مشاهير الكرد في التاريخ ( الحلقة الثانية والأربعون ) دياكو الميدي ( توفي حوالي سنة 675 أو 655 ق.م)
د. أحمد الخليل
جوهر التاريخ
يقوم التاريخ البشري على ركنين هما: الإنسان، والمكان.
وهذا يعني أنه لا يمكن فهم التاريخ فهماً واقعياً دقيقاً إلا بفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، وللتأكد من هذا الأمر لسنا بحاجة إلى استعراض النظريات، ولا إلى الغوص في الفلسفات، وإنما يكفي أن نحذف الإنسان وما قام به من أحداث، ونحذف المكان (الجغرافيا) الذي تفاعلت فيه تلك الأحداث، ثم نتساءل: ماذا يبقى من التاريخ البشري؟ لا شيء على الإطلاق.
وكانت مشكلة الإنسان الكبرى- وما زالت- هي الاحتفاظ ب (البقاء) على النحو الأفضل، ولا مجال للاحتفاظ ب (البقاء) على النحو الأفضل إلا بالسيطرة على (المكان) الأفضل؛ المكان الذي تتوافر فيه مقوّمات الحياة بشكل أفضل، ويتيح الوصول إليها على نحو أسهل، وعلى ضوء هذه الحقيقة لك أن تفسر أحداث التاريخ البشري قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، ولك أيضاً أن تفسر على ضوئها كل ما في تاريخنا – نحن البشر- من نشاطات حضارية، ومن أديان وفلسفات، وعلوم واختراعات، ومن علاقات وسياسات، ومن حروب واحتلالات وغير ذلك.
وكوكب الأرض هو بيت البشرية، إليه تنتمي وفيه تنتهي، ولم تكن الأرض في غابر الأزمان على النحو الذي هي عليه الآن، وإنما مرت بأحوال مناخية دورية سميت (العصور الجليدية)، فكان المناخ الجليدي يبدأ بالظهور، ثم يتنامى ويهيمن على المكان، ثم يبدأ الدفء بالظهور، ويشرع المناخ الجليدي بالانحسار نحو الشمال والجنوب، وفي كل عصر جليدي كانت الكائنات أمام أحد مصيرين: أما التي امتلكت القدرة على التأقلم مع التبدلات المناخية فاحتفظت ب (البقاء)، وأما التي افتقرت إلى تلك القدرة فكان نصيبها (الفناء)، وانقراض الديناصورات خير شاهد على ذلك.
ولم تكن التبدلات المناخية الدورية وحدها هي المؤثرة في مصير الكائنات، وإنما كان للأزمات المناخية الطارئة أيضاً تأثيرها الشديد في هذا المجال، ومنها الزلازل والبراكين والأوبئة والتصحر، وكنا نحن البشر من الكائنات القليلة التي امتلكت خاصية التأقلم مع الحالين؛ أقصد التبدلات المناخية الدورية، والأزمات المناخية الطارئة، وكانت عملية الهجرة (الهروب من المكان الطارد، واللجوء إلى المكان الواعد) هي التي توصلنا معظم الأحيان إلى بر الأمان، وتتيح لنا الاحتفاظ بمشروع (البقاء).
هجرات الآريين
وقد كتب ول ديورانت ذات مرة:
” التاريخ كتابٌ يجب أن يبدأه الإنسان من الوسط “.
وهذه هي الحقيقة في التعامل مع التاريخ، إذ لا توجد على الدوام وثائق مؤكّدة حول بداية تاريخ جماعة بشرية، سواء أكانت قبيلة أم شعباً أم عرقاً، وإنما ثمة ظنون وترجيحات، وكثيراً ما يختلف المختصون في تلك الظنون والترجيحات، والأرجح أن الجنس البشري ظهر منذ حوالي مليون سنة، وقد تجعل الاكتشافات العلمية هذا الرقم يتغيّر صعوداً أو هبوطاً، ولا مشكلة في ذلك، فهو لا يفقدنا حق الوقوف عند السؤال الآتي: كم من السلالات البشرية ظلت محتفظة، على الدوام، بالمكان الذي ظهرت فيه أول مرة؟ إنها تكاد تكون محدودة جداً، هذا إذا لم تكن معدومة، فقد كانت السلالات مضطرة إلى الانزياح عبر المكان (الجغرافيا)، ومع تكاثر البشر في نطاق جغرافي معيّن أخذ الانزياح صورة (الانتشار)، ومع تنافس المجموعات البشرية على (المكان) الأفضل، أخذ الانزياح صورة (الاحتلال).
وقسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الهندو- أوربية، والشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو. وذكروا أن الشعوب الهندو-أوربية تضم الأوربيين والأمريكيين، والسلاف، والأرمن، والفرس، والكرد، وآخرين، ويطلقون على هذه المجموعة اسم (الآريين) أيضاً، وجاء في كتاب (انتصار الحضارة، ص 245 – 246) للمؤرخ جيمس هنري برستد، أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، وهم: الأرمن، والفرس، والميد (من أجداد الكرد)، ومن استقر في أفغانستان والهند. أما الأوربيون والأمريكيون فهم من الفرع الغربي؛ أي أن الآريين هم أبناء عمومة الأوربيين، وليسوا أجدادهم.
ويتفق معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت (قصة الحضارة، مجلد1، جزء2، ص 399)، أن (الزند أفستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، ” ويصفه بأنه جنة من الجنان “. وقد اكتشف الأمير الروسي بيير كروبوتكيين Pierre Kropotkine في سهول وسط آسيا غابات واسعة يابسة، واستدل منها على أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادة خلال الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي أن المكان أصبح معادياً وطارداً، ولم يعد يهيّئ إمكانية البقاء لسكانه على النحو الأفضل، وطبعاً كان الحل هو الانزياح إلى المكان الواعد، فتوجّه بعض الآريين جنوباً نحو شمالي شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية.
والأرجح أن هجرات تلك القبائل بدأت من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، ودليلنا على ذلك أن السومريين، وهم شعب آري، أقاموا حضارة مزدهرة في جنوبي بلاد الرافدين (جنوبي العراق حالياً) حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأن الأكاديين الساميين القادمين من شبه الجزيرة العربية غلبوهم على أمرهم حوالي سنة (2350 ق.م)، ولا ريب أن هجرة السومريين من شرقي بحر قزوين، واستقرارهم في بلاد الرافدين، كان على مراحل، واستغرق وقتاً ليس بالقصير.
تنافس آري – سامي
وقد توالت هجرات بعض الفروع الآرية، واستقرت في غربي الهضبة الآريانية وجنوبها الغربي، وتحديداً في جبال زاغروس والمناطق المتاخمة لها، وظهرت أخبارها في أزمنة متواكبة تارة، وفي أزمنة متلاحقة أحياناً، وكان ذلك مرهوناً بالمرحلة التاريخية التي كان يلمع فيها اسم كل فرع سياسياً، فتشير إليه المدوَّنات السومرية أو الأكادية أو البابلية أو الآشورية أو الحثية أو المصرية، وتمازجت تلك الفروع الآرية عبر القرون في مختلف مناطق كردستان الحالية، ولا سيما في الشرق والشمال والجنوب، ثم توحّدت سياسياً وحضارياً تحت راية الفروع
[1]