نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (27) – أسلاف الكورد: الميديون
د. مهدي كاكه يي
ميديا في ظل حُكم الملك أستياگ (584 – 550 قبل الميلاد)
بعد وفاة كَيخَسرَو سنة 585 قبل الميلاد، خلّفه على العرش إبنه أستياگ (أستياگيس Astuages)، الذي دام حكمه لمدة 34 سنة (584 – 550 قبل الميلاد). كان البابليون يسمّونه (اشتوميكو)1.
بعد إختفاء الإمبراطورية الآشورية، كانت الإمبراطورية الميدية لها علاقات ودية مع كل من مملكة بابل ومملكة ليديا، وبذلك ساد الإستقرار والأمن والسلام في غربي آسيا، حيث إزدهرت التجارة وعمّ الثراء في المنطقة, وخاصة في ميديا. عن الثراء الميدي، يذكر (ويل ديورانت Will Duarant) ما يلي: أصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المُترَفة، فلبس الرجال السراويل المطرّزة الموشّاة، وتجمّلت النساءُ بالأصباغ والحليّ، بل أنّ الخيول نفسها كثيراً ما كانت تُزيّن بالذهب، وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كلَّ السرور في أنْ تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشبية غليظة، مقطوعة من سيقان الأشجار، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة، ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة2.
نتيجة ثراء الإمبراطورية الميدية، إنصرف الملك الميدي (أستياگ) الى الترف والبذخ وأهمل شئون شعبه وبلاده، حيث أنه طوال حكمه أحجم عن حماية مملكته من العصيان والتمرد. وقاد الإنصراف إلى الترف والبذخ في العيش، الى ظهور مراكز قوة في ميديا والتي أصبحت تطمح الى إستلام السلطة وتُشكّل تحديات كبيرة تُهدد عرش الملك الميدي (أستياگ)، إلا أن الملك الميدي لم يعمل على التصدي لمراكز القوة التي أصبحت أحد أهم أسباب فقدان (أستياگ) لعرشه وسقوط الإمبراطورية الميدية.
بعد سقوط الدولة الإيلامية ، سيطر (تايسبس بن هاخامنيش) الذي كان أحد رجال قبيلة (باسارگاداي الأخمينية ) الأقوياء على دويلة (أنشان) وقام بتأسيس حكومة جديدة بإسم الحكومة الأخمينية وأصبحت هذه الدويلة فيما بعد تابعة للإمبراطورية الميدية ، كان ل(تايسبس)3 ولدَين حكما في جنوب إيران الحالية، هما (كورش الأول) و(أريارامنا). خلّف (كورش الأول) ولداً إسمه (قمبيز) الذي كان خلال حكم الملك الميدي (أستياگ)، أميراً لمنطقة (أنشان) (لورستان الحالية) والتي كانت جزءاً من الإمبراطورية الميدية.
لم يكن للملك (أستياگ) ولداً ليُخلّفه في الحكم. يروي هيرودت في قصة أسطورية بأن (أستياگ) حلِم أن إبنته (ماندانا) قامت بِجلب مياه كثيرة ملأت بها المدينة وأغرقت كل آسيا. إستيقظ (أستياگ) من النوم مفزوعاً و دعا في الحال الكهنة الموغ لتفسير حلمه. أخبره الكهنة بأن رجلاً سيخرج من صلبه ويقوم بالقضاء على حكمه وإمبراطوريته. عند سماعه هذا الكلام، تملّك (أستياگ) الذعر والخوف وقرر حينذاك عدم تزويج إبنته (ماندانا) من أي رجلٍ ميدي ذي شأن ومنزلة، لمنع إنهيار إمبراطوريته وزوال حكمه4.
كانت مملكة ميديا تحتفل سنوياً بذكرى إنتصارها على الإمبراطورية الأشورية والقضاء عليها وتدعو ملوك وأمراء ممالك المنطقة لحضور الإحتفالات، حيث كان يتم في القصر الملكي حفلة راقصة كبيرة و إحتفالات شعبية عارمة في كافة أرجاء الإمبراطورية الميدية.
كان الأمير (قمبيز) من بين المدعوين لإحدى الإحتفالات الميدية والتي كانت الأميرة الجميلة (ماندانا) حاضرة فيها أيضاً. كان الأمير (قمبيز) شاباً يافعاً وسيماً. عندما رأى (قمبيز) الأميرة (ماندانا)، أخذ يلاحقها بنظره وأن (ماندانا) إستمالت هي بدورها إليه. في إحدى مباريات المصارعة التي كانت تُقام بين المصارعين الميديين والأجانب، كانت الأميرة (ماندانا) جالسة بجوار أبيها الملك (أستياگ)، أخذ الأمير (قمبيز) يلاحقها بنظراته وردّت الأميرة بأن إبتسمت له، فإبتسم الأمير بدوره فرحاً لتجاوبها معه. هذا ما شجعه على طلب يدها من أبيها بعد إنتهاء مراسيم الإحتفالات، حيث وافق أبوها على تزويج إبنته من (قمبيز) لِكونه لا تجري في عروقه الدماء الملكية، بل كان ينتمي الى الطبقة الوسطى، حيث كان الأمير ( قمبيز) رئيس أحد أفخاذ القبيلة الأخمينية وأمير على منطقة صغيرة (أنشان).
كان من عادة الملوك أن يحصروا زواج أبنائهم وبناتهم ضمن الأُسر الملكية، إلا أن الملك الميدي بسبب الحلم الذي رآه، خرج عن هذا التقليد ورأى أنه من الأفضل عدم حرمان إبنته الجميلة (ماندانا) من الزواج وتزويجه للأمير (قمبيز) الذي ينتمي للسلالة الأخمينية التي هي بدورها تنتمي للسلالة الإيلامية الكوردية، حيث كان يحبّذ تزويجها من رجل كوردي ليبقى الدم الكوردي نقياً.
يذكر هيرودوت بأنّه بعد تفسير الكهنة Mages)) لرؤيا (أستياگ) بخصوص كريمته (مانداناMandane ) ، فضّل تزويجها من( قمبيز) بدلاً من أحد النبلاء الميديين لكي يتجنب أية محاولة يقوم بها نبلاء قومه لإزاحته عن الحكم في المستقبل . يذكر (هيرودوتس) أيضاً بأنّ (ماندانا) أنجبت ولداً من قمبيز أسمته (كورش Kurush ) الذي عاش في كنف الميديين و تربّى بينهم. عندما أصبح كوروش بالغاً، إستطاع الإطاحة بجدّه أستياگ بمساعدة أحد القادة الميديين الذي كان إسمه (هارباگ Harpage) وأسقط الإمبراطورية الميدية وأسّس المملكة الأخمينية.
من جهة أخرى، فأن المؤرّخ (ستيسياسStesias ) يذكر بأنه لم تكن هناك أية رابطة عائلية تربط كوروش بالملك الميدي5. أمّا المؤرّخ (كزينفونXenophon) فأنّ له رأي مشابه لرأي (هيرودوت) في هذه المسألة، حيث يذكر بأنّ كورش كان إبن (ماندانا) الميدية وقمبيز الفارسي، ويضيف بأنّه تربّى، وأقام صباه بين الميديين في كنف جدّه (أستياگ) إلى أن بلغ سنّ الرشد6.
كما ان التنقيبات الأثرية المكتشفة تدل بأنّ كورش كان ينتمي إلى العائلة الأخمينية، وأن والده كان ملكاً، حيث يمكن قراءة الكتابة المسمارية على أحد الألواح التي تتضمن النص التالي: إبن قمبيز، الملك القوي، يتبعه أنا كورش، الملك الأخميني وهناك إشارة أيضاً إلى أنّه كان ملكاً على مملكة ( الشوش Susiane) قبل إطاحته ب (أستياگ) و إسقاط الإمبراطورية الميدية.
جرى مراسيم الزواج في حفل مهيب وأُقيمت إحتفالات جماهيرية واسعة بهذه المناسبة، وإنتقلت الأميرة (ماندانا) مع زوجها الى (أنشان). بعد مُضي عام من زواجهما ولّدت (ماندانا) طفلاً ذكراً في قصر أبيها في ميديا، أسموه (كورش).
شاهد الملك (أستياگ) حفيده لأول مرة فوجده، كما وصفه له الكهنة، فعلٍم بأن رؤياه كان صحيحاً وأن زوال حكمه وإمبراطوريته سيكون على يد هذا الطفل. أمر بإختطاف المولود الجديد من أمه سراً من القصر وإعطائه لأحد أقاربه الذي كان إسمه (هارپاك) وكان قائد جيشه وأمره أن يقوم بِقتله والتخلص منه بعيداً عن القصر.
أخذ (هارپاك) الطفل الى بيته وهو حائر من طلب الملك بِقتل هذا الطفل البريء. فكّر مع نفسه بأنه لا يريد تنفيذ أمر الملك ولا يريد أن يُلطّخ يديه بقتل طفلٍ كان يرتبط به بِصلة رحم ورابطة الدم. كما أنه فكّر بأن الملك رجل مُسّن و أنّ (ماندانا) هي الوريثة الشرعية للحكم من بعد والدها وأنها سوف تنتقم منه عند علمها بهذا الأمر. لذلك فكّر (هارپاك) في إيجاد حلّ لهذه المشكلة العويصة. أرسل جنوداً لإحضار أحد رعاة الملك الذي كان إسمه (ميترادات)، حيث أن هذا الراعي كان يرعى قطعانه في مناطق نائية، بعيدة عن المدينة ومليئة بالحيوانات الوحشية. طلبَ من (ميترادات) أن يرمي الطفل في تلك المنطقة الموحشة لِتأكله الحيوانات البرية هناك أو قتله، بعيداً عن المدينة. كما أن (هارپاك) أفهم الراعي بأن طلبه هذا جاء بناءً على أوامر الملك و أن الملك سيعاقبه عقاباً شديداً إذا لم يقُم بتنفيذ الأمر.
كانت زوجة الراعي (مترادات) إسمها (سباكو) وحامل في شهرها الأخير آنذاك. عند إقتياد جنود الملك لِزوجها بطريقة مخيفة، أُصيبت(سباكو) بالصدمة وخشيت على زوجها، فإستفسرتْ من أحد الجنود عن سر هذا الإستدعاء، فلم يُجِبها الجندي وعندما ألحت عليه وحاولت منعهم من أخذه، دفعها أحد الجنود فسقطت على الأرض. نتيجة الهلع والفزع الذي أصابه ونتيجة إسقاطها على الأرض، سقط منها جنينه ومات.
خوفاً على حياته أو فقدان عمله، حمل (ميترادات) الطفل مُجبَراً وهو يردد عبارة (الويل للعوام من غضب الملوك)، وهو في حيرة من أمره، حيث كان يفكّر كيف يمكنه قتل طفل بريء. أخذ الطفل الى كوخه ووجد زوجته طريحة الفراش وهي تبكي. سألها عن سبب بكائها، فأجابت بأن الجنين قد سقط منها ومات. سألته زوجته عن طلب إستدعائه فأجابها أنه لغرض مصيبة أخرى، التي سيواجهونها فأصبحت عندهم مصيبتان بدلاً من مصيبة واحدة. ثم سألته زوجته عن المصيبة الثانية، ففتح الراعي السلّة التي كان يحملها فإندهشت المرأة حينما وجدت طفلاً يرفس داخل السلة بعد أن نهض من نومه وهو يلبس الملابس الثمينة المرصعة بالجواهر والذهب، فسألت الزوجة عن الطفل، فأجاب زوجها بأنّه طفل الأميرة (ماندانا) إبنة الملك، حيث أنهم أمروه بقتله. فسألت المرأة مندهشة عن سبب قتله، فأجابها الزوج بأنه لا يعرف السبب. بعد أن أكمل الرجل كلامه، نهضت زوجته وقامت بإحتضان الطفل و أجهشت بالبكاء وقالت لزوجها: ويحك كيف يمكنك قتل طفل! ، فأجابها زوجها بأن ليس لديه خيار آخر. ركعت المرأة على الأرض ومسكت ركبة زوجها، متوسلةً به للإبقاء على الطفل وعدم قتله، فأجابها بأنه ليس لديه خيار آخر، حيث أنه مُهدّد بالقتل إذا لم يقُم بتنفيذ أوامر الملِك، إلا أن زوجته أخبرته بأن هناك خيار آخر. قالت بأن طفلها قد سقط منها وهو الآن ميت، ينتظر الحرق، وأنه يستطيع حرقه بدلاً من حفيد الملك والإحتفاظ بإبن (ماندانا) وسوف لا يعرف أحداً بهذا الأمر. فرِح الراعي (مترادات) بِفكرة زوجته. بعد يومين قام بإحراق طفله الميت وثم ذهب الى بيت (هارپاك) في المدينة وأخبره بأنه ترك الطفل في مكان نائي، إلا أنه لم تأكله الحيوانات البرية، بل مات جوعاً، فقام بِحرقه. طلب الراعي من (هارپاك) أن يبعث أحد رجالاته للتأكد من ذلك. بعد ان تأكد (هارپاك) من موت الطفل، تم الإنتهاء من الموضوع.
المصادر
1. توماس بوا. تاريخ الأكراد، ترجمة محمد تيسير ميرخان، دار الفكر المعاصر بيروت، صفحة 240.
2. ويل ديورانت (1988). قصة الحضارة. ترجمة الدكتور زكي نجيب أحمد، االمجلد الأول، الجزء الثاني، صفحة 402.
3. د. زيار (2000). إيران ثورة في إنتعاش. طُبع في باكستان، صفحة 115.
4. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 90.
5. د. زيار (2000). إيران ثورة في إنتعاش. طُبع في باكستان، صفحة 165.
6. المصدر السابق، صفحة 170.
[1]