مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الثامنة والعشرون ) الأديب الموسوعي: أبو علي القالي ( ت 356 ﮪ )
د. أحمد الخليل
تنافس ثقافي
كان القرن الرابع الهجري أزهى عصور الحضارة الإسلامية، فقد ازدهرت فيه العلوم، وتلاقحت الثقافات، وتمازجت قدرات الشعوب في جناحي العالم الإسلامي آنذاك: المشرق والمغرب، وأصبحت بغداد، عاصمة الخلافة العباسية تباهي بعلومها وآدابها، وكذلك كانت تفعل قرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس.
ولم يقف الأمر عند حدّ المباهاة، بل نافست الأندلس الأموية بغداد العباسية في العلوم والآداب والفنون، ولا سيما في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، وعهد ابنه الحَكَم، وقد ورث الحكم عن والده الناصر دولة تنعم بالقوة والاستقرار والازدهار، وكان فيه ميل إلى الثقافة والمعرفة، فاهتم بالعلوم والآداب، وأغرى العلماء بالقدوم إلى الأندلس، والتأليف لصالح خزائن الكتب الأندلسية، واستقدم الكتب من خارج الأندلس، وشجّع الثقافات المختلفة من أدبية ودينية وفلسفية، ويكفي شاهداً في هذا الصدد أنه قدّم لأبي الفرج الأصفهاني ألف دينار ذهبي ليرسل إليه نسخة من كتابه (الأغاني)، فظهر الكتاب في الأندلس قبل أن يظهر في العراق مركز الخلافة العباسية.
في هذه البيئة الثقافية المزدهرة لمع اسم الأديب الموسوعي أبي علي القالي.
فمن هو أبو عليّ القالي؟!
وما السبب في شهرته؟!
قاليقَلا.. ومَنازكرد
أبو علي القالي هو من أبناء مدينة منازكرد، لكنه اشتهر في المصادر التراثية بنسبته إلى بلدة (قاليقَلا)، فسمّي القالي، فماذا عن قاليقلا ومنازكرد؟
قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 4/299):
” قاليقلا بأرمينية العظمى، من نواحي خِلاط، ثم من نواحي مَنازْجِرْد، من نواحي أرمينية الرابعة، ولم تزل أرمينية في أيدي الفرس منذ أيام أنو شروان حتى جاء الإسلام”.
أما منازجرد التي تتبعها قاليقلا فإنها مدينة تقع حالياً في شمالي بحيرة وان بجنوب شرقي تركيا، وتسمّى في كتب التراث العربي مَنَازْجِرْد، ومنازكرت، وملازگرد، وقال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 5/202):
” مَنازْجِرْد- وأهله يقولون منازكرد بالكاف- بلد مشهور بين خلاط وبلاد والروم، يُعدّ في أرمينية، وأهله روم وأرمن “.
واسم منازكرد- حسب لفظ أهلها- ليس غريباً على قارئ التاريخ الإسلامي، فقد نشبت بالقرب منها (معركة منازكرد) الشهيرة التي حدثت فيها بين المسلمين بقيادة الملك أَلْب أرسلان السلجوقي والروم بقيادة أرمانوس سنة (463 ﮪ/1071 م)، وحقق فيها السلاجقة النصر، ووقع الإمبراطور الرومي أسيراً.
ومر في ترجمتنا للمؤرخ أبي الهيجاء أن السلطان السلجوقي كان قد سرّح أغلب جنوده للراحة، ولم يبق معه سوى أربعة آلاف مقاتل، وحينما باغته أرمانوس بالهجوم انضم إليه عشرة آلاف فارس كردي من أبناء المنطقة، وكان انضمامهم إلى الجانب السلجوقي عنصراً حاسماً في تحقيق ذلك النصر الحاسم والخطير.
والحقيقة أن انتصار السلاجقة، مدعومين بالكرد، في معركة منازكرد لم يكن حدثاً عادياً قط، وإنما كان حدثاً تاريخياً كبيراً؛ لأنه فتح بوّابات الشرق الأدنى (غربي تركيا) أمام السلاجقة التركمان، وجرّ الشرق الإسلامي والغرب المسيحي إلى حروب دينية استمرت قرنين من الزمان، وعُرفت في العصر الحديث بالحروب الصليبية، وليس هذا فحسب، بل إن انتصار السلاجقة في معركة منازكرد مهّد الطريق لقيام الإمبراطورية العثمانية فيما بعد، تلك الإمبراطورية التي خرجت من عباءتها جمهورية تركيا الحديثة.
كرد .. وأرمن
وللباحث أن يقول: إذاً لا صلة لكل من قاليقلا ومنازكرد بالكرد وكردستان، لا من قريب ولا من بعيد، فهما تعدّان ” من أرمينية “، وقد بنت ملكة أرمنية تدعى (قالي) مدينة قاليقلا، وباسمها سمّيت المدينة، كما أن أهل ملازكرت ” روم وأرمن “.
ووجه الإشكال في المسألة أن الحكومات الفارسية المتتالية (الأخمينية، البرثية، الساسانية) حالت دون وجود تكوين سياسي خاص بالكرد في جنوب غربي آسيا، فبدأت الفتوحات الإسلامية وبلاد الكرد (كردستان) موزّعة بين ثلاث دول: كانت الدولة الساسانية تبسط نفوذها على الأجزاء الشرقية والجنوبية. وكانت الدولة البيزنطية تحكم الأجزاء الغربية والشمالية. وكانت الدولة الأرمنية تبسط نفوذها على المناطق المتاخمة لأرمينيا من شمالي كردستان، وكان نفوذها يتوسّع ويتقلّص تبعاً لقوتها وضعفها من ناحية، ولطبيعة علاقتها بكل من الدولتين الساسانية والبيزنطية من ناحية أخرى.
وكانت النتيجة أن الكرد أُدخلوا إلى العهد الإسلامي بلا هوية قومية، وبلا هوية جغرافية سياسية، وصحيح أن مؤرخي الفتوحات الإسلامية ذكروا الكرد باسمهم أحياناً، لكنهم لم يذكروا كردستان على أنها كيان إداري يضمّ قومية معيّنة، وأطلقوا على البلاد المفتوحة في غربي آسيا تسميات إدارية مؤسسة على التقسيمات السياسية السابقة، وكان من الطبيعي أن يأخذ الجغرافيون بتلك التسميات أيضاً، فقالوا: بلاد فارس، وأرمينية، وبلاد الروم؛ وعدّوا بلاد الكرد جزءاً من فارس، وجزءاً من أرمينيا، وجزءاً من بلاد الروم، وعُدّ الكرد المقيمون في تلك البقاع من الفرس والأرمن والروم.
وقد تناولنا موضوع الحضور الكردي الباهت، داخل مدن كردستان المتاخمة لفارس وأرمينيا وبلاد الروم، في ترجمة الناقد الحسن بن بِشْر الآمدي، وذكرنا أن المدن كانت مراكز للسلطة الحاكمة ومن يدور في فلكها من الأعيان والتجار وسواهم، وأشرنا إلى التجاور والتداخل بين المناطق الآهلة بالكرد والأرمن منذ العهد الميدي، ثم إن بناء مدينة قاليقلا بأمر من الملكة الأرمنية (قالي) لا يعني مطلقاً أن المنطقة التي بنيت فيها كانت أرمنية، وإلا فإن ذلك يعني أن الإسكندرية كانت يونانية وليست مصرية لأن الإسكندر أمر ببنائها، وأن أنطاكيا يونانية لأن القائد اليوناني أنتيخوس أمر ببنائها، وأن اللاذقية عاصمة الساحل السوري يونانية لأن أحد ملوكها سماها باسم والدته أو زوجته.
والمعروف أن اعتناق الأرمن للمسيحية في بداية القرن الرابع الميلادي جعلهم أقرب إلى دولة الروم، باعتبارها مسيحية العقيدة أيضاً، وكان ثمة تحالف في معظم الأوقات بين أرمينيا وبيزنطا ضد النفوذ الفارسي، الأمر الذي جعل الحكومتين الأرمنية والبيزنطية تتقاسم المناطق الكردية في الشمال، وتكون غالبية سكان المدن من الروم والأرمن.
من هو القالي؟
هو أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، وفي بعض المصادر (سَلْمان)، وذكرت المصادر أن جده سليمان كان مولى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ إذاً أسرة أبي علي ليست عربية قطعاً، إنها كانت من الموالي، ومصطلح (الموالي) يعني المسلمين من غير العرب، وقد ولد أبو علي بمنازكرد سنة (288 ﮪ)، وإذا أخذنا بالاعتبار أن عمر كل جيل وسطياً هو أربعون سنة، تبيّن لنا أن أسرة أبي علي اعتنقت الإسلام حوالي سنة خمسين هجرية على أقل تقدير، أي في بداية عهد الخلافة الأموية.
ومعروف أن الكرد كانوا من أتباع الديانة الزردشتية قبل الإسلام، في حين كان الأرمن والروم من أتباع الديانة على المسيحية، وكان ثمة صراع عقدي بين أتباع الديانتين، وكانت السلطات الأرمنية والبيزنطية تعمل لنشر المسيحية في المناطق الكردية المتاخمة لأرمينيا وبلاد الروم، لكن الكرد لم يتقبّلوا المسيحية إلا في حدود ضيقة جداً، وإنما اعتنقوا الإسلام، ولا أستبعد أن إقبالهم على الإسلام كان شكلاً من أشكال مواجهة المدّ المسيحي القادم من أرمينيا وبيزنطا، وضرباً من الاحتفاظ بالخصوصية القومية، ووسيلة للخلاص من الانصهار، بل لا أستبعد أنهم وجدوا في الإسلام كثيراً من أوجه التشابه بتراثهم الزردشتي، وهذا أمر معروف في المصادر المهتمة بعلم الأديان المقارن.
ثم إن انضمام عشرة آلاف فارس كردي إلى جيش السلطان السلجوقي ألب أرسلان في معركة منازكرد في وقت قصير يعني أموراً عديدة:
أولها أن هؤلاء الكرد لم يأتوا من مناطق بعيدة عن منطقة منازكرد، وإنما كانوا من أبناء المنطقة نفسها.
وثانيها أن أعداد الكرد في منطقة منازكرد لم يكن قليلاً، وإلا فكيف يمكن اجتماع عشرة آلاف فارس دفعة واحدة من جماعات قليلة العدد، ومعروف في التقاليد العسكرية القديمة أن الفارس يعادل، بالمعايير العسكرية، اثنين من الرجّالة.
وثالثها أن الكرد في منطقة منازكرد لم يكونوا من الرحّل (الكوچر)، وإنما كانوا يقيمون في المدن والأرياف؛ إذ يصعب جمع هذا العدد الكبير من المقاتلين من مجموعات متنقلة بين شعاف الجبال.
إذاً فالمعطيات التاريخية التي بين أيدينا تحملنا على ترجيح أن أبا علي من أصل كردي، أو هو على الأقل كردستاني، ولو كان أرمنياً أو رومياً لأشارت المصادر إلى ذلك؛ إذ هذا هو المعهود في المصادر القديمة، باعتبار أن قلة من الأرمن والروم اعتنقوا الإسلام، فذُكر الأصل الرومي لكل من الشاعر ابن الرومي، واللغوي ابن جنّي، والجغرافي ياقوت الحموي، كما أشير إلى الأصل الأرمني لشخصيات أرمنية دخلت الإسلام، نذكر منهم أبو عبد الله الأرمني في عهد الخليفة العباسي الواثق، والقائد علي بن يحيى الأرمني في عهد الخليفة العباسي المتوكل، وبدر الدين لؤلؤ الأرمني (حاكم الموصل في عهد السلاجقة توفّي سنة 657 ﮪ).
وقد يقال: لم لا يكون أبو علي القالي من أصل تركي؟ فالأتراك كالكرد مسلمون.
حسناً.. دعونا نضف أنه لم يكن في الوقت الذي أسلم فيه سليمان جدّ أبي علي، ولا في زمن ولادة أبي علي نفسه، وجود للعنصر التركي في كردستان، بل في كل غربي آسيا، ما عدا المماليك الأتراك الذين جنّدهم خلفاء بني العباس في الجيش منذ عهد المأمون، والذين ازداد عددهم في عهد أخيه المعتصم، وكانوا يسكنون بغداد وجوارها، أما الوجود التركي في كردستان وفي الأناضول عامة إنما بدأ مع قدوم السلاجقة في القرن الخامس الهجري.
وقد ولد أبو علي في منازكرد سنة (288 ﮪ/ 901 م)، أما حقيقة نسبة (القالي) فيوضّحها لنا تلميذه النجيب أبو بكر الزُّبَيْدي:
” وسألت أبا علي لم قيل له القالي؟ فقال: لمّا خرجنا من بلدنا كان في جملتنا جماعة من قاليقلا، وكانت معهم خيل، فكلّما دخلنا بلداً حافظ أهلُها أهلَ قاليقلا، وكانت معهم دوابّ، فأراد بعض العمّال [الولاة] أخذها منهم، فلما انتسبوا إلى قاليقلا تركوهم، ورأيت الناس يعظّمونهم، فلمّا دخلت بغداد انتسبت إلى قاليقلا، ورجوت أن ينفعني عند العلماء، فلم أنتفع بذلك، وعرفت بالقالي “.
القالي في بغداد
لم تتّسع منازكرد النائية لمطامح أبي علي في العلم، فشدّ الرحال إلى عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة (303 ﮪ)، وكان حينذاك في الخامسة عشرة من عمره، وكانت بغداد منتجع العلماء والأدباء وقبلة طلاب العلم، وكان على طالب العلم الصغير القادم من الشمال الكردي أن يمر بمدينة الموصل، ويقيم فيها بعض الوقت، وكتب فيها عن أبي يَعْلى الموصلي وغيره، ثم دخل بغداد سنة (305 ﮪ)، وأقام بها إلى سنة (328 ﮪ).
وفي بغداد اجتهد أبو علي في تلقّي العلم على أيدي كبار علماء الحديث وجهابذة علماء اللغة والراوية، فسمع الحديث على مشاهير علماء ذلك الزمان، نذكر منهم المحدّث الشﮪير أبا القاسم البَغَوي (ت 317 ﮪ)، وأبا بكر السِّجِسْتاني (ت 316 ﮪ) محدّث العراق، ومن أهل الفقه والعلم والإتقان ومن كبار حفّاظ الحديث، وابن صاعد (ت 317 ﮪ) من كبار حفّاظ الحديث أيضاً.
وفي بغداد أيضاً قرأ أبو علي النحو والعربية والأدب على مشاهير النحاة، منﮪم ابن دُرُسْتُويه (ت 347 ﮪ)، وأبو إسحاق الزَّجّاج (ت 311 ﮪ)، أحد تلامذة المُبَرِّد، والأَخْفَش الصغير (ت 315 ﮪ)، ونِفْطَويه (ت 323 ﮪ)، وابن دُرَيْد (ت 321 ﮪ) صاحب (الجَمْهَرة في اللغة)، وأبو بكر الأنباري (ت 328 ﮪ)، ودرس الأدب على الشاعر والأديب الكردي أبي الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحي البرمكي المعروف بلقب جَحْظَة البرمكي (ت 326 ﮪ)، وعلى القاضي الأديب ابن قُتَيْبة (ت 322 ﮪ)، وعلى آخرين غيرهم.
وبذلك الجد والاجتهاد، والحرص على الأخذ من العلماء والأفذاذ، استطاع أبو علي أن يصبح راسخ القدم في ميادين اللغة وعلوم الأدب، وأن ينبغ فيها نبوغاً جعله من أصحاب الشهرة. لكن يبدو أنه واجه في بغداد مصاعب العيش، وعانى الفاقة، ولم يكن قرير العين بالإقامة فيها، وعندما توفّي شيخه ابن دُرَيْد حزن عليه حزناً شديداً، وقال ” لا أرجو أن أقيم بعده في بغداد “. وقد اضطر، بسبب الفاقة، إلى بيع نسخته من كتاب (الجمهرة) الذي ألفه أستاذه ابن دريد، فدُفع له فيها ثلاثمئة مثقال، فضنّ بها أوّل الأمر، ثم اشتدّت عليه الحاجة، فاضطر إلى بيعها بأربعين مثقالاً.
استقبال في الأندلس
مرّ بنا أن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر كان قد رفع منار العلوم والفنون في الأندلس، وكان يحترم العلماء ويحبّهم، ويقدّرهم أعظم تقدير، ويرغّبهم في الانتقال إلى بلاطه، وكتب الناصر إلى أبي علي ورغّبه في الوفود عليه، وما كان ليفعل ذلك لولا أن شهرة أبي عليّ كانت قد ذاعت، وأصبح ممن يرغب الملوك في أن يزيّنوا بهم مجالسهم.
ولماذا لا يلبّي أبو علي دعوة الناصر؟! فهو في بغداد يعاني الفقر من ناحية، ولا يجد في العراق من يقدّره حق قدره، ثم إن التزاحم بين العلماء في بغداد شديد، وفرص الشهرة فيها أندر، والوصول إلى القمة أصعب، ولا ينجو المثقف من مضايقات بين الحين والحين، وهكذا لم يتردّد في تلبية دعوة الناصر، وشدّ الرحال إلى الأندلس.
وخرج أبو علي من بغداد قاصداً الأندلس (328 ﮪ)، وهو يناهز الأربعين من العمر، واصطحب معه- وهو ينتقل عبر البراري والقفار- مكتبة منتقاة عامرة بالمؤلفات القيمة، وقال يصف رحلته تلك في مقدمة كتابه الشهير (الأمالي):
” فخرجت جائداً بنفسي، باذلاً لحُشاشتي، أجوب متون القفار، وأخوض لجج البحار، وأركب الفلوات، وأتقحّم الغمرات، مؤمّلاً أن أوصل العِلْق النفيس إلى من يعرفه، وأنشر المتاع الخطير ببلد مَن يُعظّمه …”.
وبعد رحلة طويلة قاربت ثلاثة أعوام، وطئت قدما أبي علي القالي أرض الأندلس، فاستقبل بحفاوة، واحتفي به رسمياً، وصوّر المقَّري ذلك في (نَفْح الطِّيب):
“وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر ابنُه الحَكَم- وكان يتصرّف من أمر أبيه كالوزير- عاملهم ابن رَماحِس أن يجيء مع أبي علي إلى قُرْطُبة، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة- تكرمةً لأبي عليّ، ففعل، وسار معه نحو قرطبة”.
وكان دخوله إلى قرطبة سنة (330 ﮪ).
ولا ريب أن الاستقبال الحار الذي لقيه القالي على الصعيد الرسمي، برعاية من الخليفة الناصر ووليّ عهده الحَكَم، كان له أبلغ الأثر في نفسه، ولعله أول أستاذ رسمي تعهد إليه الدولة الإسلامية في الأندلس بمهمّة التدريس في جامع قرطبة، حيث كان يملي دروسه التي عرفت ب (الأمالي)، ولم يكن أبو علي مجرد عالم يملي أو أستاذ يحاضر، ولكنه كان فوق ذلك صاحب مدرسة في اللغة والأدب، تركت طابعها على الأجيال اللاحقة من الأدباء والمتعلمين.
مكانته العلمية في الأندلس
نزل أبو علي ضيفاً على الخليفة الناصر، فأكرم مثواه، ورفع منزلته، واختصّه بتثقيف وليّ عهده الحَكَم. وامتاز أبو علي بسعة الاطلاع في العلم والرواية، وطول الباع في اللغة، فأقبل عليه علماء الأندلس وأدباؤها للاستفادة من محاضراته في اللغة والأدب، وكان يمليها من حفظه كل يوم خميس بقرطبة، في المسجد الجامع بالزهراء. وأجمع المؤرخون على الإشادة بذكاء القالي و نبوغه الفائق، وعدّوه أحفظ أهل زمانه.
وعلمنا أن أبا علي كان محلّ إكرام الخليفة الناصر، وكان كذلك بعد ما تولّى الخليفة الحَكَم عرش الخلافة في الأندلس، فبالغ في إكرامه، إذ كان أستاذه الذي ثقّف عقله بالمعارف، وبثّ في نفسه حبّ العلم، وكان يحثّ أبا علي على التأليف، ويُغدق عليه العطاء، فانقطع القالي إلى العلم والأدب، وعكف على التأليف، وأملى مؤلّفاته القيّمة التي فاق بها من تقدّمه، وأعجز من بعده، كما حدّث بهذا المقّري في (نفح الطيب)، وياقوت في (معجم الأدباء).
وجدير بالذكر أن القالي لم يكتف بأنه نقل إلى البيئة الثقافية الأندلسية ما كان يحفظه من أخبار وأشعار، وما كان يعرفه من معلومات ومعارف، وإنما نقل إليها – كما سبق القول- مكتبة عامرة بالمؤلفات، وضعها بين أيدي تلامذته، ينهلون منها وينسخون ما يشاؤون، فأحدث بذلك حركة علمية نشيطة في المجتمع الأندلسي، حتى إن المستشرق الألماني كارل بروكلمان قال: ” أما الأندلس فكان أول من نقل إليها علم الأدب أبو علي القالي“.
مؤلّفاته
وُصفت مؤلّفات أبي علي بأنها: كانت في غاية التقييد والضبط والإتقان، ومن أبرزها: كتاب المقصور والممدود، وصف ياقوت بأنه ” مستقصًى في بابه، يَشِذّ منه شيء في معناه لم يُوضَع مثلُه “. وكتاب خلق الإنسان، وكتاب مقاتل الفرسان، وكتاب فعلتُ وأفعلتُ، وكتاب الأمثال، وكتاب البارع الذي قال فيه الزُبَيْدي: ” ولا نعلمُ أحداً من المتقدمين ألّف مثلَه “. ونقل ياقوت (معجم الأدباء، 7/29 – 30) أن الشيخ الإمام محمد بن العربي قال: “كتاب البارع لأبي علي القالي يحتوي على مئة مجلّد، لم يُصنَّف مثلُه في الإحاطة والاستيعاب“.
على أن أشهر مصنّفات القالي هو كتاب (الأمالي) أو (النوادر)، والأمالي نوع من المحاضرات، أو هي تقارب مفهوم المحاضرة في عصرنا هذا، كما ذكر الدكتور عمر الدقّاق في مقدمة كتاب (شذور الأمالي) لأبي علي القالي، وكانت الأمالي تُملى في الغالب من الذاكرة، وتُلقى إلقاء مرتجَلاً عن ظهر قلب، وقد ألّف القالي كتاب الأمالي للخليفة عبد الرحمن الناصر،وتوجّه إليه بالثناء في خطبة الكتاب. وقال ابن حَزْم- حسبما نقل ياقوت في (معجم الأدباء، 7/28)-:
” كتابُ نوادر أبي علي مُبارٍ لكتاب الكامل الذي جمعه المُبرِّد، ولئن كان كتاب أبي العبّاس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً “.
ومن الأدلة على القيمة الثقافية لكتاب (الأمالي) قول ابن خلدون في مقدمته:
“وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم: أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين؛ وهي كتاب الكامل للمُبَرِّد، وأدب الكاتب لابن قُتَيْبَة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها”.
ووصف القِفْطي كتاب الأمالي قائلاً:
” وهذا الكتاب غاية في معناه، وهو أنفع الكتب، لأن فيه الخبر الحسن، والمثل المتصرّف، والشعر المنتقى في كل معنى. وفيه أبواب من اللغة مستقصاة، وليست توجد في شيء من كتب اللغة مستقصاة مثل ما هي في هذا الكتاب. وفيه القلب والإبدال مستقصى، وفيه تفسير الاتباع وهو مما لم يستيقظ إليه أحد، إلى فوائد كثيرة”.
وأوضح القالي نفسه، في مقدمة كتابه، محتوى الأمالي، فقال:
” وأودعته فنوناً من الأخبار، وضروباً من الأشعار، وأنواعاً من الأمثال، وغرائب اللغة. على أني لم أذكر فيه باباً من اللغة إلا أشبعته، ولا ضرباً من الشعر إلا اخترته، ولا فنّاً من الخبر إلا انتحلته، ولا نوعاً من المعاني والمثل إلا استجدته”.
تلامذته وشخصيته
ما إن حلّ أبو علي في قرطبة حتى ذاع خبره، وكثر قاصدوه، وأقبل عليه الطلبة، فكان منهم الشعراء والأدباء والعلماء، وكان وليّ العهد الحَكَم أول من تتلمذ عليه بتوجيه من والده الخليفة الناصر، ومن الصعب تحديد عدد تلامذة القالي في بلاد الأندلس، لكن أنبه تلامذته على الإطلاق هو أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدي الإشبيلي، وهو شاعر وأديب، راسخ القدم في اللغة والنحو، ومن مؤلفاته: (الواضح في النحو)، و(طبقات اللغويين والنحويين)، و(مختصر العين).
وكان أبو علي القالي رجل علم وثقافة، متمكّناً من اللغة والنحو، غزير الرواية، كثير المحفوظ، جيد الرواية، متمرّساً بالتأليف، أميناً في النقل، بعيداً عن الغرور، شديد الاتّزان، جمّ التواضع، زاهداً في مظاهر الجاه والنفوذ، عصاميّاً، يروي ظروف نشأته ورحيله من بلدته الكردية المالية النائية إلى العراق دونما حرج أو تردّد.
والجِدّ هو الطابع الغالب على كتب القالي، ولا سيما في كتابه (الأمالي)، وقلّما يجنح فيه إلى الفكاهة والهزل، أو البذاءة والمجون، وقلّما نجد فيه أشعاراً وأخباراً تخدش الحياء وتجرح الشعور. وقد خالف القالي بنهجه هذه نهج أصحاب الموسوعات الأدبية كالجاحظ وابن قُتَيْبة وأبي حيّان التوحيدي، وابن بسّام، وهذا دليل آخر على شخصية القالي الجادة الرصينة العفيفة.
ولأبي علي القالي ابن اسمه جعفر، ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 1/488)، وصفه بقوله: ” كان أيضاً أديباً، فاضلاً، أريباً“.
وقد توفي أبو علي في قرطبة سنة (356 ﮪ).
المراجع
ابن بسّام: الذخيرة، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 2000م.
ابن خلكان: ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت.
خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، ط4، 1977م.
السيوطي: بغية الوعاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1964م.
الضبّي: بغية الملتمس، دار الكاتب العربي، 1967م.
الفَرَضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، مطبعة المدني، القاهرة، ط 2، 1988.
القالي: _ شذور الأمالي، دراسة الدكتور عمر الدقّاق، مطبعة الصباح، دمشق،1991م
_ كتاب الأمالي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1991م.
القفطي: إنباه الرواة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950 م.
المقّري: نفخ الطيب، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م.
ياقوت الحموي: – معجم الأدباء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1936م.
– معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م.
وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والعشرون.
د. أحمد الخليل في 17-11-2006
[1]