أ.د. فرست مرعي
$الاسرة الصفوية$
تنسب الأسرة الصفوية إلى الشيخ صفي الدين أبو الفتح إسحاق الأردبيلي المولود في سنة 650ﮪ / 1252م([1]) الذي كان أحد مريدي الشيخ (تاج الدين إبراهيم الزاهد الكيلاني) المتوفي سنة 700ﮪ / 1301م في مدينة كيلان الواقعة غرب بحر قزوين، وتزوج بنته وورث مقامه الصوفي بعد موت شيخه (الزاهد الكيلاني)، حيث غادر مدينة كيلان إلى مسقط رأسه في أردبيل حيث وصل إلى درجة (الشيخ).
وشرفخان البدليسي يتفق في ذلك مع بقية المصدر في سلسلة آباء الشاه اسماعيل الصفوي([2]). وقد استفاد الشيخ صفي الدين من الإرث الصوفي الممزوج بالتشيع الذي كان متغلغلاً في العديد من الأقاليم الإيرانية لاسيما بعد سقوط الخلافة العباسية على يد المغول عام 656ﮪ/ 1258م، وحدوث منافسة بيت التيارات الشيعية الصوفية وبين سلطة المماليك السنية، لذا ادعى لنفسه نسباً علوياً وأوصله إلى الحسين بن علي بن أبي طالب([3])، وكان من ضعف هذا الإدعاء أن ابن بزّاز صاحب كتاب (صفوة الصفا) روى أن زوجة صفي الدين نفسها لم تكن تعلم به، ولو كان صفي الدين علوياً حقاً لأشار إلى نسبه أستاذه ومرشده في الحال، الصوفي الشيعي (محمد نور بخش). إن هذه النسبة كاذبة ولم ترد في المؤلفات التي ألفت قبل عهد الشاه (طهماسب) ابن الشاه (إسماعيل الصفوي) حسب المؤرخ الإيراني (عباس إقبال).
ومما تجدر الإشارة أن المؤرخين شككوا في هذا الإدعاء، فالعالم الإيراني (أحمد كسروي) يشير في أحد أبحاثه إلى أن العبارة التي وردت فيها خروج فيروز جد صفي الدين من سنجار أو سنجان أو سنجال كانت تتضمن إلحاق جد صفي الدين بالصوفي الورع إبراهيم بن أدهم ثم عدّلت بما يناسب العزم الجديد([4]).
كما أن المؤرخ الإنكليزي (راجر سيوري) شكك في نسبة الصفويين إلى الإمام السابع عند الشيعة الاثنا عشرية (موسى الكاظم)، وذكر بأن الشكوك تساور هذا النسب وبأنه تم تكوين هذا النسب في أيام حكم الدولة الصفوية لأسباب معنوية حتى يستطيع الشاهات الصفويون تطويع الرعايا الإيرانيين لحكمهم وفق المفهوم السائد، بأنهم الحكماء الشرعيون الذين ينتسبون إلى آل البيت([5]).
وقد أثبتت الأبحاث الحديثة بأن صفي الدين من أصولٍ كرديةٍ حسب رواية (صفوة الصفا) لابن البزاز، ولكن الخلاف يكمن في تحديد مسقط رأسه بين مدينة سنجان حسب رواية الكسروي، ومدينة سنجار(شنكار) الكردية. ولكن مهما يكن من أمر فان غالبية الباحثين يؤكدون كردية الاسرة الصفوية([6]). ولكن مع ذلك فان صاحب الشرفنامه، يصل نسب الشيخ صفي الدين اسحاق الى الامام الشيعي السابع موسى الكاظم، بقوله:” والشيخ صفي الدين يصل نسبه في ثمانية عشر بطناً الى الامام موسى الكاظم رضي الله عنه”([7]).
وينبغي أن لا نغفل أمراً هاماً يتصل بصفي الدين الأردبيلي هو أنه لم يكن شيعياً قطعاً، يبدو ذلك واضحاً من نصوص (صفوة الصفا) التي أرخت له، ولعل أهمها أنه لما فسر الآية الكريمة: [ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]([8]) التي تنصرف عند الشيعة إلى حديث الغدير واستخلاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، لم يقف عليها الوقفة الشيعية المطلوبة([9])، ولم يقف على تأويل [ … وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ]([10]) على الصورة الشيعية أيضاً. يضاف إلى ذلك أن صفي الدين الأردبيلي لم يتطرق إلى ذكر مصنف شيعي واحد مع إشارته إلى كتب الغزالي: إحياء علوم الدين، والأربعين، ثم عوارف المعارف للسهروردي، ومرصاد العباد لنجم الدين الرازي([11]).
مات الشيخ صفي الدين الأردبيلي عام 735ﮪ / 1334م، فأخذ مكانه في مشيخة الطريقة الصوفية (الصفوية) ابنه صدر الدين موسى الذي ولد سنة 704ﮪ/ 1304-1305م من بنت الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني([12]). ويبدو أن تطوراً قد حدث في مسلك الطريقة الصفوية على يد صدر الدين حيث أصبحت تضاهي الطرق الصوفية المماثلة لها من ناحية التأثر بالأخوة والفتوة، حيث يشير إلى ذلك الثائر الصوفي (محمد نور بخش) بقوله: ((كان من أوتاد العلم وفتيانهم… وكمال الفتوة… وإطعام الطعام والمساكين)) ([13]).
وقد كان من اهتمام صدر الدين بجمع المريدين والإنفاق عليهم أن سمي في سخائه وفتوته ب (خليل العجم). وقد دام إرشاد صدر الدين لمريديه في أردبيل حوالي تسع وخمسين سنة مات بعدها سنة 794ﮪ/1392م ودفن إلى جانب أبيه في مركز الصفويين. وترك صدر الدين لابنه غرساً أوشك أن يؤتى أكله، غير أن وجود السلطان تيمور لنك وسطوته كان على ما يبدو السبب في تأخر تطور هذه الحركة إلى ثورة صوفية([14]).
وعلى ما يبدو فإن الشيخ صدر الدين مثل أبيه كان على المذهب الشافعي، ولكن ابنه (الخواجة علي) هو الذي مال إلى التشيع ولكن بدون تعصب؛ رغم إن الشكوك تساور ذلك([15]).
تم تولى رئاسة الطريقة الصفوية ابن صدر الدين علي (علاء الدين سياه بوش) المتوفي سنة 832ﮪ/1428م، ولفظة (سياه بوش) تعني المسود أو لابس السواد([16]). وكان علي مبالغاً في الزهد، ووردت عنه مواقف بهذا الصدد مع السلطان تيمور لنك حول شربه السم مثلما فعل المتصوفة الرفاعية مع الزعيم المغولي هولاكو، ويذكر الباحث الشيعي الشبيبي أن الخواجة على سياه بن صدر الدين موسى نبه السلطان تيمور لنك إلى وجود اليزيدية- الايزدية (الطائفة الدينية الكردية المعروفة في كوردستان) وحرّضه على تأديبهم لاعتقادهم في الصحابي معاوية بن أبي سفيان([17]).
وبعد ثمان وثلاثين سنة من الزعامة الروحية مات علي سياه بوش في القدس سنة 832ﮪ/1429م راجعاً من حجة أخرى فدفن فيها وأقيم له فيها مزار كبير([18]).
وبعد وفاة الشيخ علي تولى المشيخة ابنه (إبراهيم)، وهو الذي عرف باسم (شيخ شاه – أي الشيخ الملك)، ويعتقد أحد الباحثين أن قوة السلطان شاهرخ ابن تيمور لنك وفشل الحركات الصوفية في حياته، وضعف إبراهيم بن علي سياه بوش الواضح أجلت انطلاقة الصفويين إلى وقت آخر([19]).
وفي سنة 851ﮪ/1447م مات إبراهيم ليخلفه ستة أولاد كان أجدرهم بالزعامة أصغرهم (جنيد) الذي تمت على يده نقطة التحول في الحركة الصفوية بعد أن تهيأ لها الجو بتفتيت الدولة التيمورية بعد موت شاهرخ بن تيمور لنك سنة 850ﮪ/1447م([20]).
وفي هذه الفترة التي تولى الشيخ جنيد زعامة الطريقة الصفوية، كانت هناك إشاعات تُطيّر بأن دولة الشيعة العلويين الموعودة التي ستظهر في آخر الزمان وشيكة القيام بقيادة جنيد الصفوي وأنه سيحارب في ركاب المهدي المنتظر. لذلك أصر جهانشاه حاكم اذربيجان على جلاء جنيد عن مدينة أردبيل إلى مكان آخر يختاره، وقد تذرع جنيد بحجج تبقيه ولكن تهديد جهانشاه بتخريب أردبيل ومحاربته إياه أرغما جنيد على التوجه إلى ديار بكر مقر حسن الطويل رئيس قبيلة الآق قوينلو (الخروف الأبيض) وخصم جهانشاه ومريد جده على سياه بوش. وأدت هذه الخطوة إلى زيادة قوة الصفويين فضلاً عن زواج جنيد من خديجة بيكم أخت حسن الطويل([21]). بعد ذلك غادر ديار بكر في طريقه إلى مسقط رأسه أردبيل بدعم من صهره حسن الطويل، ولكن جهانشاه حاكم منطقة شروان من قبل قبائل الخروف الأسود اعترضه في الطريق وجرت معركة بينهما أسفرت عن مقتل جنيد سنة 862ﮪ / 1460م([22]).
وجلس حيدر بن جنيد مكان أبيه في أردبيل يحاول رعاية أتباعه الكثيرين الذين فقدوا قائدهم الشاب جنيد، لذلك أخذت الجموع تتهافت عليه، وعندما بلغ مبلغاً من القوة بزيادة عدد أتباعه انصرف عن طريقة التصوف إلى تطوير الفتوة الصوفية التي دخلت الطريقة الصفوية أيام عاهلها الثاني صدر الدين، بعدها خطا الشيخ حيدر خطوة أخرى متميزة في دفع عجلة الطريقة الصفوية نحو التشيع الإثني عشري وذلك باتخاذه شعاراً يميز أتباعه عن غيرهم حيث أمرهم بأن يضعوا فوق رؤوسهم قلنسوة مخروطية الشكل مصنوعة من الجوخ الأحمر وتحتوي على اثنتي عشر طية رمزاً للأئمة الإثني عشر تلف حولها العمامة، كانوا يسمونها (التاج الحيدري)([23]) ولكنهم عرفوا عند الناس ب (القزلباش) وهي كلمة تركية تعني (حمر الرؤوس)([24]).
كان للسلطان حيدر ثلاثة أبناء وهم: علي وإبراهيم وإسماعيل([25])، وبعد مقتل حيدر على يد( فرخ يسار) أمير شيروان، اجتمع الشيوخ الصفويون في أردبيل (مركزهم الروحي) بصورة سرية وقرروا اختيار الشيخ (يار علي بن الشيخ حيدر) خلفاً لوالده([26]). على أن أخبار الاجتماع وصلت إلى سلطان (الآق قوينلو) يعقوب بن حسن الطويل فهاجمهم بصورة مفاجئة وألقى القبض على المجتمعين وبينهم أبناء الشيخ حيدر الثلاثة ووالدتهم حليمة حيث تم إبعادهم إلى قلعة (إصطخر) الواقعة في إقليم فارس جنوب إيران لسجنهم فيها([27]) حيث بقوا مسجونين هناك أربع سنين([28]).
$قيام الدولة العثمانية$
يذكر شرفخان ان نسب السلالة العثمانية ينتهي إلى السلطان الغازي عثمان، وان الأخير من سلالة إسرائيل بن سلجوق، الذي ينتهي نسبهم إلى الأسرة السلجوقية، التي كان لها شأن عظيم في العصر العباسي. ويشير شرفخان الى انه قد مضى على حكم الاسرة العثمانية ما يقارب ثلاثمائة وست عشرة سنة ، وفق ما سطره في كتابه الذي أرخه في سنة 1005ﮪ([29])
قيام الدولة الصفوية
بعد وفاة السلطان يعقوب بن حسن الطويل سنة 897ﮪ/1491م تم إطلاق سراح أبناء الشيخ حيدر الصفوي بشفاعة والدتهم لدى إبن أخيها رستم بن مقصود بك بن حسن الطويل الذي آلت إليه مقاليد الحكم في دولة الآق قوينلو (1492 – 1497 م) في رواية([30]). وفي رواية أخرى أن رستم بك بن مقصود بك أطلق سراحهم بسبب اندلاع الحرب الأهلية بين أمراء الآق قوينلو وأطلق رستم سراح أولاد الشيخ حيدر الصفوي المحبوسين وأرسلهم لمقاتلة (بايسنغر) انتقاما منه لمقتل أبيه مقصود بك بن حسن الطويل على يده([31]). حيث استقبل رستم أبناء الشيخ حيدر في تبريز وأكرم وفادتهم، ثم سيرهم لقتال بايسنغر في منطقة (آهر) وهناك هزموه وقتلوه سنة 898ﮪ /1492م.
ولما هدأ بال رستم بن مقصود بك من ناحية قلاقل وتمرد خصمه (بايسنغر) تولاه القلق بسبب القوة المتزايدة لسلطان علي بن حيدر الصفوي وفكر في قتله، ولكن السلطان علي بن حيدر أدرك نيته هذه ففر هو ومريدوه من جيشه، ولكن رستم أرسل في عقبه أحد قادته ومعه أربعة آلاف فارس حيث إلتقى بهم وجرت حرب شديدة بين الطرفين قاتل فيها الصفويون بشراسة، رغم عددهم القليل الذي لم يتجاوز السبعمائة رجل، حيث هزموا وقتل زعيمهم السلطان علي بن حيدر، ولكنه أوصى بخلافة أخيه إسماعيل قبل موته([32]). ويقال بأن السلطان علي قبل قتله نزع طاقيته من رأسه ووضعها على رأس أخيه (إسماعيل) الذي كان عمره يناهز الثمان سنوات([33]). وفر إسماعيل وإبراهيم إلى مدينتي جيلان ورشت القريبتان من بحر قزوين وظلا مختفين فيها فترة، وتواريا عن الأنظار فترة أخرى في مدينتي لاهجان ولشت نشا، حيث أقام إسماعيل في كيلان تحت حماية حاكمها (كاركيا ميرزا علي)، لكن أخاه إبراهيم عاد إلى أمه في أردبيل مسقط رأسه متخفياً في لباس مختلف، ولكن أعدائه قتلوه في الطريق سنة 900ﮪ /1495م([34]).
إن انتقال زعامة الصفويين إلى السلطان إسماعيل يعد من لدن المؤرخين نقطة تحول مهمة في الحركة الصفوية، وذلك لما أبداه السلطان من نشاط في توحيد دفة الحركة وقيادتها([35]). وفي الوقت نفسه فإن مقتل جنيد، ثم حيدر، ثم يار علي، ثم إبراهيم، أصبحت ملحمة أثارت حماس مريدي الطريقة الصفوية ودفعت الناس إلى نصرة الحركة والانتقام من قتلتهم([36]). حيث راجت إشاعات شيعية بين سكان منطقة كيلان رواجاً عظيماً بأن دورهم قد حان لإدارة البلاد والانتقام من أعدائهم، وأخذت صوفية لاهيجان وأنصار الصفويين من القزلباشية يزدادون يوماً بعد يوم([37]).
$بدايات الصراع العثماني الصفوي$
بدأ الشيخ إسماعيل الصفوي نشاطه العسكري في الولايات الشمالية من دولة الآق قوينلو، فقد استطاع أن يغلب خصمه (فرخ يسار) في قرية كلشان في ولاية شماخي الواقعة في منطقة القوقاز ويقتله، وفي بعدها استولى على مدينة (باكو) عاصمة جمهورية أذربيجان حالياً. ولما سمع (ألوند ميرزا) بهذه الأخبار اتحد مع سلطان مراد على أمل القضاء على إسماعيل، ولكن الأخير استطاع دحرهما في المعركة التي جرت بينهما في (شرور) قرب نخجوان أوائل سنة 907ﮪ/ 1501م وقتل فيها نحو سبعة آلاف من مقاتلي تركمان قبيلة (الآق قوينلو)، ولاذ ألوند ميرزا بالفرار إلى ديار بكر ومات فيها سنة 915ﮪ/ 1504م. وبعدها دخل إسماعيل الصفوي مدينة تبريز مظفراً وأعلن نفسه شاهاً(ملكاً) فيها عام 908ﮪ/ 1502م، واتخذ من المدينة عاصمة له، وبعد دخوله تبريز أمر بأن تقرأ الخطبة باسم الأئمة الإثني عشرية، وأن تسك على العملة عبارة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، وأقر مذهب الشيعة الإثني عشرية مذهباً رسمياً لدولته، وأسند منصب أمير الأمراء إلى”حسين بك شاملو”، والصدارة للقاضي” شمس الدين الكيلاني” الذي كان معلمه، وأسند منصب الوزارة للأمير” زكريا التبريزي”([38]).
$معركة جالديران في الشرفنامة$
في سنة 916ﮪ/1510-1511م شق السلطان سليم خان عصا الطاعة على والده السلطان(بايزيد) بدعم وتشجيع من عساكر الإنكشارية، وجيش (الروم إيلي)، ونتيجة لذلك حدث قتال بين الجانبين، أسفر عن هزيمة سليم خان الذي لاذ بالفرار. ولكن في سنة 918ﮪ/1512-1513م استقر رأي الوزراء وأركان الدولة العثمانية على خلع السلطان بايزيد، وتنصيب ابنه سليم خان سلطاناً للدولة، وتم لهم ذلك بعد جهود ومؤامرات أتت أكلها، ومات السلطان بايزيد كمدا وحزنا بعد يومين من خلعه، بعد أن حكم السلطنة اثتنين وثلاثين سنة([39]).
وكان السلطان سليم قبل تبوأ مقاليد الحكم عندما كان حاكماً لمقاطعة طرابزون الواقعة على البحر الأسود، وقد سببت حملاته العسكرية داخل أراضي الدولة الصفوية قلقاً عميقاً للشاه إسماعيل، وكانت بعض المصادر قد أشارت إلى أن السلطان سليم قد حصل على معلومات غاية في الأهمية حول مخططات الصفويين للسيطرة على الاجزاء الشرقية من آسيا الصغرى بواسطة التابعين القزلباش، لذا قام سليم بعملية إحصاء سرية لهم، ثم قام بعدها بمطاردتهم وقتل منهم حوالي 40000 رجل وفق بعض الروايات، وسجن الباقين. والآن أصبحت للسلطانين الصفوي والعثماني الذرائع لشن الحرب، ومما زاد الطين بلة، أن والي منطقة آمد ” ديار بكر” (محمد خان أستاوجلو) قد تحدى السلطان سليم خان بعبارات غير لائقة، مما أرغم الأخير للاستعداد للحرب. وفي شتاء 1513-1514م استعد السلطان سليم للحرب، وفي الربيع زحف شرقاً مع جيش قوامه أكثر من مائة ألف رجل، ولدى تقدمه باتجاه كردستان، أخلى محمد خان استاوجلو جميع الأراضي الخاضعة له من السكان، وأجبر جميع سكان النجد الارمني (هضبة كردستان الشمالية) على الذهاب إلى أذربيجان، وحرق كل ما يمكن الاستفادة منه، في محاولة منه لوضع حاجز لا يمكن عبوره بين أراضي الدولتين العثمانية والصفوية (= كردستان). ومع ذلك استطاع السلطان أن يمر، ويعود الفضل في ذلك إلى حوالي (60000 جمل) محملة بالمؤونة، وفي 23 آب – أغسطس1514م تقابل جيشا الإمبراطوريتين في سهل جالديران (= الشمال الشرقي من بحيرة وان) في معركة شديدة وحاسمة، أسفرت عن هزيمة ماحقة بالجيش ألصفوي، وقتل غالبية قادته، وجرح الشاه إسماعيل نفسه، وفر إلى منطقة دركزين- همدان، ووقعت نساؤه في الأسر، وتم توزيعهم من قبل السلطان سليم بين قادته العسكريين، واحتل الجيش العثماني مدينة تبريز العاصمة الصفوية. غير أن مشاكل لوجستية أجبرت الجيش العثماني على العودة إلى اسطنبول، فأعاد الشاه إسماعيل احتلال تبريز مرة أخرى، وأرجع سلطته إلى الأقاليم المجاورة([40]).
والغريب أن شرفخان أشار إلى معركة جالديران بصورة مقتضبة، تتنافى مع أهمية هذه المعركة وتأثيرها على جغرافية وتاريخ الكرد وكردستان، وما هي العوامل والأسباب التي أسهمت في اندلاع القتال بين الجانبين من مذهبية أو اقتصادية، وتداعياتها على أوضاع المنطقة من جميع النواحي، حيث يقول بهذا الصدد:” في سنة 920ﮪ/1514-1515م، في يوم الأحد الخامس عشر من المحرم جاء السلطان سليم خان إلى حدود أرزنجان بقصد الاستيلاء على إيران. ولما بلغ النبأ مسامع الشاه إسماعيل في أصفهان خف إلى أذربيجان بقصد قتاله ودفعه عن بلاده، فحدث ألمصاف بين الفريقين في موضع يقال له (جالديران) حيث دارت رحى معارك طاحنة قتل فيها أكثر أعيان القزلباش أمثال: الأمير عبد الباقي الصدر، والأمير سيد شريف، ومحمد كمونه(= نقيب السادات العلويين في بغداد)، وخان محمد استاجلو والي ديار بكر… ومعهم زهاء خمسة آلاف فارسي، مما أفضى إلى اندحار جيش القز لباش اندحارا تاما، ولاذ الشاه إسماعيل بالفرار لا يلوي على شيء حتى بلغ درجزين وهمدان، وأعقب ذلك دخول السلطان سليم خان دار السلطنة(= العاصمة) تبريز، وإقامته فيها عدة أيام، ثم غادرها بسبب قلة المؤن وانتشار المجاعة في أطرافها إلى دار السلطنة القسطنطينية… ولقد عاد الشاه من درجزين إلى تبريز بعد رحيل السلطان سليم خان وأمضى الشتاء بها…” ([41]).
وهناك تناقض آخر وقع فيه مؤرخنا الجليل، وهو انه أشار بأن السلطان قد تحرك سنة 922ﮪ/1516-1517م بقصد التوجه إلى إيران والاستيلاء عليها، ولكنه يذكر بعدها مباشرة بأنه أرسل وفداً إلى السلطان المملوكي في مصر(قانصوه الغوري)، وبعدها واصل موكبه السلطاني إلى البلاد العربية([42]).
ومن الجدير بالذكر أن الباحث الهولندي (بروينسن) تطرق في بحث له إلى أن الشرفنامة تطرقت إلى تعيين ( بيقلي محمد) بصفته بيكلربيكي كردستان( حاكم ديار بكر)([43])، وعند المراجعة تبين أن الشرفنامة لم تتطرق إلى الأمر البتة.
$الخاتمة والاستنتاجات$
تبين مما سبق ان شرفخان لم يحاول بيان الاسباب الحقيقية للصراع العثماني – الصفوي، ونتائج وتجليات هذا الصراع على مجمل الاوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على الكرد وكردستان، بعكس ما أورده بخصوص الاوزبك والأفغانيين والفرس، حيث ذكر أمورا على جانب كبير من الأهمية، ربما لم تتطرق إليها المصادر الأخرى، أو أشارت إليها بصورة مقتضبة، لذا فان البحث في ماهية الصراع وإدراك آليتها يتعين على الباحث مراجعة مصادر اخرى مثل : تاريخ (فان هومر) الذي اعتمد على مصادر عثمانية وإيرانية في الكشف عن جوانب وآليات الصراع العثماني – الصفوي.
ومن جانب آخر فان شرفخان كان يهاجم الصفويين بصورة غير مباشرة من خلال كلامه عنه ” تم قتل القزلباش”، وهذا دليل على انه كان يهاجمهم تلميحا لا تصريحا.
أما بخصوص المعاهدة أو الاتفاقية التي عقدها الحكيم مولانا ادريس البدليسي مع السلطان سليم، بخصوص منح الحكم الذاتي (= الفيدرالية بالمفهوم المعاصر) للأمراء الكرد، والتي أصبحت سارية المفعول لمدة تقارب الأربعة قرون على النحو الذي بديء العمل به في العام 1515م قائماً مع بعض التعديلات فقط، وكان ذلك انجازاً للحكيم ( ادريس البدليسي) الذي كان السلطان سليم قد منحه سلطات مطلقة، فعين الأمراء الكرد الذين كانوا قد تعاونوا مع الدولة العثمانية في معركة جالديران وبعدها-ولاة وراثيين في مناطقهم- وهو إجراء غير معتاد في الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت هذه المناصب تعهد إلى القادة العسكريين، حسب تعبير مارتن بروينسن([44])، واستمرت الأمور تسير على هذه الطريقة ؛ إلا أن اصدر السلطان محمود الثاني قراره بفرض مركزية الدولة على الأمارات الكردية في منتصف عقد الثلاثينات من القرن التاسع عشر، وإنهاء سلطتها ونفوذها، التي نشأت في أعقاب اتفاقية ادريس – سليم.
[1] ) راجر سيفرى: ئيرانى سةردةمى سه فه وى، وه ركيَراني سه لاحه ددين ئاشتي، بنكه ى زين، سليمانى، 2006، ب ث34.
2) شرفنامه في تاريخ سلاطين آل عثمان ومعاصريهم من حكام إيران وتوران، ترجمه الى اللغة العربية محمد علي عوني، راجعه وقدم له يحيى الخشاب، ط2(دمشق: دار الزمان،2006) ، ج2، ص103.
[3] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، دار الأندلس، بيروت، ط3، 1982م، ص353.
[4] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص353، هامش 5.
[5] ) راجر سيفرى: ئيرانى سةردةمى سه فه و ى، ب ث34-35.
[6] ) رغم كردية هذه الاسرة؛ فإنها مع ذلك قامت بارتكاب مجازر فظيعة بحق شعبها الكردي، لاسيما في عهود الشاهات: اسماعيل الصفوي، وابنه طهماسب، وحفيده عباس الاول، حيث لو لا جرائمهم (قتلوا عام) التي توضع في خانة (الجينوسايد) لكانت الآن كردستان الشرقية أكبر مما هي عليه الآن.
[7] ) شرفنامه، ج2، ص103.
[8] ) سورة المائدة، الآية: 67.
[9] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، نقلاً عن صفوة الصفا، ص335-358.
[10] ) سورة آل عمران، الآية: 7.
[11] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، نقلاً عن صفوة الصفا، ص140،152.
[12] ) محمد وصفي أبو مغلي: إيران دراسة عامة، ص244.
[13] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص356، نقلاً عن مجالس المؤمنين.
[14] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص357، نقلاً عن مجالس المؤمنين
[15] ) محمد وصفي أبو مغلي: إيران دراسة عامة، ص244.
[16] ) كامل مصطفى الشيبي: الطريقة الصفوية ورواسبها في العراق المعاصر، مكتبة النهضة، بغداد، 1967م، ص22.
[17] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص358، نقلاً عن حسين بن مير زاده زاهدي: سلسلة النسب الصفوية، برلين، 1943م، ورقة 34 أ ب.
[18] ) الضوء اللامع، ج6، ص30.
[19] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص359-360.
[20] ) إدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران من السعدي إلى الجامي، نقله إلى الفارسية: علي أصغر حكمت، نقله إلى العربية: محمد علاء الدين منصور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005م، ج3، ص426.
[21] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص360-361.
[22] ) كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص494؛ هيوار Cl. Heart: دائرة المعارف الإسلامية، مادة حيدر (الشيخ)، مج 8 ص157. حيث يحدد سنة مقتل حيدر ب 1456م.
[23] ) نو شيروان مصطفى: الكرد والعجم، ترجمة حمه صالح كلالي، مجلة به يفين، القسم الأول، ص10.
[24] ) كامل مصطفى الشيبي: الطريقة الصفوية، ص15.
[25] ) عباس إقبال: تاريخ إيران بعد الإسلام، نقله عن الفارسية وقدم له وعلق عليه محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر، القاهرة 1410ﮪ-1990م، ص640.
[26] ) غياث الدين بن همام الدين، خواندمير: تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، ج4، ص435.
[27] ) أحمد غفوري قزويني كاشاني: تاريخ نكارستان، تهران، ص362.
[28] ) شرفخان: شرفنامه، ج2، ص104-105؛ عباس العزاوي: تاريخ العراق بين إحتلالين، ج3 ص270.
[29] ) شرفخان البدليسي: شرفنامه، ج2، ص15.
[30] ) خواندمير: تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، ج4، ص492.
[31] ) محمد وصفي أبو مغلي: إيران دراسة عامة، ص245.
[32] ) إدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران، ج3 ص459.
[33] ) نو شيروان مصطفى: الكرد والعجم، ترجمة حمه صالح كلالي، مجلة بةيفين، القسم الأول، ص10.
[34] ) محمد وصفي أبو مغلي: إيران دراسة عامة، ص245.
[35] ) عماد ألجواهري: صراع القوى السياسية في المشرق العربي، ص52.
[36] ) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، ص365.
[37] ) إدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران، ج3 ص459.
[38] ) شرفخان البدلييسي: شرفنامه، ج2، ص105.
[39] ) شرفخان البدلييسي: شرفنامه، ج2، ص 114 – 115.
[40] ) عباس إسماعيل صباغ: تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية (بيروت: دار النفائس،1420ﮪ/1999م)، ص 94؛ مارتن فان بروينسن: الآغا والشيخ والدولة البنى الاجتماعية والسياسية لكردستان، ترجمة أمجد حسين (بغداد – اربيل – بيروت: معهد الدراسات الإستراتجية، 2007)، ج1، ص302-303.
[41] ) شرفخان البدلييسي: شرفنامه، ج2، ص119-120.
[42] ) شرفخان البدلييسي: شرفنامه، ج2، ص121.
[43] ) الآغا والشيخ والدولة، ج1، ص305-306.
[44] ) المرجع نفسه، ج1، ص306-307..[1]