نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (29) – أسلاف الكورد: الميديون
د. مهدي كاكه يي
تعاون قائد الجيش الميدي (هارپاك) مع الأمير الأخميني (كورش) لإسقاط الإمبراطورية الميدية
إن سياسات أستياگ الاستبدادية جرّت عليه نقمة بعض أعضاء الطبقة العليا في المجتمع الميدي، ومنهم كبير قادة الجيش (هارپاك)، بعد أن قتل (أستياگ) إبنه وقدّم له لحمه طعامًا في وجبة عشاء حسبما زُعم؛ الأمر الذي جعل الأخير يقف ضد الملك ويقنع بعض الكهنة الموغ والنبلاء والقادة الميديين بالانضمام إلى كورش، حيث دارت الحرب بين أستياگ وكورش، وأخيرًا خسر أستياگ الحرب نتيجة خيانة هارپاگ وأتباعه، وإبتهج الميديون أنفسهم بالخلاص من طغيانه، وخسرت بذلك ميديا إستقلالها وأصبحت تابعة للإمبراطورية الأخمينية في عام (550 ق.م)1، 2.
بعد حادثة تقديم لحم إبنه كطعام له من قِبل الملك (أستياگ)، أخذ (هارپاك) ينتظر فرصة للإنتقام من الملك والقضاء عليه وعلى حُكمه. وجد (هارپاك) في (كورش) إبن (ماندانا) الذي كان ضابطاً في الجيش الميدي آنذاك، الشخص القادر على القضاء على حكم (أستياگ)، فأخذ يتودد له ويغدقه بالهدايا. هذا التقرّب جعل (كورش) يقوم بِتقوية نفوذ الفرس في الجيش الميدي والذي مهّد الى علو شأن الفرس وطموحهم في الاستقلال، حيث أخذوا ينتهزون فرصة للتخلص من سلطة الميديين، وشرعوا في تكوين جبهة قوية ضد الحكم الميدي3. نجح الفرس في التحالف مع أقوام أخرى من الشعوب الخاضعة لميديا والتي تمردت على المملكة الميدية. أرسل (هارپاك) رسالة الى (كورش) يحثه فيها على القضاء علىى حُكم جدّه وإستلام الحكم بنفسه وأنّ نص الرسالة هو الآتي: يا إبن قمبيز قد أحاطتك الآلهة بِرعايتها، ومن دونها لما بلغتَ مما أنت فيه من نعمة وبات عليك أن تُسدد لٍ(أستياگ) دَينهُ وإلا كان قاتلك ولو تحقق ما أراد، لكنتَ الآن من الأموات. يعود الفضل في إنقاذ حياتك للآلهة و لي وبدون شك تعلم بتفاصيل ما حدث لك وكيف حاول (أستياگ) معاقبتي وكيف أعطيتُك الى راعي البقر بدلاً من قتلك. إعملْ بما أنصحك به وسوف تصبح سيد مملكة (أستياگ) كلها. هيئ الفرس للثورة وإمضي لمُلاقات الميديين ولا يضيرنك إنْ كنتُ أنا أو أحد المُقدّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالنصر لك في كل الأحوال لأن أشراف الميديين أول مَن يهجرونه للإنضمام إليك في جهدك للإطاحة به ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فإفعلْ ما أنصحك به وبادرْ بالعمل سريعاً وسوف أقوم أنا بمؤازرتك للسيطرة على عرش جدك، علماً بأن غالبية قادة الجيش هنا معنا. أدعوك للقدوم الى ميديا للسيطرة عليها قبل ان يثور الشعب على جدك وساعتها سيذهب عرش أمك ويستولي غيرك على عرش ميديا. أنت أولى به من غيرك لأنك ابن مندانا العزيزة 4.
بعد قراءة الرسالة من قبل (كورش)، قام بدعوة رؤساء العشائر التالية الى وليمة وهم:
العشائر المستقرة: باسارگاداي و مارفيان و ماسبيان و بافثيالايان و ديروسيايان و جيرمانيان. العشائر الرحل: دان و مارديا و دروبيكان و ساگارتيان5، 6. عشيرة (باسارگاداي) كانت أهم هذه العشائر لأنها كانت تضم فخذ (الأخمينين) الذي كان يبحث عن السلطة السياسية والعسكرية والذي كان يحاول الإستيلاء على الممالك المجاورة، وخاصةً تلك التي كانت خاضعة للحكم الميدي. كان (كورش) يُحرّض سكان هذه الممالك على القيام بالتمرّد على حُكم جدّه (أستياگ)، والتخلص من ظلمه. تجاوب سكان هذه الممالك بِحماس مع نداءات (كورش) الداعية الى التمرد على حكم الميديين.
قام (كورش) بِدعوة أبناء هذه العشائر وأعطاهم مناجل للقيام بِحصاد مساحة واسعة من الأرض من الصباح حتى المساء حتى أنهكهم التعب. دعاهم في اليوم التالي الى وليمة أكلٍ وشربٍ ولهوٍ كبيرة وخلال هذه الوليمة سألهم أيهما كان الأفضل، الحصاد المُضني أم هذه الوليمة الفاخرة. قال الجميع بأنه كان هناك فرق كبير بين الوليمة والحصاد المُتعِب، فأخبرهم بأنهم إذا نفذوا ما كان يريده منهم، ستكون أيامهم كلها بذخ وراحة وعز، فأبدى الحاضرون حبهم للراحة والثراء والعز. عندئذٍ طلب منهم القيام بالثورة ليصبحوا أسياد ميديا وآسيا وسوف تكون كل كنوزها وأموالها تحت تصرفهم وسوف يكونون الأسياد وتتم خدمتهم بدلاً أن يكونوا خدماً وعبيداً. بعد إنتهاء كلمة (كورش)، هتف الجميع للثورة والعز والمجد7. هكذا بثّ (كورش) الحماس والعزيمة في نفوسهم.
كذلك نجح (كورش) في إثارة القلاقل في مناطق ميدية مختلفة و في كسب دعم قيادات ميدية له و إنضمام أقوام، مثل البارث و الهيركيا إليه. أقام (كورش) تحالفاً مع الملك البابلي (نابونيد) ضد الميديين، وكان (أستياگ) قد هاجم بابل قبل إقامة هذا الحلف وبذلك تحولت بابل من مملكة حليفة لميديا الى مملكة مناوئة لها. كما أن (كورش) أفلح في إقامة تحالف مع حاكم أرمينيا (ديگْران الأول) الذي كانت مملكته في ظل النفوذ الميدي8. هكذا خلق (كورش) ظروفاً ممتازة له من خلال التحالف مع قيادات ميدية متنفذة ومع الممالك الخاضعة للإمبراطورية الميدية والمجاورة لها، حيث إستطاع إستثمار هذه الظروف وإزاحة جدّه (أستياگ) عن الحكم وإسقاط الإمبراطورية الميدية.
كانت زوجة كبير كهنة الموغ التي كان إسمها( مينا) قد كشفت مؤامرة (هارپاك) و كورش ضد (أستياگ)9، إلا أن الملك الميدي لم يتمكن من التصدي لها، حيث أن الوضع الداخلي الميدي كان قد أصبح مُقلقاً وخطيراً، إذ إنقسم الجيش الميدي الى قسمَين، قسمٌ كان موالٍ ل(أستياگ) والقسم الآخر كان ضده، ولذلك وقعت مجابهات بين الطرفَين. رغم عِلم (أستياگ) بالمؤامرة القائمة ضده، قام في أواخر حكمه، بالتخطيط للهجوم على بابل والإستيلاء على حرّان، حيث قام بتحريك جيشه نحو مدينة حرّان والذي قاده بنفسه، إلا أنه قبل إقدامه على الهجوم، تمّ إبلاغه بِخبر تمرّد القبائل الفارسية بقيادة حفيده (كورش)، فإضطر أن يوقف هجومه على بابل ويعود الى العاصمة، أكباتانا.
المصادر
1. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 96، 259.
2. دياكونوف. ميديا. صفحة 343، 386، 392، 412.
3. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 90-91.
4. اولمستيد (1928). تاريخ اشور. نيوريوك ، صفحة 117.
5. دياكونوف. ميديا. صفحة 93، 214.
6. أرشاك سافرستيان. الكرد وكوردستان. صفحة 40.
7. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 92-93.
8. حسن محمد محيي الدين السعدي. في تاريخ الشرق الأدنى القديم. صفحة 253.
[1]