نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (20) – أسلاف الكورد: الميديون .. آثار الحضارة الميدية
د. مهدي كاكه يي
قبل التحدّث عن مواقع الآثار الميدية و الآثار الميدية المكتشفة، من المفيد توضيح أسباب قلة المعلومات المتوفرة عن الإمبراطورية الميدية. إن كوردستان هي مهد الحضارات البشرية ولذلك فأنها تزخر بِمعالم آثارية كثيرة، إلا أنه نتيجة إفتقار الشعب الكوردي لِكيان سياسي بسبب إحتلال وطنه، كوردستان، فأن التاريخ الكوردي قد تعرض للإلغاء والتعتيم والسرقة والتزييف والتحوير من قِبل محتلي كوردستان. لِطمس التاريخ الكوردي والحضارة الكوردستانية، لم يقُم محتلو كوردستان بالتنقيب عن آثار أسلاف الكورد، حيث لا يزال قسم كبير من المواقع الآثرية لأسلاف الكورد غير مكتشفة ومُهمَلة ومتروكة وأن آثار الحضارات الكوردية المُكتشَفة تم إتلافها أو إهمالها من قِبلهم. قام محتلو كوردستان بالإستحواذ على قسمٍ من الآثار الكوردية والإدعاء بأنها تعود لهم. لهذه الأسباب نرى أن هناك معلومات قليلة عن حضارة أسلاف الكورد. قلة المعلومات عن الإمبراطورية الميدية وحضارتها تعود بشكلٍ رئيسي الى سرقة التاريخ والحضارة الميدية من قِبل الفرس الأخمينيين الذين أسقطوا الإمبراطورية الميدية.كما أن قسماً كبيراً من المواقع الأثرية الميدية مهملة و لم يتم التنقيب عنها وإكتشافها.
في لقاء مع مجلة (گوڵان العربي) يقول الدكتور عبد القادر مارونسي بأنه بعد إنتزاع الأخمينيين الحكم من الميديين، لم يبقَ أي أثر للحضارة الميدية، بإستثناء بضع كلمات قليلة، علماً أن المتخصصين في هذا المجال يعترفون بوجود حضارة وثقافة وتراث ميدي. يضيف المارونسي بأن الأخمينيين تقمّصوا التراث الميدي والحضارة الميدية وأن هذا هو رأي أساتذة متخصصين في هذا المجال أيضاً، منهم الدكتور (احمد تفضلي) الأستاذ بجامعة طهران. يمضي الدكتور المارونسي في حديثه و يقول بأن تقمّص الأخمينيين للحضارة والثقافة الميدية شبيهٌ بإنتقال الإرث الى الورثة، حيث ورث الأخمينيون اللغة والكتابة الميدية وديوان الإدارة من الميديين، كما ورثوا أساليب الحكم من الميديين، وورثوا الأعياد، والمناسبات الرسمية والشعبية منهم دون اية إشارة أو إعتراف بذلك1.
يخلص الدكتور المارونسي الى ان الأخمينيين طمسوا معالم الحضارة الميدية والتأريخ الميدي من خلال سرقتهم للحضارة الميدية والتاريخ الميدي والإدعاء بأن هذه الحضارة والتاريخ يعودان لهم. الإمبراطوريات التي تلت الإمبراطورية الأخمينية، وخاصةً الامبراطورية الساسانية، إستمرت بدورها في سرقة التاريخ الميدي والحضارة الميدية1.
يذكر الدكتور المارونسي أيضاً بأن كثيراً من الآثار المكتشفة في همدان هي آثار ميدية تم تسجيلها بإسم الأخمينيين، ويشمل ذلك العديد من المباني والكتابات والجداريات وأنه يعتقد بأن كل ما ظهر حتى الآن في همدان يعود الى الحضارة الميدية1.
كما يذكر (ويل ديورانت) بأن الفرس أخذ عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي يبلغ عددها ستة وثلاثين حرفاً، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالإقتصاد وحُسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهية (آهورامزدا) و(أهرمان) ونظام الأسرة الأبوي وتعدد الزوجات وطائفة من القوانين2. كما يذكر (ستروناچ Stronach) بأن الآثار الميدية والأخمينية متشابهة، حيث إقتبس الأخمينيون كل ما كان يملكه الميديونa. يقول هيرودوت أيضاً بأن الفرس إقتبسوا الخط المسماري من الميديين، كما أن اللغة الأدبية الفارسية تأثرت كثيراً باللغة الميدية ويبدو أن الزي الميدي كان في غاية الأناقة بمقاييس ذلك العصر الى درجة أن الزي الميدي كان معروفاً على النطاق الإقليمي والعالمي وكان معظم الفرس يلبسون الملابس الميدية والحُلي الميديةb.
يذكر (ستروناچ Stronach) بأنه تم إكتشاف مواقع أثرية ميدية بعد الستينات من القرن العشرين وأن الحفريات الأثرية تركّزت فقط في المنطقة المعروفة بالمثلث الميدي الذي يشمل المنطقة التي تحدها مدينة همدان و(ملاير) الواقعة في محافظة همدان و (كَنگاور Kangāvar) الواقعة في محافظة كرمنشاهa. كما يذكر (دياكونوف) بأن آثار المدن والحضارة الميدية القديمة لا تزال باقية تحت الأنقاض وليست هناك أية نصوص عن الحكم الميدي لمعرفة ميديا ودولتهاc.
المواقع الأثرية
تم إكتشاف مواقع أثرية ميدية بعد الستينات من القرن العشرينa، حيث تركّزت الحفريات الأثرية في المنطقة المعروفة بالمثلث الميدي الذي يشمل المنطقة التي تحدها مدينة همدان و(ملاير) الواقعة في محافظة همدان و (كَنگاور Kangāvar) الواقعة في محافظة كرمنشاهa.
ثلاث مواقع أثرية رئيسية في وسط غرب ايران في فترة العصر الحديدي الثالث ( 850-500 قبل الميلاد) هيd:
1. تَپە (نوشي جان Tepe Nush-i Jan)
وهي في المقام الأول موقع أثري ديني. يقع الموقع على بعد 14 كيلومتر غرب (ملاير Malāyer) في محافظة همدانa. بدأت الحفريات فيه في سنة 1967 بإدارة (د. ستروناچ D. Stronach)e. لا تزال هناك بقايا أربعة مباني رئيسية في الموقع التي تحتوي على المعبد المركزي و المعبد الغربي والحُصن والقاعة العمودية التي، حسب قول (ستروناچ) أنه من المرجح تم بناؤها بإسم طبقة الكهنة قبل النصف الأول من القرن السادس قبل الميلادf. يذكر (ستروناچ) بأن المعبد المركزي، بِتصميمه الصارخ، يعطي تعبيراً واضحاً عن المعتقد الديني وإقامة الشعائر الدينيةf. لقد تم العثور على عدد من السيراميك لِلشاقول الأفقي (ميزان البنائين) الميدي في تل (نوشي جان) الذي يعود الى عهد توطيد الميديين لنفوذهم في مناطق همدان (النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد). هذه المكتشفات تُظهِر أربع تركيبات مختلفة معروفة بإسم خزف شائع (أصفر برتقالي أو أصفر شاحب أو أحمر فاتح مع سبيكة لِمادة شبه زجاجية (mica) من الذهب أو الفضة، بما في ذلك جرّات ذات أحجام مختلفة، أكبرها هو نوع من أنواع الحاويات الكبيرة المضلعة (صورة 1، 2، 3). تم أيضاً إكتشاف أواني أكثر إتقاناً، ذات حجوم أصغر و ذات ألوان رمادية (صورة 4). هذه الأواني ذات سطوح ناعمة ولمّاعة. في هذا الموقع، تم العثور أيضاً على مصنوعات يدوية مثل أدوات الطبخ وأواني سهلة الكسرf.
2. تَپە (گودين Godin Tepe)
فيه قصر مُحصّن لِملِك ميدي أو رئيس عشيرة. يقع هذا الموقع الأثري 13 كيلومتر شرقي مدينة (كَنگاور Kangāvar)، على الضفة اليسرى لنهر (گاماس Gamas). بدأت الحفريات في هذا الموقع في سنة 1965 بقيادة (يونگYoung ) والتي طبقاً لِقول (ستروناچ Stronach) يُظهِر هذا الموقع بِوضوح منشآت مهمة تعود للعصر البرونزي التي تم السكن فيها من جديد قبل بداية العصر الحديدي الثالث. الحفريات التي قام بها (يونگ) تشير الى بقايا جزء من مسكن يعود لِحاكم ميدي محلي الذي أصبح فيما بعد حاكماً مُهماًa. هذا المسكن مشابه لتلك البيوت التي تشير إليها المصادر الآشوريةd.
3. موقع (بابا جان Baba Jan)
قد يكون هذا الموقع مقر حاكم قبلي ميدي أقل شأناً. يقع الموقع الأثري في شمال شرق لورستان، يبعد حوالي 10 كيلومترات من مدينة (نورآباد) الواقعة في محافظة لورستان. في سنوات 1966-1969 تمت الحفريات في هذا الموقع من قِبل (گوف C. Goff). قد تعود الطبقة الثانية لهذا الموقع الى القرن السابع قبل الميلادg. تتشابه هذه المصادر (في الخصائص الثقافية) وتختلف فيما بينها في جوانب أخرى بسبب وجود إختلافات وظيفية وتنوع القبائل الميديةd. بُنية هذه الإكتشافات الأثرية، التي تعود على الأرجح لفترة الحكم الميدي، تُظهِر وجود صلة بين تقليد القاعات العمودية المخصصة للمقابلات الرسمية الذي غالباً ما تُشاهَد في إيران الأخمينية، على سبيل المثال في (پیرسیپولیس Persepolis تخت جمشيد) وكذلك في إيران الصفوية، على سبيل المثال في قاعة الأعمدة الأربعين التي تعود الى القرن السابع عشر الميلادي، وبين العمارة الميديةd.
المواد التي تم العثور عليها في تل (نوشي جان) وتل (گودين) ومواقع أثرية أخرى واقعة في الإمبراطورية الميدية، الى جانب النقوش الآشورية، تُظهِر وجود مستوطنات حضرية في ميديا في النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد والتي كانت تعمل كمراكز لإنتاج الحِرَف اليدوية وكذلك مراكز للإقتصاد الزراعي وتربية الأبقار من النوع الثانويh. للتوثيقات التأريخية الأخرى، الأدلة الأثرية نادرة والتي الى جانب السجلات المسمارية الآشورية، تجعل من الممكن تسجيل جانبٍ من التأريخ المبكر للميديين، دون أخذ معلومات (هيرودوتس) بنظر الإعتبارi.
4. تَپە هكمتانة (تل هكمتانه): ما زالت آثار عاصمة الإمبراطورية الميدية (هكمتانه أو جەمەزان) باقية وهذه المدينة التي يظهر قسمها الشرقي من تحت الارض، تكشف عن نظام معماري متقدم الذي قام بتصميمه معماريون متخصصون. إن بناء مدينة مُحكمة وحصينة وجعلها عاصمة للإمبراطورية ومركزاً لِخزينتها، مثل (جەمەزان) لا يتم إلا من قِبل ملك مُقتدِر. كما أن المدينة بِقلاعها وأبراجها الدفاعية تدل على إتخاذ الميديين الحيطة والحذر من إعتدءات الدول المجاورة لها. تكمن أهمية (تل هكمتانه) كونها تضم تحتها أطلال عاصمة الميديين. التل بيضوي الشكل وتبلغ مساحته حوالي ثلاثين هكتاراً. في أطراف التل، هناك أكثر من عشرة هكتارات تم إنشاء بيوت سكنية فيها. هناك شارع يُقسّم (تل أكباتان) الى قسمين، شرقي وغربي. مدينة (جەمەزان) هي مدينة ضخمة وتتميز بأسوارها النادرة التي تتألف من سبع أسوار عالية وعريضة على شكل صفوف متراصة وهي تحيط بالمدينة. السور السابع هو أعلى من السادس والسادس هو أعلى من الخامس وهكذا بالنسبة الى الأسوار الباقية (صورة 5، 6).
(جەمەزان) تعني (مكان الإجتماع) في اللغة الكردية وإستُخدمت أحياناً إسم هيكمەتانا، إلا أنها إشتهرت بإسم آكباتان وهذه التسمية أطلقها عليها اليونانيون وقد تم تثبيتها في المراجع اليونانية بهذا الإسم. كما أن كلاً من زينفون وهيرودوت وغيرهما، يشيرون إليها بهذه التسمية وأن موقعها يقع بالقرب من مدينة (همدان) الحالية ومصادر أخرى تذكر بأن مدينة همدان الحالية هي نفسها مدينة (آكباتان) الميدية.
الأسد الصخري في همدان
من الآثار الميدية المتبقية في همدان هو تمثال الأسد الصخري العملاق الذي ينسب الى الملك الميدي دياكو (صورة 7). ينتصب الأسد الصخري في إحدى الساحات العامة في مركز مدينة همدان. طول التمثال هو 5.2 متراً وعرضه 1.15 متراً وإرتفاعه 2.1 متراً. كان يُطلق على المنطقة التي يوجد فيها الأسد، باب الأسد. يُلاحظ في الصورة أن أقدام الأسد مكسورة وتقول بعض المصادر بأن لبوة صغيرة كانت موجودة الى جوار الأسد الصخري، إلا أنها لم تعد موجودة الان. هناك تماثيل أخرى للأسود، منها تمثال لِأسدَين مجنحين لهما رأسان على هيئة إنسان (صورة 8).
هناك مواقع أثرية أخرى للحضارة الميدية، حيث تم العثور في (كهف شهرزور) الواقعة في محافظة السليمانية في جنوب كردستان على قبر الملك (كَيخاسرَو( وعلى رسومات عديدة1. كما وجِد في هذا الكهف على تمثال ذو أربعة أجنحة لِشخص محفور على حجر، عليه صورة كوكب الزهرة التي تدل على الآلهة أناهيتا، وللقمر الدال على الآلهة ( ميثرا(، وللشمس الدالة على (أهورامزدا(، بالإضافة إلى صورة كاهن من الموغ أمام موقد نار1. في كهف آخر في منطقة (دوكان) في جنوبي كوردستان، تم العثور على قبر الملك الميدي أستيا گ. في جنوبي بحيرة (أورمية) في شرقي كوردستان، تم إكتشاف آثار (فاهريكا) حيث أن قبور الأمراء الميديين قائمة على سفوح الجبل وتم تزيين أحد القبور بِنقوش تصوّر شخصاً يقبض على حزمة من الأغصان وهو يناجي. يبدو أن هذه الرسوم تُصوّر الإحتفالات الدينية الميدية.
بالإضافة الى المواقع الأثرية المذكورة أعلاه، كانت هناك مدن ميدية أخرى، منها (لاودسيا Laodicea ) ( نهاوند الحالية) و(Rhages رَي ) الواقعة على مشارف مدينة (رَي) في جنوب مدينة طهران و مدينة (أپاميا Apamea) الواقعة بالقرب من (أكباتانا) التي موقعها غير معروف بشكل دقيق. خلال الفترات اللاحقة، فأن الميديين وخاصة الجنود منهم قد تم التعرّف عليهم في المواقع الأثرية الميدية، مثل موقع (بيرسيبوليس Persepolis تخت جمشيد)، والذي يشير الى أنه كان لهم دوراً ووجوداً رئيسياً في جيش الإمبراطورية الأخمينية الفارسية.
المصادر
1. الدكتور عبد القادر مارونسي. مجلة گوڵان العربي، 2000.
2. ويل ديورانت (1988). قصة الحضارة. ترجمة الدكتور زكي نجيب أحمد، االمجلد الأول، الجزء الثالث، صفحة 604.
المراجع
a. Stronach, David (1982), Archeology ii. Median and Achaemenid, in Yarshater, E., Encyclopaedia Iranica 2, Routledge & Kegan Paul, pp. 288–96, ISBN 978-0-933273-67-2.
b. Herodotus : the history of Herodotus . translated by Harry Carter ( London – 1962).
c. Diakonoff, I. M. Media .In The Cambridge History of Iran, Vol. 2: 36-148. Cambridge University Press, Cambridge, England, 1985.
d. Young, T. Cuyler (1997), Medes, in Meyers, Eric M., The Oxford encyclopedia of archaeology in the Near East 3, Oxford University Press, p. 449, ISBN 978-0-19-511217-7.
e. Stronach, David (1968), Tepe Nush-i Jan: A Mound in Media, The Metropolitan Museum of Art Bulletin, New Series 27 (3): 179, doi:10.2307/3258384, ISSN 0026-1521, JSTOR.
f. Stronach, David (1982), Archeology ii. Median and Achaemenid, in Yarshater, E., Encyclopaedia Iranica 2, Routledge & Kegan Paul, p. 290, ISBN 978-0-933273-67-2.
g. Henrickson, R. C. (1988), Baba Jan Teppe, Encyclopaedia Iranica 2, Routledge & Kegan Paul, ISBN 978-0-933273-67-2.
h. Dandamayev, M. and Medvedskaya, I. (2006), Media, Encyclopaedia Iranica Online Edition.
i. Young, T. Cuyler (1997), Medes, in Meyers, Eric M., The Oxford encyclopedia of archaeology in the Near East 3, Oxford University Press, p. 448, ISBN 978-0-19-511217-7.
[1]