أو مبشّرة.
تتوغّل الرواية إلى تاريخ تلك الأسر، الّذي جاءوا من پشت كوه (خلف الجبل) و كيف أنّهم هناك في قراهم قرب المناطق الجبليّة، يجدّون في العمل خلال فصل الصيف في التجارة و الزراعة و الرعي.
مع أحداث الرواية، نلاحظ عودة إلى تاريخ تلك العوائل، الّتي جاءت من پشت كوە (خلف الجبل)، و تخبرنا أنّهم مع فصل الصيف كانوا يبذلون جهدهم في أعمال التجارة و الزراعة و الرعي، و عند اقتراب الشتاء، يعودون إلى قراهم في الجبال، كما أنّ الرواية تحدّثنا أيضًا عن قوّتهم في إنجاز الأعمال الّتي تتطلّب جهدًا جسديًّا، و كيف أنّ قسمًا منهم كانوا يعملون في جميع الفصول في الأماكن الدافئة ك بغداد.
و تخبرنا عن والد قسمت، الّذي انغمس في حزنه العميق، من أجل ابنته و أحفاده الّذين غيّبهم النهر، والّذي كان يدعى ب ملّا غلام علي، و كان جدّه جهانگیر مسؤولًا ماليًّا لدى والي پشت كوە في لورستان، و كان الوالي حسين قلي خان يجمع قبائل القرلوس و بختياري و كلهر كي يحارب قبائل خرّم آباد، الّذين كانوا ينضوون تحت لواء الأمير محمود.
وقد قُتل الأخ الصغير لجهانگیر في تلك الحرب، و مع فوضى ما بعد الحرب، رحل والد ملّا غلام إلى بغداد، و قد وُلد ملّا غلام في بغداد، و استقرّ أحد عمومته في مدينة الحلّة، ثمّ رحل إلى البصرة، و أنشأ مطحنة، و مع الأيّام، ذاب ذلك العمّ بين العرب هناك.
لم يكن الملّا غلام قد زار پشت كوە سوى مرّة واحدة، وذلك بعد سقوط سلطة الولاة على يد الشاه البهلوي، و قد وقعت لوڕستان تحت سلطة الفرس، وقد أصبح لتلك الدولة اسمها الجديد (إيران).
كان الملّا غلام يشعر بغبطة في زيارته تلك، لأنّه يسكن بغداد، وليس تحت سلطة البهلوي، الّذي كان يجنّد الكورد إجبارًا، و يلاحق وجهاءهم ويسجنهم، لكنّه في ذلك الوقت قد انقسم إلى نصفين، نصف إيراني، و آخر عراقي.
في تفاصيل هذه القضيّة، يظهر جليًّا فيما يصيب الكورد الفيليّة، كما تسرده حوراء النداوي في روايتها، أنّ الكورد الفيليّة منذ ذلك العصر، إلى يومنا هذا، أصابهم التشظّي، فبعد أن كانوا كيانًا واحدًا، و لهجة كورديّة واحدة، و ثقافة واحدة، أصبحوا مع كلّ معضلة و معاناة، تتمزّق أطرافهم، و يصبحون أبعد عن الرتق.
ونجد في الرواية شخصًا يظهر كمجنون، و أحيانًا يبدو حكيمًا، وهو شخصيّة پرگة، يظهر برفقة قطّتين، تلجأ إليه النسوة، عندما يرتعبن من شبح قسمت، و يطرقون بابه، هو يستشير قطّتيه، و كأنّه يفهم من موائهما، ثمّ يضع الحلول.
قبل تسفير الكورد الفيليّة من بغداد والعراق بأسره، بأيّام قليلة، كان پرگة يقتحم بيوت معارفه الكورد الفيليّة، و يتفوّه بكلمات مخيفة، تبثّ فيهم القلق حول مصيرهم.
الهيئة المضطربة ل پرگة، تظهر كعلامة مميّزة في الرواية، حيث تلجأ إليه العوائل الفيليّة، إلى هذا الشخص، الّذي لا يبدو مجنونًا، و لا عاقلًا، لأنّهم دومًا يعيشون في دوّامة اللامصير.
أحد شخصيّآت الرواية، وصل إلى مراتب متقدّمة بعد أن عمل عتّالًا في سوق الشورجة، حتّى أصبح يلمّ بالتجارة، ولكونه رجلًا أمينًا و ذكيًّا، تدرّج إلى أن أصبح تاجرًا غنيًّا، و اشترى لنفسه منزلًا كبيرًا في حيّ جميلة.
وعندما بدأت التسفيرات، كان من أوائل الكورد الفيليّة الّذي استولى النظام على أمواله في المصارف، و كذلك صودر بيته، و رُمي به و أسرته، في تلك البريّة و المرتفعات بين العراق و إيران، شريطة أن لا يعودوا إلى العراق.
واستطاعت زوجة ذلك التاجر المسلوب، أن تربط حزمة من المال على بطنها سرًّا، و عندما وصلوا إلى إيران، أسعفت أسرتها بذلك المال، و أصبح زوجها من أصحاب الأعمال مرّة أخرى، لكن هذه المرّة في مدينة إيلام الفيليّة.
أحد أبناء رجل الأعمال ذاك، يحكي معاناته الّتي يعيشها في مدينة إيلام الفيليّة، حيث يسخر البعض من لهجته و لكنته والمفردات العربيّة الّتي تتخلّل لغته، وهم في ذات الوقت، يتناسون أن تلك المفردات الفارسيّة في حديثهم.
حول هذه القضيّة، ربّما أرادت الكاتبة أن تشير إلى تلك النقطة الهامّة، إذ تتعرّض اللهجة الفيليّة إلى الذوبان في تلك القوميّات، الّتي تشتّت بينها مجتمعات و لهجة و تراث الكورد الفيليّة.
حوراء النداوي، مؤلّفة رواية قسمت، من مواليد يغداد عام 1984 من أب عربيّ و أمّ فيليّة، هاجرت أسرتها بعد انتفاضة عام 1991 إلى الدنمارك، وهي ابنة أياد بنيّان المسؤول عن نادي الشرطة الرياضي، و زوجة لاعب المنتخب العراقيّ لكرة القدم نشأت أكرم، و تعيش حاليًّا في لندن.
في حديث مقتضب أجرته وكالة شفق نيوز مع الكاتبة حوراء النداوي، أخبرتنا أنّ أهل والدتها قد تعرّضوا للتسفير إلى إيران، وقد ترعرعت بعيدًا عن العراق، و كلّ ما استقرّ في ذاكرتها ووجدانها عن الكورد الفيليّة، إنّما استقته من أمّها، و قد زارت مدينة إيلام، و حاورت الكورد الفيليّة هناك، والمسفّرين أبّان الحملة من العراق.[1]